كيف احتلوا قري الشمال

كيف احتلوا قري الشمال

كيف احتلوا قري الشمال  | موسوعة القرى الفلسطينية


بداية اكتب عن احداث عشتها ورأيتها بأم عيني وليست من نسيج الخيال حيث كنت اسكن وعائلتي في قرية النهر على طريق نهاريا ترشيحا، واليوم تسمى بن عامي) ومن لا يعرف، فقرية النهر سميت بهذا الاسم لوجود نبع ماء كبير يسمى «نهر المفشوخ» ينبع من اراضيها وكان يروي اراضي القرية واراضي قرية ام الفرج، وعلى امتداد الأرض حتى نهاريا ويروي السكان من القرى المجاورة مع مواشيهم. قرية النهر اشتهرت ببساتينها الخضراء وأراضيها

الخصبة ومحاصيلها من الحمضيات والفواكه، وقسم من اراضيها بالزيتون والخضراوات على أشكالها والحبوب أيضا فكانت جنة قضاء عكا. ومع أن عدد سكانها لا يتجاوز أربعمائة مواطن يملكون قسما كبيرا أراضيها، عائلات الشاذلي وسعيد ابو خير ومباركي وموسی وعبده والباقي، لعائلات لا تسكن القرية مثل عائلات عفيفي وقطران وعبده وفضة من عكا فكان فيها الخير الوفير لأهلها ولمن جاورها . كذلك فيها أربع مطاحن للحبوب التي تعمل بالمياه وكانت تخدم كل اهل

القرى المجاورة وفيها معصرة للزيتون. بيوت القرية القديمة والحديثة وموقعها الجميل ومياهها وبساتينها المتشابكة كانت جنة خضراء وكما شبهها أحد ثوار فلسطين في الثلاثينات، ببساتين الشام حيث لم يستطع عسكر الانكليز ملاحقة الثوار في داخلها .

شاركت القرية في ثورة سنة ۱۹۳۹ وفي نضالات الشعب الفلسطيني ضد الاستعمار البريطاني ومنها تخریب شارع ترشيحا نهاريا ، وفي ليلة واحدة لمنع الدوريات البريطانية من العبور وبعدها بأيام صادف حلول ذكرى يوم عيد رمضان وفي صباح يوم العبد أفاق أهالي النهر والقرى المجاورة وهم مطوقون من عساكر الانكليز الذين قاموا بالاعتداء على الأهالي ولا أنسى ما دمت حيا كيف إعتدوا على المرحوم صالح مبارکي ومحمد نايف ذياب وأرغموهم على التعري وجلدوهم بالسوط بعد إدخاله في أقفيتهم وكانت الدماء تسيل من أجسادهم. ومن القوا القبض عليهم من الأهالي أرغموهم على تصليح الشارع المذكور تحت الضرب والإذلال وساقوهم الى قرية ترشيحا وحجزهم في كراج للباصات وعندها كانت نخوة نساء شعبنا من أهالي معليا وترشيحا باحضار الماء والاكل والدخان العربي للمعتقلين واطلق سراحهم فيما بعد وسجن

البعض في سجون الانكليز . ومع بدء الحرب العالمية الثانية توقفت الثورة التي قامت للدفاع عن الأرض والوطن وتعاون الخونة والوشاة مع الانكليز وأصبح الثوار مطاردين فلجأ قسم منهم الى لبنان وكان والدي أحدهم وقسم أختفى حتى هدأت الأمور فعادوا الى عائلاتهم. وكان قرار التقسيم الجائر، والحق يقال بأن الشيوخيين الوحيدين في فلسطين الذين شعروا بهول المؤامرة على شعبنا فعملوا ما استطاعوا حتى يبقى ما يمكن من العرب في الوطن وعدم الرحيل، وقبول قرار التقسيم بالرغم من المذابح التي ارتكبت من قبل القوات

الصهيونية المدربة والمجهزة. وقد بدأت الاعتداءات الصهيونية في شمال فلسطين وقام اليهود بالسلك ليلا الى قرية الكابري المجاورة لقرية النهر ونسفوا بيتا في طرف القرية، وأطلقوا الرصاص على باص خط ترشيحا عكا شرق الكبري فأصيب السائق وقسم من الركاب، وبأعجوبة وصلوا الى قرية الكابري حيث تم إسعاف الركاب الجرحى. اختطفوا شخصا من ام الفرج لأخذ معلومات منه وأطلقوا سراحه فيما بعد ووضعوا لغما في معبر طريق ترابي قتل فيه المرحوم صالح بدیعة، من قرية النهر، ووضع لغم ثان في طريق ترابي تمر منه السيارات المغادرة الى لبنان شرق نهاريا فانفجر فيه باص للركاب وقتل جميع الركاب. وبعد هذه الاعتداءات المتكررة دخلت قوة صغيرة

من الجيش العربي الأردني بقيادة ضابط بريطاني مع سيارة جيب تحمل لاسلكي وتمركزت في قرية الكابري على ما أذكر في اواسط نیسان سنة 1948. وبعد

أيام انتشر على طول الطريق وعلى بعد مسافات أفراد من هذه القوة لإستقبال سيارة ضابط بريطاني من معسكر قرب نهاريا يسمى جبال اللوز لبعض الوقت وبعدها بأيام وصل مختار القرية رسالة من القيادة في الكابري تعلمه بأن طائرة بريطانية ستقوم بالتحليق في المنطقة في اليوم التالي ويمنع اطلاق الرصاص عليها وبالفعل حلقت الطائرة لبعض الوقت على علو منخفض فوق البساتين والسهول وعلى ما يبدو كانت تقوم بتصوير المنطقة لاحتلالها فيما بعد من قبل اليهود . وبعدها بأيام معدودة جاء عدد من الجنود وتسلقوا أسطح القرية للاستطلاع ولاول مرة أسمع أحد الجنود يقول بأن جلالة الملك عبد الله برید ترحيلهم فلم يفهم الأهالي ولم يعوا ما يقول وبعدها بعدة أيام كانت تمر قافلة يهودية مصفحة محملة بالذخائر والوقود والمؤن والرجال متجهة الى قلعة (جدين) المسماة (يحبعام) وكانت قد بیعت لليهود سابقا من قبل أحد اغنياء عكا يدعي حبيب حوا فاشتبكت معها القوة العربية قرب الكابري وتم القضاء تقريبا على أفراد القافلة واستطاع قسم الهرب عبر السهول واشتعلت النيران في جميع سيارات القافلة فتدخل الجيش البريطاني الرابط قرب قرية السميرية في معسكر قريب وأرسل عدة مجنزرات قامت باطلاق النار في الهواء قرب المعركة. والغريب ان الجنود الانكليز كانوا يحيون العرب برفع قبعاتهم وعند المساء أطلقت المدفعية من نفس المعسكر على مكان

المعركة بحجة فك الاشتباك. وبعد المعركة بأسبوع فوجئنا بجندي مبعوث من القيادة مسرعا ويسأل عن المختار ليبلغه بأن صدرت الأوامر بالانسحاب ويوجد في وادي القرن شمال الكابري قوة كبيرة من اليهود ستهاجم المنطقة وعلى الأهالي تدبر امورهم، فدب الذعر في الأهالي من القرى الكابري والفابسية والشيخ داوود والشيخ دنون والنهر والتل وام الفرج فهربوا في وضح النهار حاملین ما أمكن من أمتعتهم على الدواب او راحلين مع عائلاتهم الى لبنان وبقي قسم قليل من الأهالي في القرى المذكورة.

لم تهاجم القرى ولكن هوجمت قرى الزيب والبصة والقرى المحاذية للحدود اللبنانية وفي نفس اليوم أحتلت السميرية، وبدأ نسف القرية مباشرة. وفي أواخر ایار فوجئنا مع طلوع الفجر بأطلاق نار

كثيف في الكابري من قبل اليهود وإحتلالها وبدأ نسف بيوت الكابري مباشرة، والإلتفاف على الفابسية فدخلوها من جهة الشمال والغرب وما تبقى من أهالي الفابسية رفعوا العلم الأبيض على قبة المسجد فاطلقوا النار على رافع العلم من عائلة الزيني فأردوه قتيلا ، وقاموا بقتل رجل مسن مع أثنين من اولاده من عائلة أسعد المحمود ، وعندما هرب من تبقى من أهل القرية الى الجبال المجاورة وما تبقى من أهل النهر المسنين والعجزة والأطفال والنساء رفعوا الرايات البيضاء فدخل اليهود القرية وأطلقوا النار على كل من صادفوه فقتلوا العجزة الذين لم يستطيعوا الهرب، وأذكر منهم محمد عبد العال ومحمد الراغب ومحمد الطملاوي، وشخص من عائلة أبو الخير واعتلوا التل المطل على البساتين وأطلقوا النار على الناس الهاربين فقتل طفل عمره سنة ونصف السنة، على حضن اخته سهام علي مباركي التي ما زالت تعيش في ابو سنان اليوم، لم تنسى ذلك منذ خمسين عاما الى يومنا هذا . وبهذا أحتلت كل المنطقة الشمالية وبعدها أحتلت باقي القرى العربية کوریکات وعمقا إضافة الى القرى التي ذكرت سابقا ودمرت تدميرا كاملا و شجر من بقي من أهاليها الى القرى المجاورة التي بقي اهلها فيها الى يومنا هذا واصبحنا لاجئين في أرض الوطن حسب قانون جائر، حاضرین غائبين، القانون الذي لا يوجد مثيلا له في كل انحاء المعمورة يحرمنا من الرجوع الى قرانا وأملاكنا التي لا ننساها مهما طال الزمان . الكاتب من قرية النهر يسكن في ابو سنان حاليا

صحيفة الإتحاد, 1 الفلسطينية  تشرين الثاني 1998