عتليت الأرض والذاكرة
كتب د. محمد عقل في مقال له نُشِرَ في موقع عرب 48 في 16-4-2018:
عتليت قرية عربية مهجرة تقع على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، وعلى تل من الكركار ارتفاعه 25 مترًا عن سطح البحر. وهي تبعد عن مدينة حيفا 12 كيلو مترًا إلى الجنوب الغربي.
تدل المكتشفات الأثرية على أن المكان كان مأهولا منذ أقدم العصور، وكان فيه ميناء فينيقي حيث وجدت فيه مقبرة فينيقية. ورغم أن فيها آثار تعود إلى العهدين اليوناني والروماني إلا أن أحدًا لا يعلم لماذا سميت بهذا الاسم، والباحثون يعولون على الاسم العربي وهو عتليت، أو عثليث كما في المصادر العربية القديمة. وعثل في اللغة العربية هو كل مكسور جبر على غير استواء. والناظر إلى خارطة عتليت يجد أن ثمة لسان يدخل بالتواء في البحر، فكأنه مجبور بعد كسر.
قبل النكبة
لعتليت ذكر في الحروب الصليبية مع الإفرنح. يقول ياقوت الحموي (ت:1229م) في معجم البلدان: "عتليت اسم حصن بسواحل الشام، ويعرف بالحصن الأحمر، كان فيما فتحه الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب سنة 583 هجرية/1187 ميلادية". لكن الفرنجة عادوا واستولوا عليها عام 1192 ميلادية ضمن حملة صليبية جديدة يقودها ملك الإنكليز ريتشارد قلب الأسد، وبقيت في أيديهم.
في عام 615 هجرية/1218 ميلادية شيّد فرسان الداوية والفرسان التيوتون في عتليت قلعة حصينة ضخمة تأوي عدة آلاف من المحاربين والخدم. في مينائها رست السفن القادمة بالحجاج المسيحيين من أوروبا، ولذلك سميت القلعة بقلعة الحجاج. في وقت لاحق ضوعف تحصينها، فأصبحت المركز الرئيس لقوات الداوية (فرسان المعبد) في الشام.
في سنة 1220 هاجم الملك المعظم عيسى بن الملك العادل الأيوبي عتليت، ولكن فرسان الداوية تحصنوا فيها وخزنوا كميات كبيرة من المؤن والمياة، ما جعل الملك المعظم ينصرف عنها.
في عهد المماليك بقيت عتليت الحد الفاصل بين الفرنجة والمسلمين. وقد بقيت في أيديهم حتى اللحظة الأخيرة عندما أخلوها بعد سقوط معقلهم الرئيس في عكا في عهد الملك الأشرف خليل بن قلاوون. لقد أحرقوا حواصلهم، وهربوا في البحر ليلة الأول من شعبان سنة 690 هجرية/30 تموز 1291م.
في عام 695 هجرية/1294م نزل عتليت وجوارها من بلاد الساحل طائفة من قبيلة عُويرات التتارية واستقروا بها.
خرب المماليك عتليت كي لا يعود الفرنجة إليها ويتخذوها قاعدة لاحتلال القدس. في القرن السابع عشر كانت قلعة عتليت خراب رغم أن بنيانها كان أعظم من قيسارية. أما السكان، فكانوا عربًا يعتاشون على الزراعة. إذ تشير دفاتر الضريبة العثمانية في القرن السادس عشر للميلاد إلى أن عتليت كانت مزرعة ودفع سكانها ضريبة ثابتة (مقطوعة).
زار الرحالة الصديقي البكري في النصف الأول من القرن الثاني عشر للهجرة عتليت وقال عنها: "واصطحبنا في عتليت. وهي قلعة عجيبة البناء، اعتنى فيها بانيها كل الاعتناء. وزرت مقام الخضر".
في عام 1903 ميلادية أنشأ اليهود مستعمرتهم بجانب عتليت العربية وأعطوها اسم (تروميه) لكن سرعان ما عادوا إلى استخدام الاسم العربي. يروى أن البارون روتشيلد اشترى أراضي في عام 1899م، وعليها أقيمت المستعمرة المذكورة.
في عام 1915 ميلادية زار مؤلفا ولاية بيروت عتليت وقالا عنها: "مبنية على رأس محاط بخليج من طرفيه، وقد أقيم حولها سور متين من طريق جهة البحر وقلاع وخنادق. ولا تزال أنقاض القلعة مشاهدة في جهة الشمال الشرقي، أما قرية عتليت اليوم فهي ملك للمزارعين اليهود". وقد تجاهل المؤلفان القرية العربية، كما أن الأتراك بعد ذلك بقليل خربوا القرية اليهودية بحثًا عن أعضاء حركة "نيلي" الصهيونية المؤيدة للحلفاء، في عام 1919م فتكت الملاريا الصفراء بالمستوطنين. كل ذلك قلل من عدد اليهود ففي سنة 1922 ميلادية كان في عتليت العربية 86 نفرًا، وفي عتليث اليهودية 81 شخصًا، وعدد من يعمل في معامل الملح 198 شخصًا.
في عام 1931م كان في القريتين 948 شخصًا يوزعون كما يلي:
المسلمون 285
اليهود 287
المسيحيون 24
ولهم 193 بيتًا. ويضم هذا التعداد عمال شركة ملح عتليت وجماعة عمال عتليت ومحطة عتليت للقطار.
في عام 1934 ميلادية أعلنت سلطات الانتداب عن أراضي قرية عتليت العربية كأراضي جفتلك. أي أراضي تابعة للسلطان العثماني، وأنها أصبحت ملكًا لسلطة الانتداب بدعوى كونها الوريثة الوحيدة للسلطان العثماني. فدخل اليهود إلى تلك الأراضي واستولوا على جامع عتليت العربية والمقبرة الإسلامية.(انظر الوثيقة المرفقة) ورغم كل ذلك بقي العرب متشبثين بوطنهم، ففي سنة 1938 ميلادية ضمت القريتان 732 نسمة بينهم 508 من العرب و224 من اليهود.
وفي عام 1945 تناقص عدد العرب حيث كان في عتليت العربية 150 عربيًا فقط. يبدو أن هؤلاء اعتاشوا من صيد الأسماك وكأجيرين في معمل الملح. أما من حيث الأرض فلم يبق في أيديهم سوى أربعة دونمات. في 15 أيار سنة 1948 تم طرد ما تبقى من السكان العرب، ضمن عملية تطهير الساحل، ويقدر عددهم 174 نسمة.
إبان ثورة 1936-1939م قام الانجليز بسجن زعماء وثوار فلسطينيين في معسكر الجيش البريطاني المقام على أراضي عتليت. دأب الإنكليز آنذاك على تشغيل السجناء العرب في رصف الطرق وتعبيدها وبناء محطات للشرطة وقطع الحجارة بالسخرة (معسكرات عمل).
في ليلة 16-17/8/1938 كان القائد يوسف الحمدان الفحماوي المشرف الحقيقي على الهجوم الكبير الذي قام به الثوار على سجن عتليت، وهو الذي اختطف نائب مدير السجن الضابط لزاروفيتس وزوجته وصهره وأطفاله الثلاثة وسلّمهم إلى القائد يوسف أبو درّة، ومن الجدير بالذكر أن يوسف أبو درّة أطلق سراح الأطفال بينما نفّذ حكم الإعدام بحق البالغين. شارك في الهجوم على السجن المذكور أكثر من مائتي مجاهد وقد نجحوا في احتلاله لمدة ساعة وتحرير بعض المعتقلين فيه. يُعدّ الهجوم على سجن عتليت نقطة تحوّل في تاريخ الثورة، إذ تشدد الإنجليز في تعقب الثوار وصمموا القضاء عليهم، ففي يوم الجمعة 28/10/1938 تم الهجوم على قرية المنسي واعتقال الشيخ حسن منصور، وهو من مشايخ عرب التركمان وكان رئيس اللجنة العسكرية ومحكمة الثورة، مع أربعة من أقاربه.
في الأربعينيات استعمل معسكر عتليت كمكان لتجميع الأسرى الطليان أثناء الحرب العالمية الثانية.
في عام 1956 وعام 1966م استخدمت إسرائيل المعتقل كسجن للأسرى المصريين. عن مأساة هؤلاء الأسرى راجع كتاب الطريق إلى عتليت للصحافي يسري فودة، بيروت، 2003م.
إلى الجنوب منها تقع خربة المالحة التي كانت تعرف بمجدل مالحة، فيها آثار لمدافن ومغر وصهاريج ومعاصر. والشيخ بريك قرية أرمنية صغيرة في جوار مستعمرتي عتليت ونفيه يام. هجّر أهلها في سنوات الثمانينيات من القرن الماضي. وما زال مقام الشيخ بريك قائمًا فيها.
وثيقة:
رسالة من الجلس الإسلامي الأعلى في القدس إلى مأمور الأوقاف في المنطقة الشمالية مؤرخة في 21 أيار/مايو سنة 1934، هذا نصها:
حضرة مأمور الأوقاف المحترم
الموضوع:جامع ومقبرة عتليت
فهمنا أنه يوجد جامع إسلامي ضمن قلعة عتليت وكذا توجد مقبرة إسلامية في القرية، وأن الحكومة ستخرج أهل الخربة في آخر الشهر منها لأنها جفتلك وليست لهم. ويستدعون اهتمام الأوقاف الإسلامية بالمحافظة على الجامع والمقبرة الإسلاميتين.
فأرجو أن تدرسوا هذا الموضوع، وأن تزوروا المكان قبل آخر الشهر، وأن ترسلوا إلينا تقريرًا عنه وما عندكم من اقتراحات بشأن المحافظة على الجامع والمقبرة
والسلام عليكم
مدير الأوقاف العام
توقيع
والجفتلك هي أراض لمزارعين فضلوا أن يسجلوا أراضيهم باسم السلطان لمنع جباة الضرائب من فرض ضرائب باهظة عليهم.