قرية الجش... من ميلاد الحُدود والحِداد

قرية الجش... من ميلاد الحُدود والحِداد

قرية الجش... من ميلاد الحُدود والحِداد  | موسوعة القرى الفلسطينية

الجِش أو الجُش بضم الجيم، قرية حملت وجعها منذ مَغيب ذلك اليوم الذي غيّبَ نصف أهلها عنها، لتبقى مغلوبة بين تلال أعالي الجليل، إلى أن تكورت "الجُش على نفسها مثل العُش" كما قال عنها العماد الأصفهاني، يوم أن مر بها في زمن الحروب الصليبية(1).

إلى الشمال الغربي على بعد 13 كم من مدينة صفد المهجرة، ما تزال الجش رغم نكبتها باقية تعتلي تل العنقور الذي تُطل منه شرقا على واديها، وادي الجش القادر على ابتلاع جيوش؛ ومن شرق الواد كانت تقع قرية الرأس الأحمر المهجرة، ثم أراضي دلّاتا وقديتا المهجرتين.

أما غربًا، فكانت تحد الجش قرية سعسع، فيما يفصل وادي ناصر الجش عن أراضي كفر برعم شمالا، حيث درب المتاولة(2)، ممر الجشيين إلى القرى العاملية في جنوبي لبنان، من رميّش ومارون الراس إلى دِبل وعين إبل. أما جنوبًا، فتحدها بيت جن والصفصاف المنكوبة، ويفصلهما عن الجش خِربتي الزابود والحميمة في سفوح الجرمق.

قيل في اسمها الجش أو الجُش، أي النجفة أو الرابية بمعنى التلة؛ وهذا اسمها الذي صارت عليه مع الفتح العربي - الإسلامي لبلاد الشام. وعُرفت في زمن الكنعانيين باسم "أحلب". ومع غزو القبائل العبرانية للبلاد قبل الميلاد، جرى تحريف تسمية أحلب الكنعانية إلى "جوش حالاف" أي التلة البيضاء(3). ومن أهل القرية من ظل يسميها إلى ما بعد عام النكبة باسم "جِش الحليب"(4)، غير أن الاسم الذي اشتهرت به الجِش في زمن الرومان هو "جسكالا"، وقد أرخ لها حديثا بعض أبناءها المُهجرين باسمها الروماني هذا.

لطبيعة الجش وتشكيلها الجغرافي سطوة جعلتها تعيش على حد وهاد وديانها السحيقة، قبل أن تصير قرية حدودية حديثًا مع الاستعمار البريطاني للبلاد؛ إذ تنهش بطوف تلالها وجبالها المغاور والكهوف، ومنقوش على حيطانها حكاية أول جِشيّ خلع نعلّيه فيها منذ زمن القرية الغابر وعزها الداثر. كما ظلت الجش مطرزة بزيتونها الرومي المُسّن، والذي يُقال إن "يوحنا الجِشي" كان أول غارس له وحارس عليه في زمن الرومان، إلى أن ذاع صيت زيت خوابيها. فقيل في التلمود الأورشليمي: "يأكلون التمور حتى تنفذ من أريحا، ويأكلون الزيت حتى ينفذ من الجش".

لم يكن يوحنا الجِشّي جشّيا تعتز به ذاكرة الجشّيين العرب. بحسب الحكاية، فهو قاطع طريق من عهد الرومان، داهم جسكالا - الجش في ليلة معتمة وباردة ومعه فرقة من اللصوص العبرانيين، أطلق عليها اسم عصابة "الخنجر تحت العباءة"(5). كان يوحنا ورفاقه أول عصابة تسطو على الجش، لكنها ليست الأخيرة. فقد استيقظ اسم يوحنا مجددا في ذاكرة أهل الجش بعد عام النكبة بعامين، سنة ،1950 مع محاولة ترحيل من تبقى من أهالي الجش العرب، في مؤامرة سمّاها الصهاينة "عملية يوحنا" تيّمنًا بيوحنا الجشي.

صورة يُعتقد أنها لقبر يوحنا الجشي (الأرشيف الإسرائيلي)

في عِصي النواطير على الكروم والشواغير تسكن ذاكرة الجش، وفي غِلال القمح والشعير من سهل النمّورة إلى حيث بيادر الحَب والحُب. مَن مِن الجشيين لا يعرف وعرة النمورة؟ فما من عُرسٍ أحيته القرية لأحد أبناءها، إلا وغنّا الجشيون لها على وزن الدلعونا بيتا مطلعهُ:

وغابت الشمس عن النمّورة

وشتت الدنيا وفاضت لنهورا(6)

التشكيل الاجتماعي

نشأت الجش الحديثة في ظل الحكم العثماني للبلاد كقرية عربية - درزبة، وبحسب رواية الرحالة التركي أوليا شلبي، الذي مر بالقرية سنة 1672، فإن جميع سكانها كانوا من الدروز في حينه. وتحولت تدريجيا منذ أواخر القرن السابع عشر إلى قرية مختلطة يسكنها مسيحيون ومسلمون عرب، إلى أن لم يبق فيها درزيا واحدا، ودون أن تقول لنا المصادر أسباب ترك أهلها الدروز لها.

يُحيل الباحث مصطفى عباسي ترك الدروز لجِشّهم، إلى ضعف حكم الأسرة المعنية - نسبةً إلى الأمير فخر الدين المعني الثاني (1590 – 1635) - وكانت أُسرة درزية المذهب، حيث حكمت لبنان والجليل معه. وقد نزح بعض السكان الدروز عن قراهم في الجليل في تلك الفترة بما فيها الجش، بعد أن باعوا أراضيهم فيها لمسيحيي القرية ومسلميها على أقساط. ويُقال إن مشايخ الدروز قد تنازلوا لأهل الجش عن آخر قسط من ثمن أراضيهم إكرامًا لهم(7).

عاش مسيحيو ومسلمو الجش منذ مطلع القرن الثامن عشر عربا، متغافرين لا متخافرين، في حارتين ظلت محكومة تسميتهما لاعتبارات الجهة والجغرافيا وليس للدين أو المذهب، الحارة الغربية والحارة الشرقية؛
 
علمًا بأن الغربية سكنها المسيحيون من موارنة وكاثوليك، فيما توطن مسلمو القرية الحي الشرقي. لم ينقسموا يومًا، ولم يقسموا بينهم غير رغيفهم.

رغم ضراوة تلال الجش وشراسة جبالها، إلا أن الجشّيين قد طوّعوها للزرع خلف سكك حرث ثيرانهم. في كَد ظلت تُذّكر به زغاريد النساء الجشّيات:

آويها: شباب الجش يا نمل السجر (الشجر)

آويها: يا ساحبين المال من تحت الحجر... (8)

فلاحين وزرّاع، ومنهم حرفيين وصُنّاع، ولمحالج غزل الصوف والقطن، وميابر شك التبغ والتُتن، حكاية تطول في الجش؛ خصوصًا الدخان الذي ظلت زراعته واحدة من مظاهر التحايل والتمرد على السلطات منذ زمن تركيا. فقد اتقن الجشيون شتله وشكه، ثم فرمه للحد الذي لم يُعرف فيه عن جِشّي إلا واسودت رؤوس أصابعه منه. واشتهر التبغ المشتول في الجش في أنحاء الجليل وجبال عامل، وعُرف بالتبغ الجِشّي(9).

كما ربّا الجشيون البقر الجِشي، وقد ذكره الرحالة الذين مروا بالقرية غير مرة. والأهم، هو في أن الجِشّيين كانوا معّازين، فقطعان ماعز آل الخلايلة ظلت مضرب مثل طوال القرن التاسع عشر، إلى حد أنها كانت تصبغ جبال الجش بسوادها. كما يتذكر الجشّيون، حين غادرت قطعان ماعز دار أبو زينب أحواشها، خلف أصحابها المُقتَلعين إلى لبنان يوم سقوط الجش في عام النكبة(10).

على روابط العصب وأواصر النسب وبعرق الكد والتعب، بنّا الجشّيون الجِشّ قرية كامنة وآمنة كانت، دون أن يزلَّ الدهر معها إلى أن هزّها الزلزال.

زلزال 1837

كان ذلك في نهاية كانون الأول/ ديسمبر وتحديدًا في اليوم الأخير من سنة 1837، حيث غامت سماء بعد ظهر ذلك اليوم بسحُبٍ حمراء حَجبت قُرص الشمس على غير العادة، مما أخاف أهالي القرية والبلاد كلها. ثم بدأت الأرض بالاهتزاز فتداعت بعض بيوت القرية، ما دب الرعب وصيّحات الفزع بين أهالي الجش وقضاء صفد عموما.

ثم جاءت هزة قوية خسفت أجزاء في الناحية الشرقية من الجش، وما زال ذلك الخسف قائمًا إلى يومنا هذا يسمّيه الجشيون "المخسوفة". في كتابه "الأرض والكتاب" وصف الدكتور تومسون الذي مر بالجش بعد يوم واحد من وقوع كارثة الزلزال فيها. وأشار إلى معظم الضحايا في القرية من أهلها المسيحيين، فقد وقع سقف كنيسة القرية على رؤوس كل من كان فيها من مُصلّي رأس السنة الميلادية(11). ولم ينجُ من بينهم سوى كاهن الكنيسة وطفل صغير من عائلة شقير.

جاء الزلزال على نصف أهالي الجش، فقد تجاوز عدد ضحاياه 135 من أبناء وبنات القرية، فخوت القرية على عروشها، بعد أن تركها الناجين من الهزة فارين من بين بيوتهم المركومة إلى المغاور والكهوف، ومنهم من لم يعد للجش أصلا، فأفراد عائلة "الجِشّي" في قرى مثل ترشيحا وسحماتا، وعين إبل اللبنانية، هم نازحون من الجش على إثر الزلزال.

تناقلت الروايات الشفوية عملية دفن ضحايا الكنيسة في قبرٍ جماعي في إحدى مغاور السفوح الغربية من القرية، بقرب بيوت آل نجم(12)، غير أن نجاة كاهن الكنيسة ومعه طفل عائلة شقير، ظلت تحمل إشارة ترمز لذاكرة الحِداد والميلاد معًا، فنجاة كاهن مُسن هي نجاةٌ للذاكرة تشبهُ إفلات مكتبة من الحريق، وكذلك الطفل الذي مثلت نجاته الميلاد والولادة والحياة في الجِشّ.

سنوات طويلة مضت على الجش إلى أن فك أهلها حدادهم، ولملموا جِراحهم وحجار بيوتهم التي قلبها فعل الزمان والزلزال من تحت قوادم الجوارح والنسور إلى تحت حوافر الحمير والدواب. مع ذلك، لم يكن قبر ضحايا الكنيسة الجماعي، القبر الجماعي الأخير في تاريخ الجش والجشيين!

ذاكرة والهذلان والخِذلان

في أواخر القرن التاسع عشر وتحديدا في سنة 1886، أصدر الأتراك قانون التجنيد الإلزامي، ولم يفلت أبناء الجش منه، فقد سيق من القرية شبابا لا يزال مصيرهم مجهولا إلى يوم الناس هذا. كما طالت الجش في هذه الآونة هبّات من الريح أو "الهوا الأصفر" (الكوليرا) التي فتكت بعائلات بأكملها من أهالي القرية. فمقبرة "آل بليبل" كانت تضم في تحويطتها المبنية من الحجر البركاني الأسود، قبور كافة أفراد العائلة الذين قضوا بالهوا الأصفر(13).

في أيلول/ سبتمبر سنة 1901، كان الشاعر الشعبي الجِشي وحادي القرية، خليل أحمد سعد، المشهور بلقب "المكنّى" يطوف الجش مرددًا ومواسيًا أهلها في ردة زجل مطلعها :

حنا يا بنات عجيل حنا عجيل الصفدية

عادتنا بنرد الخيل بسيوفنا الهندية

إجا الهدلان الوافي تيشرع بالإنصافِ

لاقي البلد متكافي فيها العمّالات كثار

كان الهذلان مرض خبيث جاء على ثيران وأبقار القرية كُلها، للحد الذي لم يبق فيه عجلا يجأر في بيوت الجش، والعمّالات هي ثيران الحَرث. ظل الحادي "المكنّى" يلف القرية من بيتٍ إلى آخر، مذكرًا باسم كل بقرة فقدها صاحبها في قصيدة طويلة تغلب فيها الشماتة المبطنة على حس الأسى والمواساة. أما عن الهذلان المرض، فيقال إنه لم يترك القرية إلا بعد أن أطعم كل أهل الجش لحم كل أبقارهم(14).

ثم كانت الحرب العالمية الأولى، وفيها ما فيها من التجنيد الإلزامي (السفر برلك) والمرض والجوع ثم الجراد، الذي دفع بالجِشيين وباقي العباد إلى أكل لحاء الشجر. وعلى أثر ملمات الحرب بدأت ظاهرة هجرة الشباب من الجش وغيرها من قرى الجليل إلى العالم الجديد، وتحديدا إلى الأرجنتين، وللجيشيين مع الأرجنتين حكاية أخرى تطول.

انتهت الحرب وانكسرت تركيا، وحل الإنجليز مستعمرون البلاد، ليبدأ فصل آخر ظلت تجيش به ذاكرة الجش وأهلها. فقد رمت القرية بلحم شبابها على نار الثورة الكبرى (1936 – 1939) ضد الإنجليز. وامتهن الجشيون التهريب، الدخان والسلاح، بعد أن حوّلهم الاستعمار البريطاني إلى "أهل حدود". كما قاتلوا من معركة وادي العروس - عند بحرة الحولة - مرورًا بمعركة جرن حلاوة، وصولا إلى معركة الجرمق. فمنهم من تولّى شهيد ومنهم ولّى شريد، وفيهم من ظل جريح، يصيحُ له الحدائون والشُعراء أبيات عتابا البطولة والمجد.

كما انقسمت الجش على نفسها خلال الثورة انقسامًا حمائليًا وليس طائفيًا، كاد أن يجعل من الجِشّ جِشّين وجيشين. غير أن الجِشّ كعادتها ظلت تخيطُ جراحها مستأنفة صفحة الصلح والصفح. خصوصا وأن ما تُعرف بـ"الكَبة" كانت على الأبواب.

الكَبّة (النكبة) والأرجنتين

الجش باقية إلى يومنا، غير أنها قرية مهجرٌ نصف أهلها، كما نزح إليها بعد النكبة نصف سكان قرية أخرى هم البراعمة (كفر برعم) وغيرها.

في رسالة تعود إلى تاريخ 3/5/1950 موجهة من عائلة آل علم الجِشّية إلى المستشار للشؤون العربية في ظل الحكم العسكري، طالبت العائلة المستشار بإعطائهم أرض بديلة عن أرضهم في الجش التي حوّلها الصهاينة إلى مقبرة جماعية، بعد أن دفنوا فيها أكثر من مئة جثة لشهداء وضحايا نكبة الجش في سنة 1948(15).

كانت ملكية الأرض ضمن قسيمة رقم 1 بلوك رقم 14108، تعود ملكيتها في أيامنا إلى مارون بن الخوري يوسف علم. لم تستجب سلطات الحكم العسكري لطلب آل علم في حينه، غير أن إمام مسجد الجش تكفل وتمكن لاحقًا من نقل رفاة الشهداء إلى المقبرة الإسلامية(16)؛ منهم شهداء من متطوعي جيش الإنقاذ، ومن بينهم أكثر من 25 وشهيدة وشهيد من أبناء وبنات الجش، مسلمين ومسيحيين.

سقطت الجش بأيدي العصابات الصهيونية، بعد أن هاجمتها في مساء يوم 28 تشرين الأول/ أكتوبر 1948، وانتهى الهجوم في فجر اليوم التالي، وذلك ضمن عملية أطلق عليها الصهاينة اسم "عملية حيرام". فيما كان يُطلق الجشيون على ذلك اليوم وتلك الأحداث "الكبّة" أي الطرد، فقالوا "يوم أن كبّنا اليهود" أي طردونا. كان سقوط الجش بعد مقاومة ضارية أبداها بعض أهالي القرية ومعهم فرقة من جيش الإنقاذ التي تمركزت في الجش يومها.

هُجر أكثر من نصف أهالي الجش، الذين يُقدر عددهم ما يقارب 600 شخص، منهم معظم مسلمي القرية، ونصف مسيحييها، وبقي في القرية ما يقارب 500 شخص، بعد تدخل شمّاس الكنيسة وتوسطه لدى الحكم الجدد للبلاد من أجل الإبقاء على رعاياه من أبناء الجش. وكان من بين شهداء القرية ضحايا قتلهم الصهاينة وهم آمنين داخل بيوتهم، مثل أبناء عائلتي السنداوي وزيدان(17).

بعد النكبة، استيقظت الجش على خُطة حاول الصهاينة من خلالها ما بين سنتي 1950 - 1952 ترحيل قسم من مسيحيي القرية إلى الأرجنتين، أُطلق عليها اسم "مفتساع يوحنان" (عملية يوحنان) نسبة إلى يوحنا الجِشي العبراني. وهي خُطة كانت جزءًا من مخطط شامل لترحيل مسيحيي قرى الجليل الحدودية. وقد زار القنصل الأرجنتيني في تل أبيب قرية الجش فعلا في صباح يوم 23/3/1951(18).

فشل مخطط ترحيل الجِشيين إلى الأرجنتين، لأسباب لم تتضح، وربما لتراجع العائلات المسيحية الجِشية التي أبدت استعدادًا للهجرة عن موقفها. في الأخير، ظل من ظلوا من الجِشيين في الجِش، ولم يبق من كل حكاية الأرجنتين، غير بيت دلعونا ظل يردده أهالي القرية طوال عقود طوت، يقول مطلعه:

بابور البحر رابط ع المينا بدو يودينا ع الأرجنتينا

رابط المقال الأصلي: https://www.arab48.com/%D9%85%D8%AD%D9%84%D9%8A%D8%A7%D8%AA/%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D8%B3%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D8%AA%D9%82%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%B1/2022/12/30/%D9%82%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%B4-%D9%85%D9%86-%D9%85%D9%8A%D9%84%D8%A7%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AF%D9%88%D8%AF-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%AF%D8%A7%D8%AF