صورة لواقع مدينة الناصرة بعد احتلالها
صورة لواقع المدينة بعد احتلالها
كما يرويها فوزي حكيم. سكرتير اللجنة الطبية في الناصرة.
لا زال الكثير من أهالي الناصرة الذين اّثروا البقاء على الرحيل يذكرون ليلة احتلال المدينة من قبل الجيش الإسرائيلي الذي جاء عن طريق شفا عمرو، مطلقا نيرانه للإرهاب عند وصوله إلى الخانوق. لم يكن أحد في تلك اللحظة يتجول في الشارع فالكل في بيته منغلق على نفسه يصلي إلى الله بألا يصيبه مكروه.
صعد إلى منطقة الخانوق رئيس البلدية وبعض وجهاء الناصرة رافعين العلم الأبيض لمقابلة الجيش الإسرائيلي لتسليم الناصرة بلا مقاومة وهكذا كان. حيث لم تصب المدينة بأذى إلا بعض القتلى ممن كانوا يتجولون في الشوارع.
الأمر الأول الذي أصدره الجيش الإسرائيلي كان يقضي بتسليم الأسلحة الموجودة مع الأفراد والجماعات ووضعها في ساحة المدرسة بجانب عمارة المسكوبية تحت اشراف الجيش الإسرائيلي وهكذا كان.
وبعد ذلك ابتدأ الجيش بمصادرة جميع السيارات الموجودة الناصرة من أصحابها وأعفي القليل من المصادرة كسيارات بعض الأطباء.
ابتدأ منع التجول في شوارع المدينة ومنح الناس ساعتين في النهار لشراء لوازمهم من الأطعمة.
أصدر الحاكم العسكري لأول مرة تسعة تصاريح للتجول في المدينة أثناء ساعات منع التجول، حيث أصدر ثمانية للأطباء المتبقين في الناصرة وتصريحا اّخر لي، كسكرتير اللجنة الطبية وكاتب دائرة الصحة التي لم تغلق أبوابها طيلة مدة غياب أية سلطة أو حكومة منذ رحيل الإنكليز عن البلاد. كما تم تقديم الوقت لمدة ساعتين إلى الأمام حسب التوقيت الصيفي الذي عرفناه لأول مرة.
بعد يومين أو ثلاثة، لا أذكر بالضبط، جاءني جندي إسرائيلي وطلب مني مرافقته إلى مكتب الحاكم العسكري في المسكوبية ولم يذكر السبب وبالواقع قلقت لهذا الطلب الغريب. عند الوصول أدخلني إلى مكتب الحاكم الذي استقبلني بقوله: لا تخف وأضاف: لقد اتصل بي من القدس السيد الياهو اليشار الذي هو نائب في الكنيست الإسرائيلي عن الطائفة السفرادية في البلد ورجاني أن أتصل بك للاطمئنان على عائلة الحكيم في الناصرة ومساعدتها بكل ما تطلبه فقلت له: الحمد لله جميعنا بخير وصحة جيدة وأرجو إبلاغ السيد "اليشار" بهذا.
وكما ذكرت في أول كتابي هذا فأن السيد اليشار هذا، كان ينزل في بيتنا " بيت جدي " في أواخر العهد التركي وقد حافظ على صداقتنا القديمة وها هو يرد الجميل. كتب السيداليشار قبل وفاته عدة كتب ومنها كتابه الضخم الذي يسرد به سيرته الذاتية وأول صورة في كتابه هذا صورة جدي ناصر موسى الحكيم بجانب صورته عندما كان اّنذاك في الناصرة وقد كتب عدة صفحات عن حياته في الناصرة في العهد التركي ذاكرا جدي واياي عدة مرات واسم الكتاب. "الحياة مع اليهود " . رحم الله هذا الرجل الذي كان يحترم العرب ويكن لهم صداقة مخلصة.
تابعت العمل كالمعتاد في دائرة الصحة بالناصرة مع صعوبة المثابرة على ما اعتدنا عليه في الماضي.
اكتظت الناصرة باللاجئين من القرى المجاورة كالمجيدل ومعلول وصفورية وغيرها. وكذلك أهالي طبريا العرب الذين نزل غالبيتهم في الكازانوفا ينامون بها بلا طعام. وقامت اللجنة الطبية في الناصرة بعمل فريد حيث قامت بتقديم وجبة الغذاء البسيطة للاجئين يوميا في دير راهبات الناصرة الملاصق للكازانوفا . وجبة الغذاء البسيطة هذه كانت تمول من أهالي الناصرة، إما بالتبرعات النقدية أو العينية من تجار سوق الناصرة. استمرت هذه الخدمة لمدة طويلة إلى أن استقر لاجئو طبريا في أماكن أخرى من الناصرة.
بعد حين علمت الجمعية الطبية الإسرائيلية – فرع حيفا – بوجود نواة طبية في الناصرة باسم لجنة أطباء الناصرة فحضر رئيسها لمقابلة هذه النواة وكان الاجتماع الأول في بيت المرحوم الدكتور " باث غيت"، طبيب المستشفى الإنجليزي بالناصرة حيث اجتمع أطباء الناصرة وقرروا بعد أن طلب منهم الانضمام إلى الجمعية الطبية الإسرائيلية بفرع منفرد سمي آنذاك ولا زال يسمى إلى اليوم باسم الجمعية الطبية الإسرائيلية – فرع الناصرة. انضم اليها فيما بعد أطباء القضاء، كشفا عمرو والرامة وغيرها وكذلك الأطباء اليهود في الناصرة العليا. وقد قمت بخدمة هذه الجمعية كسكرتير وأمين صندوق لمدة 35 سنة تطوعا وبلا أي مقابل مادي إلى أن حان الوقت المناسب ولأسباب صحية لترك هذه المهمة.
أثناء هذه المدة الطويلة عرفت وصادقت الكثير من الأطباء المحليين وكذلك الكثير من الأطباء المحاضرين الذين كانوا يزورون الناصرة لألقاء المحاضرات الطبية للأطباء على الأقل مرة في الشهر. ولا زلت أزور الكثيرين ممن تبقى منهم وارسال التحارير لبعض الأطباء الذين رحلوا عن البلاد وهذا يمنحني السرور لأعيش في ذكريات الماضي الجميل.
مرض الجدري:
حل بالمنطقة مرض الجدري الذي جاء من شمال البلاد وكان لقرية كفركنا النصيب الأكبر من هذا المرض.
لم يكن في الناصرة مستشفى مجهزا للعناية بهؤلاء المرضى وقد أمر الحاكم العسكري دائرة الصحة بالناصرة بعمل سريع وإيجاد مكان مناسب لرعاية هؤلاء المرضى. وفي أقل من أسبوع حولت بناية مدرسة " شنلر" خارج البلد إلى مستشفى لهذا المرض الرهيب، وكان الدخول لهذا المستشفى ممنوعا منعا باتا لأي انسان لا يحمل تصريحا من دائرة الصحة بالعمل أو زيارة هذا المكان. واستمر هذا العمل المتواصل إلى أن قضي على هذا المرض.
وتحول هذا المستشفى بعد ذلك إلى مستشفى للأمراض الصدرية كالسل إذ أن هذا المرض تفشى في كثير من سكان الناصرة والقضاء. وبقي هذا المستشفى قائما لمدة طويلة. وأذكر أنه أرسل لطبيب الصحة وموظفيه رسالة شكر من وزير الصحة للعمل السريع الذي قاموا به.
الأغذية بالتقنين.
لم تكن الأطعمة كافية، ولكيلا يتمتع الغني لوحده بشراء الطعام قرر الجيش في جميع البلاد أن يقنن الغذاء وأن يمنح عطاء بطاقات تموينية تقنينية لعامة الناس لشراء موادهم الغذائية. استمر هذا الحال لمدة طويلة. وكان الكثير من أهالي الناصرة يذهبون إلى القرى المحيطة كالرينة وغيرها لشراء الدجاج واللحم المهرب وإذا ضبطوا كانوا يدفعون غرامات باهظة بالإضافة إلى مصادرة المواد الغذائية المهربة.
المواصلات:
لم تكن الطرق بين المدن مباحة للجميع وكان على كل من أراد السفر إلى حيفا أو غيرها أن يحصل على تصريح خاص للسفر من مكتب الحاكم العسكري وكانت الحافلة (الباص) التي تسافر إلى حيفا مصحوبة دائما بجندي إسرائيلي خلال الرحلة ذهابا وإيابا وإذا أراد أحد المسافرين الإقامة بضعة أيام خارج بلده كان يشار بالتصريح إلى المدة المسموح له بها للإقامة خارج بلده.
استمر هذا الحال لعدة سنوات تحملها الشعب بصبر وهدوء إلى أن تحسن الوضع وابتدأ العمال من الناصرة الذهاب إلى حيفا لإيجاد فرص عمل غير متوفرة في الناصرة.
الباحث خالد عوض / الناصرة