- معلومات عامة عن روايات أهل القرية
- الحدود إجْزِمْ-قرى-جبل-الكرمل-قرى-الروحة
- شهداء من القرية إجْزِمْ-قرى-جبل-الكرمل-قرى-الروحة
- بلاد الروحة وقراها إجْزِمْ-قرى-جبل-الكرمل-قرى-الروحة
- روايات أهل القرية إجْزِمْ-قرى-جبل-الكرمل-قرى-الروحة
- مصادر المياه إجْزِمْ-قرى-جبل-الكرمل-قرى-الروحة
- روايات أهل القرية إجْزِمْ-قرى-جبل-الكرمل-قرى-الروحة
- الحياة الاقتصادية إجْزِمْ-قرى-جبل-الكرمل-قرى-الروحة
- روايات أهل القرية إجْزِمْ-قرى-جبل-الكرمل-قرى-الروحة
- معالم القرية إجْزِمْ-قرى-جبل-الكرمل-قرى-الروحة
- سبب التسمية إجْزِمْ-قرى-جبل-الكرمل-قرى-الروحة
- التعليم إجْزِمْ-قرى-جبل-الكرمل-قرى-الروحة
- التاريخ النضالي والفدائيون إجْزِمْ-قرى-جبل-الكرمل-قرى-الروحة
- الآثار إجْزِمْ-قرى-جبل-الكرمل-قرى-الروحة
- السكان إجْزِمْ-قرى-جبل-الكرمل-قرى-الروحة
- البنية المعمارية إجْزِمْ-قرى-جبل-الكرمل-قرى-الروحة
- أمثال من القرية إجْزِمْ-قرى-جبل-الكرمل-قرى-الروحة
- عائلات القرية وعشائرها إجْزِمْ-قرى-جبل-الكرمل-قرى-الروحة
- الشخصيات والأعلام إجْزِمْ-قرى-جبل-الكرمل-قرى-الروحة
- احتلال القرية إجْزِمْ-قرى-جبل-الكرمل-قرى-الروحة
- القرية اليوم إجْزِمْ-قرى-جبل-الكرمل-قرى-الروحة
- أهالي القرية اليوم إجْزِمْ-قرى-جبل-الكرمل-قرى-الروحة
- مؤلفات عن القرية إجْزِمْ-قرى-جبل-الكرمل-قرى-الروحة
- الباحث والمراجع إجْزِمْ-قرى-جبل-الكرمل-قرى-الروحة
خارطة المدن الفلسطينية

روايات أهل القرية - إجْزِمْ/ قرى جبل الكرمل / قرى الروحة - قضاء حيفا
ملاحظة مهمة: البحث أدناه لباحث "إسرائيلي" نرجو الانتباه لذلك والبحث فيه شهادات ومقارنات مهمّة .
قرية إجزم الفلسطينيّة إباّن حرب العام 1948: صياغة تاريخ أنثروبولوجي من خلال روايات الفلّاحين ووثائق الجيش
الجزء الأول
تأليف: إفرات بن زئيف- معهد ترومان، الجامعة العبريّة
ترجمة: محمود الصباغ
تم الاستيلاء على قرية إجزم الفلسطينيّة، في صيف العام 1948، بعد اشتباكات دامت أكثر من ستّة أشهر، وتمّ اقتلاع سكّانها على يد القوات الإسرائيليّة، وتفرقوا في أنحاء الشّرق الأوسط. وإجزم من بين حوالي 400 قرية وبلدة فلسطينيّة، تم إخلاءها من سكّانها خلال الحرب في فلسطين في العام 1948. وما تحصّلنا عليه من المعلومات من وثائق الجيش الإسرائيلي والروايات الشفوية للّاجئين، وتلك الّتي تمّ جمعها في إسرائيل والأردن والأراضي المحتلّة في الضفّة الغربيّة، تُنتج صورة معقّدة عن السكّان المحليّين وحرب العصابات المحليّة والظروف الاجتماعيّة الّتي أثّرت على النتائج النهائيّة [للحرب وسقوط البلدة]. من خلال الرواية التاريخيّة لتلك الأحداث يظهر لنا جدال من شقيّن: يحدد الشّق الأوّل صورة جزئيّة للقرية، مقابل الصورة الكليّة للحرب. ويسلّط الشّق الثاّني الضوء على تفرّد الروايات الشفويّة ومساهمتها كمصادر تكشف جوانب مفقودة بخلاف ذلك(1).
أظهرت الأحداث الّتي وقعت في القرية الفلسطينيّة ومحيطها، أي السهل الساحلي لجبل الكرمل، خلال حرب العام 1948، غموضاً كبيراً يعتبر واضحاً على المستوى الكوني، وتكتسب العديد من المصطلحات معانٍ مرنه مثل "طرد" أو "فرار" و "مفاوضات" و "متعاون" واستخدام مصطلح "كان". وبعيداً عن التحقيق التّاريخي ومحاولة رسم المعاني والمخاوف والدوافع المحليّة، تكشف سرديّة اللّاجئين عن المفاهيم والأحداث الاجتماعيّة الّتي ميّزت حياة القرية والمجتمع الريفي الفلسطيني.
المصدران الرئيسيّان للمواد المعروضة هنا، هما الوصف الشفهي للحرب الّذي قدّمه لي الفلّاحون الّذين أصبحوا لاجئين (سواء من هم من أهل إجزم أو من سكّان القرى المجاورة) بالإضافة إلى الوثائق الموجودة في أرشيف جيش الدّفاع الإسرائيلي(2)، والّذي يشمل مواد عن تقارير الضبّاط عن الهجمات وسير المعارك، وتقويمات الاستخبارات، وتقارير المخبرين، والوثائق العربيّة المصادرة، واستجواب السجناء(3)، وتحقيق اللّجنة التّابعة للأمم المتّحدة الّتي تضمّنت استجواب الفلّاحين بعد وصولهم إلى الخطوط العراقيّة. وتشمل المصادر التكميليّة المدرجة في هذه الورقة الشهادات الشفويّة لجنود إسرائيلييّن شاركوا في القتال في إجزم وفي المنطقة المحيطة بها، بالإضافة إلى مواد أرشيفيّة وتقارير صحفيّة. والمشترك بين المصدرين الرئيسيين - روايات الفلّاحين، ووثائق الجيش- أنهما مستمدان من الأشخاص الّذين شهدوا أحداث الحرب، وهي في الغالب روايات مباشرة. وغني عن القول، أنّ التميّيز بين المصادر الأرشيفيّة والروايات الشفويّة للفّلاحين، هو أن هذه الأخيرة تعبّر عن انعكاسات قيلت بعد خمسين عاماً من "التذكّر". وحقيقة أنّ التفسيرات الشفويّة هي انعكاس لا تشير بالضرورة إلى أنّها روايات غير موثوقة أو مشوّهة (Thompson 1978؛ Samuel and Thompson 1990). وتنبني حجتي هُنا، بخلاف ذلك، على القول بعدم الاستغناء عن ذكريات تلك الفترة الحرجة. لقد احتفظ الفلّاحون المنفيّون [من قراهم] بالعديد من "المشاهد الفريدة" غير المغربلة في كثير من الحالات، والّتي أرخت ظلالها خلال فترة الفوضى من العام 1948. وتخلّد الروايات الشفويّة ذكرى بعض الفاعلين، وتشرح دوافعهم. قد قيل لنا كيف ولماذا انتقم سائق الحافلة الجزماوي من اليهود أو كيف حاول محامي جزماوي أن يحكم بين القرية واليهود. علاوة على ذلك، تصبح الديناميات الداخلية للقرية (مثل التوتر بين الطبقات، وتقسيم العمل بين الذّكور والإناث، أو تفكك النسيج الاجتماعي المعتاد بسبب الاشتباكات المستمرّة) تصبح، جميعها، عوامل ترتبط بصلة ما بالصورة العامة لفترة الحرب. وكان صموئيل هاينز قد لاحظ أنّ الفاصل الزمني بين الأحداث وسردها، يحوّل التركيز إلى الدّاخل، إلى المعنى والاستجابة الذاتية، إذ لم يكن الأمر مجرد "ما حدث" بل "ماذا يعني"؟ وكيف أثّر علي؟Hynes 1999: 208). ومن ثم، ينبغي بدلاً من التعامل مع الذكريات على أنها موضع شبهة، استخدامها كنماذج للمشروع، كانت ولا تزال ذات صلة بالفلّاحين (انظر Wachtel 1986 ، بعد Halbwachs 1980). وترسم وثائق الجيش، على عكس الرواية الشفويّة، حقائق محدّدة مثل الطبيعة والمكان والتاريخ وتوقيت كل اشتباك، والمحاولات والوسائل الحازمة الّتي استخدمها الإسرائيليون للاستيلاء على القرية. ومن ثم، فإنّ الجمع بين المصدرين المختلفين - وثائق الجيش والروايات الشفويّة- يوفّر قصّة متماسكة إلى حد ما عن أحداث العام 1948، لكنّها بذات الوقت، مليئة بالفروق الدقيقةّ
إجزم وموقعها
كانت إجزم [قبل العام 1948] قرية كبيرة ومزدهرة نسبياً، تقع على تل يبعد بضعة كيلومترات شرق طريق حيفا- يافا السّاحلي. أجبر الجيش اليهودي، في العام 1948، سكّان القرية البالغ عددهم 3000 نسمة على الفرار، بالإضافة إلى حوالي 750.000 نسمة من سكّان المدن والريف والقرى والفلسطينيون البدو (Abu Lughod 1971: 161 Morris 1987: 298 Takkenberg 1997: 19) . وتعدّ إجزم تاريخيّاً، مسقط رأس عائلة الماضي ذات النفوذ الّتي حكمت منطقة حيفا الساحلية كوسطاء للعثمانيين خلال النّصف الأوّل من القرن التّاسع عشر(4). وبقي آل الماضي يحتفظون بالمناصب السياسيّة الرئيسيّة خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، ويمتلكون قطعاً كبيرة من الأراضي بشكل استثنائي. كما تم إرسال بعض أفراد العائلة إلى الخارج لتلقي التّعليم العالي (بشكل أساسي إلى بيروت ودمشق). وأقام أفراد بارزون من العائلة في كل من مدينة حيفا المجاورة وفي القرية بذات الوقت. وكانت إجزم، من حيث ملكيّة الأرض والسكّان، ثاني أكبر قرية في قضاء حيفا (في المرتبة الثّانية بعد طيرة حيفا)(5). وبالإضافة إلى الأهميّة التاريخيّة للقرية، وتكوينها الاجتماعي الخاص، فقد تمّ اختيارها كدراسة حالة بسبب وفرة الوثائق المتعلّقة بالقرية المحفوظة في أرشيف جيش الدّفاع الإسرائيلي.
كان السّهل الساحلي لجبل الكرمل، الممتد من قيساريّة في الجنوب إلى حيفا في الشّمال، مكتظاً بالسكّان، وكان ينمو بسرعة في أواخر الحكم العثماني وبداية الانتداب. واستثمرت الحكومة البريطانيّة في المنطقة، فنفّذت مشاريع عديدة، مثل تعبيد الطريق الساحلي عند سفح سلسلة جبال الكرمل (اكتمل في منتصف الثلاثينيّات)، وإنشاء صناعة الملح في عتليت وتعميق ميناء حيفا، وإقامة معسكرات للجيش ومراكز للشرطة والسجون. وقد وفرت هذه الأشغال فرص عمل للسكّان المحليّين. وكانت حيفا، الّتي تقع على بعد 25 كيلومتراً شمال إجزم، المركز الحضري للقضاء. وازداد عدد سكّانها بسرعة خلال فترة الانتداب، من 24،640 في العام 1922 إلى 128،800 في العام 1944(6). واقترن الازدهار الاقتصادي بالسيطرة الأمنيّة المشدّدة، خاصة بعد الثورة العربيّة 1936-1939 ، عندما حظر البريطانيّون حيازة الأسلحة، خاصة في الوسط العربي.
احتل الجيش اليهودي حيفا يوم 21-22 نيسان-أبريل 1948، بعد الانسحاب البريطاني من أجزاء من المدينة (وتمركزهم في المعسكرات الّتي سيغادرونها فيما بعد نهائياً بعد بضعة أشهر)، غادرت الغالبية العظمى من سكّان حيفا العرب البالغ عددهم 60 ألفاً المدينة على عجل عبر الميناء، فور سقوطها في أيدي اليهود، ونزلوا أولاً في عكا، على الطرف الشمالي من خليج حيفا، ثم تابعوا بعد ذلك إلى لبنان(7). وكان لحالة العنف تأثير كبير على هذا النزوح الجماعي الّتي بلغت ذروتها في المدينة بين المجموعتين [العرب واليهود] والمذبحة الّتي قام بها اليهود ضد العرب في قرية دير ياسين قبل 10 أيام من سقوط المدينة.
صمدت العديد من قرى منطقة الكرمل لمدّة ثلاثة أشهر بعد سقوط حيفا، فقاتلت إجزم والقرى المجاورة لها معاً، مثل جبع (1140 نسمة) وعين غزال (2170 نسمة)(8) وكانت آخر قرى الكرمل الّتي سقطت يوم 26 تموز-يوليو 1948. هذه المقاومة المستمرّة والصمود للقرى الثلاث، الّتي أطلق عليها اليهود اسم "المثلث الصغير"، مذكورة في الكتب الإسرائيليّة عن الحرب(9). في حين تقتبس تقارير فلسطينيّة، بطريقة غريبة وعكسيّة، من مصادر يهوديّة لوصف صمود هذه القرى الثلاث. فعلى سبيل المثال يستشهد وليد الخالدي في كتابه" كل ما تبقى: القرى الفلسطينيّة المدمّرة،1992: 164 ) بالكتاب الإسرائيلي "تاريخ حرب الاستقلال" ويستشهد موقع بيرزيت على شبكة الإنترنت عن قرية الطيرة بالكتاب الإسرائيلي "تاريخ الهاغاناه"(10).
تم التعبير عن نيّة الجيش اليهودي في "تطهير الكرمل" في وثيقة نادرة تعود لأيار- مايو 1948. (المستندات المحفوظة في أرشيف الجيش الإسرائيلي IDFA والّتي تشير إلى المادة تخضع عادة للرقابة)(11). كان توفيا أرازي قد عمل في "شاي" (شروت يديعوت، وتعني حرفياً "خدمة المعلومات")، ذراع استخبارات الهاغانا، ولاحقاً في القسم العربي في الدائرة السياسيّة للوكالة اليهوديّة. وكان أرازى يجري محادثات مع ممثلين عن القرى الدرزيّة في جبل الكرمل، وأبلغ موشيه كرمل قائد لواء كرملي بالنتيجة(12). وفيما يلي رد أرسله موشيه كرمل إلى أرازي في أيار- مايو 1948 :. .. لقد أكدت لكم هذا عبر الهاتف قبل الاجتماع، وأكرر أنّ الهاغانا لم تأذن لأحد بالتفاوض مع الدروز في مسائل الأمن والدفاع، ولا عقد اتفاقات معهم في هذه الأمور سواء كتابة أو شفهيّاً. كل ما تقرر في هذا الاجتماع لا يلزم الهاغانا، وستعمل، الهاغاناه، وفق اعتباراتها وميولها. علاوة على ذلك، فإن تطرّق هذا الاجتماع إلى مسائل عسكرية، يتناقض مع ميل الهاغانا لتطهير الكرمل، إن مناقشة المسائل العسكريّة سوف يتسبب بأضرار على الصعيد الأمني. (13).
لم تُنفذ هذه الخطة "لتطهير الكرمل" بالكامل. فبقيت قريتان مسلمتان هما فريديس وجسر الزرقاء (عرب الغوارنة) على حالهما، وكذلك القريتان الدرزيّتان دالية الكرمل وعسفيا (اللّتان كانت لهما علاقات سابقة مع شخصيّات يهوديّة). وتم بالفعل إخلاء بقيّة القرى في هذه المنطقة من سكّانها. في بعض الحالات، كما في قرية صرفند (الّتي كانت صغيرة نسبيّاً)، ترك السكّان بيوتهم خوفاً قبل مهاجمتهم، بينما في معظم الحالات لم يغادر السكّان حتّى أدركوا أنّهم خسروا المعركة. كما هو حال إجزم(14).
1948 - الحوادث المبكرة
كان أبو أشرف، المولود في العام 1927، على دراية جّيدة بأمور الحرب، حيث كان مشاركًا فيها بنشاط، وكان في العام 1948 في سن القتال. التقينا حوالي خمس مرات في قريته الّتي يقيم فيها حاليّاً في إسرائيل(15). يقول أبو أشرف [ الحوار بالعبريّة]: سأخبرك عن حرب كرم مهرال [اسم المستوطنة اليهوديّة الّتي أقيمت في موقع إجزم](16). بدأت حرب كرم مهرال بالتدريج. بدءاً من الطريق الرئيسي. ناس رائحة على حيفا وناس قادمة منها، لم تكن حيفا قد سقطت بعد، الحادثة الأولى في الحرب - كانت هناك سيارة جيب يهوديّة على الطريق. وكانت هناك حافلة من إجزم إلى حيفا [حافلة عربيّة]. كان فيها ممرض ومعلّم اسمه توفيق.. [أبو أشرف يحاول أن يتذكّر اسم عائلة توفيق] فتقول أم أشرف [زوجته]: توفيق العارف(17). فيقول أبو أشرف [مصحّحاً لزوجته]: توفيق المراد. كان الجيب يطلق النّار على الحافلة. فقُتلت تلك الفتاة على الفور [أي، الممرضة] وذلك الرجل المتعلّم.
إفرات: لماذا أطلقوا النّار على الحافلة؟
أبو أشرف: كانت بداية الحرب.. عادت الحافلة إلى القرية في المساء. وقالوا: "قُتلت هذه الممرّضة، وذاك الرّجل من عائلة الماضي".(18)
وفي اليوم التّالي ذهب هذا الرّجل صاحب الحافلة [إلى حيفا]. وكان اسمه سعيد المدني وهو من إجزم. ذهب بالحافلة فشاهد الجيب على الطريق، فقال لركّاب الحافلة: "تشبثوا جيداً" فدهس الجيب وقتل من فيه، لكن الإنجليز ما زالوا هنا. لم يغادروا بعد. وبدأت اليهود تطلق النّار على الباصات والنّاس [تحديداً العرب] يطلقون النّار على اليهود. وصف أبو أشرف هذين الحدثين المتتاليّين على الطريق الرئيسي بأنّهما أول حوادث حربيّة مهمّة في المنطقة. صدم حافلة "إجزم" للسيارة اليهوديّة، كانت حدثًا لا يُنسى أيضاً لجميل الّذي يعيش في مدينة إربد شمال الأردن. وجميل هذا من بلدة عين حوض، كان في العاشرة والنصف من العمر وقت ذلك حادث الاصطدام، وبينما كان يدرس في قرية عين غزال، كان يركب الحافلة الّتي كانت تربط بين إجزم وحيفا وسائقها سعيد المدني. فيما يلي روايته (باللغة الإنجليزيّة، دون تصحيح للأخطاء) للحادثة الّتي دهس فيها سعيد المدني السيارة اليهوديّة[ الحوار بالإنكليزيّة]:
جميل: الأشهر الأولى.. بمجرد أن اتصل السائق بسعيد المدني، أعتقد أنّه كان يعيش في بغداد.. ربما مات. ربما لا يزال على قيد الحياة. حتّى ثلاث أو أربع سنوات قبل، كان لا يزال على قيد الحياة. كان سائق الحافلة التّي تخص إجزم وكان من إجزم. ورأى سيارة أجرة صغيرة، بداخلها - ثلاثة أو أربعة مهندسين- رجال سياسيّون، لا أعرف. وقال للنّاس في الحافلة - فقط امسكوا مقاعدكم بإحكام(19). كما نقول في الطائرة اربطوا الأحزمة. واستخدم الفرامل فوق التاكسي لتهبط الحافلة عليها، ويقتل النّاس هناك. بعد ذلك، طبعاً، عقد الإنجليز محاكمة في حيفا، وطوق أناس من الطيرة المحكمة لمنع إيذاء ذلك الشخص.. بعد ذلك، وهذا مضحك حقّاً، فبدلاً من الزجاج لنوافذ الباص، وضعوا نوافذ من الحديد الصلب. تصّور!.
من المحتمل أن يكون حدث موصوف في صحيفة "هآرتس" اليهوديّة في 3 شباط - فبراير 1948 يتعلق بـ "حادث" الطريق المذكور أعلاه. ذكرت صحيفة "هآرتس" أنّ يهودييّن اثنين قُتلا، وأصيب آخر عندما اصطدمت حافلة عربية بسيارتهم الصغيرة على طريق حيفا - تل أبيب. كان أحد الرّجال مهندساً هيدروليكيّاً، والثّاني كان رئيساً للجنة البناء العبري في منظّمة الإنتاج المنزلي، وكان المصاب عضواً في نقابة الموظفين(20). وكما هو متوقّع، ذكرت الصحيفة اليهوديّة أسماء الأشخاص اليهود في حين أنّ الجزماويين ذكروا أسماء أقرانهم الفلسطينيّين. (فقط الممرضة الفلسطينيّة في الحافلة، الامرأة، لم يتم الكشف عن هويّتها). وفي حين اقتصر أبو أشرف وجميل على سرد القصّة كجزء من تأريخ تاريخي متقطع إلى حد ما، أضاف شفيق نظريّة وضعت هذا الحدث في إطار تصعيد الحرب في إجزم. وشفيق هذا، مولود في إجزم في العام 1930، ويقيم اليوم في حيفا، ويرى شفيق أنّ أهل إجزم لم يختاروا الانخراط في الحرب لأنّهم "كانوا مزارعين بسطاء لا يمتلكون أسلحة ولا يعرفون كيفيّة استخدامها". وتحدث شفيق، وهو أحد أفراد عائلة الماضي، عن الطبقات الاجتماعيّة داخل القرية، وربط الأحداث بمسافة معيّنة من "الفلّاحين البسطاء". كان هو وفرد آخر من عائلتّه يحاولون معرفة ما حدث لقيادة القرية أثناء سرد الأحداث التاريخيّة. واستنكروا حقيقة أن القيادة قبل العام 1948 ،لم تستثمر موارد كافية في التّعليم والحفاظ على ممتلكات الأسرة. وأشار، هو وزميله، إلى أنّه بالإضافة إلى هذا المسار الدّاخلي، جاءت أحداث العام 1948. وفي رأي شفيق، أشعل عملين استفزازيّين يهودييّن "الحرب" المميتة. أحدهما اختطاف سبعة رجال كانوا يعملون في الحقول بالقرب من الطريق الرئيسي، والثّاني إطلاق النّار على حافلة سعيد المدني.
تم تسليط الضوء على جوانب معيّنة في الروايات الشفويّة عن سعيد المدني. وأشار جميل إلى أنّ سعيد المدني كان لا يزال يعيش في بغداد حتّى وقت ليس ببعيد. وقد عَلِمَ بذلك من التواصل مع أهالي قضاء حيفا المشتتّين. علاوة على ذلك، تم تداول قصّة المدني على مدار الخمسين عاماً الماضية، وما قام به وأهميته لم يمت في أذهان أهالي المنطقة في العام 1948. فالسّرد جزء من عمل تذكاري يتحوّل فيه النّاس إلى أبطال محليّين. وبالنظر إلى الماضي، يُنظر إلى هذه الأحداث على أنّها معالم أحداث مؤطرة ضمن النضال الوطني.
الخطف والمفاوضات
تبلورت قوة الجيش الإسرائيلي اعتباراً من ربيع العام 1948، واشتدّت الاشتباكات على طول الطريق [الساحلي]، ونجد أن الجيش أيضاً يوثق الأحداث الّتي وصفها أهل القرية. من المدهش إلى حد ما، أنّ كلا المصدرين يميلان إلى التكامل. أفاد مخبر عربي للجيش الإسرائيلي بما يلي: يوم الخميس، أسر اليهود ثلاثة عرب من إجزم في حقول عين غزال بالقرب من طريق إجزم. اسم أحدهما [الاسم خاضع للرقابة] والآخر [الاسم خاضع للرقابة]. احتفظوا باثنين وأطلقوا سراح الرّجل الثالث. وقبل أسبوعين من ذلك تم القبض على ستّة عرب في حقول جبع. تمّ الإفراج عن اثنين، أما الأربعة الآخرين فلم يعودوا بعد(21)، وكانت هناك مفاوضات مستمرّة وتبادل للأسرى طوال الحرب. وقد وقعت واحدة من الأحداث الأخيرة لقطع الطريق يتذكّرها الفلّاحون جيّداً، ما تم توثيقها في الأرشيف اليهودي، في السادس من تموز-يوليو، قبل ثلاثة أسابيع من سقوط القرية. وفيما يلي وصف الحادث كما هو في سجل أرشيف الجيش الإسرائيلي: في الساعة 11:15، وقع هجوم عنيف على وسيلة نقل [يهودية] على طريق عتليت- زخرون. كان الهجوم بالأسلحة الثقيلة والمدافع الرشّاشة وجاءوا من جانبي الطريق قرب جبع. وأصيب سائق السيّارة المصفّحة الّتي كانت ترافق ستّة عشر سيارة بجروح طفيفة، وأصيب راكبان آخران من السيّارتين. تمّ نقلهم جميعاً إلى المستشفى. وعند الساعة 11:15 وصلت سيّارة مدفعيّة إلى المكان من تل أبيب بسيارة أجرة. وبينما كانوا بالقرب من جبع أطلق ثلاثة مسلحون من العرب النّار عليهم. ردوا بأسلحة خفيفة. في ذلك الوقت وصلت قافلة كبيرة من حيفا. تم إيقافها بنيران كثيفة. بدأ صهريج الوقود يحترق ويسد الطريق. وتمكّنت بقيّة السيّارات من الهرب باتجاه مكان آمن. ومن المفترض أنّ بعض الأشخاص العزّل قفزوا من السياّرات أثناء الهجوم واختبأوا في حقول جبع. وفي الساعة 13:15 تم إرسال سيّارة مصفّحة من عتليت إلى جبع، وقصفت المواقع المواجهة للطريق. هناك جهود تبذل للعثور على الأشخاص الّذين ربما لا يزالون في الحقول(22).
خلال هذا الهجوم تمّ أسر عدد قليل من اليهود. كان أحدهم بيريتس فيلفل إيتكيس الّذي ورد ذكره في وثائق أرشيف الجيش الإسرائيلي، وفي الروايات الشفوية. كان إتكيس واحداً من بين العديد من السّجناء، لكنّه أصبح من أشهرهم، ربّما بسبب وظيفته السّابقة كمهندس في إدارة الأشغال العامّة البريطانيّة في حيفا. تتقاطع حادثة خطف إتكيس مع رواية أمين، بينما كان يخبرني عن العديد من السيّارات والشّاحنات الّتي تمّ الاستيلاء عليها على الطريق، وتمّ إحضارها إلى القرية. ولد أمين في إجزم في العام 1934، وهو يعيش، حالياً، في قرية في إسرائيل، [ الحوار بالعبريّة]:
أمين: أذكر ذات مرّة عندما أحضر المقاتلون على الطريق سيّارة محمّلة بالدّواجن.. ذات مرّة أحضروا الذّرة. وأذكر مرّة أنّهم قبضوا على شخص يدعى إيتكيس. كان يقود درّاجة ناريّة على ما أظن، فهاجموه وهرب إلى حقل الذّرة بالقرب من جبع وطاردوه وألقوا القبض عليه كسجين، بالتّالي نُقل إلى إجزم.
يذكر أبو نعيم، المولود في إجزم في العام 1936، إيتكيس أيضاً. ويعيش أبو نعيم في قرية في إسرائيل. التقينا مرّتين في منزله الّذي لا يزال يشبه مساكن الماضي. ويوجد لدى أبو نعيم، في المكان المجاور للمنزل، حظيرة دجاج وبعض الأغنام والماعز.[ الحوار بالعبريّة]
أبو نعيم: كان هناك رجل اسمه إيتكيس تمّ اختطافه. مرّ على الطريق السّاحلي بسيّارة، على ما أظن في منطقة عين كرمل- زروفا(23) لست متأكّداً.. أوقفوا سيّارته وأحضروه أصيبت زوجته، أتذكّرها، امرأة سمينة، أصيبت في يدها، وضعوا لها ضمّادة من قطعة قماش وأحضروها. ما هذا؟ [قلت لنفسي]. رأيت هذه المرأة في هذا الموقف، [وشعرت] بعدم الارتياح. شخصان يمسكانها وهي..؛ زوجها قيّدوا عينيه. إذن، ماذا يريدون أن يفعلوا بها؟ سوف تموت بأيديهم. وبعد ذلك سارع النّاس إلى ركوب حصان وركضوا إلى داليا(24). أحضر النّاس [الدّروز]، ووضعوها على حصان ثان وأخذوها. وأقام [الزّوج] في الماقورة [خربة الماقورة؟]. كان المقر الرئيسي في الماقورة. أين أقام؟ مع شريف. ومن كان حارسه؟ عمي مرشد؛ وأتذكّر أنّه كان الحارس، وكانوا في علاقات جيّدة. ورأيت كيف أطلقوا سراحه عبر مفاوضات في عسفيا.
كان شريف محامياً. أصله من إجزم ودرس في دمشق وعند عودته فتح مكتباً في حيفا. امتلك قطعة ارض كبيرة ملاصقة لإجزم من جهة الشرق حوّلها إلى بستان مثمر" بيّارة" تقع بالقرب من نبع الماقورة. أدّت محاولة اغتياله، خلال الثورة العربية عام 1937،إلى مغادرته البلاد لمدّة عامين، أمضاهما في بيروت مع عائلته. وعندما عاد اكتشف أنّ المتمرّدين دمّروا منزله وأشجاره. ومع ذلك، اختار إعادة بناء مزرعته، حيث أمضى أيام الأسبوع في حيفا لممارسة المحاماة، وعطلات نهاية الأسبوع في مزرعته في إجزم. وقد أقام، بفضل مهنته، علاقات وثيقة مع المسؤولين البريطانيّين، وكذلك مع اليهود ذوي النفوذ. وبسبب هذه الاصطفافات، عمل كوسيط خلال الحرب، محاولًا تحقيق اتفاق بين إجزم والهاغانا (المنظمة اليهوديّة الرئيسيّة المسلّحة الّتي سبقت إنشاء جيش الدّفاع الإسرائيلي).
وكان شريف قد كتب (في ذات اليوم الّذي تمّ فيه أسر إيتكيس واحتجز في منزله بالماقورة قرب إجزم) الرسالة التّالية إلى أحد معارفه اليهود: إلى السيّد دوف بن ألتر هاآدوم، أبو يوسف مرحباً، لقد تلقيت رسالتكم اليوم عن طريق رجل من عين غزال بخصوص المهندس إيتكيس. وتقدّم أيضاً، المحامي [يعقوب] سالومون من حيفا، بطلب في هذا الشأن. كما جاء السيّد خيّاط من حيفا، والتقى شيوخ جبع ووعد بالإفراج عن خمسة من الأشخاص الّذين أسرهم اليهود في عتليت. ربما تنتهي عمليّة التبادل غداً ويُطلق سراح المهندس إيتكيس. إنّه في بيتي، بصحة جيّدة ومعافى وموضع ترحيب كما العادة مع العرب(25)
ويتذكّر شفيق، نجل شريف، الأسرى بوضوح، وقد التقينا في تموز-يوليو 1998 في منزله في حيفا. [ الحوار بالعبريّة]
شفيق: ذات يوم جاء النّاس إلى والدي وقالوا له إنّ أحد اليهود قد استسلم وأطلقوا النّار عليه. قال لهم والدي إنّ هذا ليس فأل خير - فمن يستسلم يجب أن يؤسر فقط. بعد أيام قليلة أحضروا له سجناء - سائق شاحنة، عمل لاحقاً كحارس في مكتب ضريبة الدّخل في شارع المينا.. كان رجلاً مسنّاً. لا أعرف ما إذا كان لا يزال على قيد الحياة، وسائق تاكسي عمل لاحقاً في مستودع ملابس في شارع هرتزل، وإيتكيس وزوجته. أصيبت زوجته في يدها، وتصادف يومها أن كان عندنا ضيوف من داليا. قال والدي بما أنّه لم يكن لدينا طبيب -"ماذا أفعل؟" وطلب من الضيوف اصطحابها معهم، فأخذوها كما تعلمون، عبر الجبال. بقي الثلاثة في المنزل وكانت والدتي تصنع لهم الطعام كل يوم. وكما تعلم، كان مثلث جنين تحت سيطرة الجيش العراقي، أرسلوا جنوداً عراقييّن لأخذ الأسرى، فرفض أبي تسليمهم وقال لهم: "لا يمكنكم أن تأخذوهم. هؤلاء هم أسرانا، سنبادلهم بسجنائنا الّذين أخذهم اليهود. لا نريد التخلّي عن الأسرى، وإلا سيبقى أسرانا هناك"، فغادروا ولم يأخذوهم. لا أحد يحرس السجناء الثلاثة، كنت أزور الغرفة الّتي يقيمون فيها كل يوم. قال لي السائق، الّذي من شارع المينا، على ما أذكر، "دعني أهرب" وقلت له: " لن تستطيع الهرب، فهناك الكثير من النّاس، سوف يقبضون عليك ويقتلوك، لا يمكنك الهرب". باختصار، حدث تبادل للأسرى لاحقاً.. وبمساعدة بعض الدّروز، أرسلت السيّدة إيتكيس هدية إلى والدتي وجوارب وعطور ولا أتذكر ماذا كان في هذه الحقيبة.
عندما عاد إيتكيس من سجنه، استجوبه جيش الدفاع الإسرائيلي، وقدّم معلومات حول الوضع في إجزم، بما في ذلك وصف للعراقييّن الّذين جاءوا لأخذه. فيما يلي مقتطف من التقرير الّذي كتبه محقق إيتكيس:
ليلة الخميس، ظهرت وحدة عراقيّة برفقة ضابط في العقار المحتجزين فيه. كان النّاس مسلّحين بشكل جيّد، وكان أحدهم يحمل رشاشاً. بدوا متعبين للغاية كما لو كانوا قد أتوا من بعيد. ثم اكتشف [إيتكيس] أنّهم أتوا من عرّابة [قرية تقع جنوب غرب جنين] حيث المقر العراقي، في الوقت الحالي. كان الضابط يتحدّث الإنجليزيّة بطلاقة، لكن إيتكيس متأكداً أنّه ليس إنجليزيّاً، إذ يبدو كأنّه عراقي. استجوبه الضابط لفترة وجيزة، ثم قال إنّه على وشك اصطحابه إلى عرّابه للاستجواب الشّامل. لكن بعد التشاور مع شريف، غيّر رأيه، وقال إنّ إيتكيس سوف يُطلق سراحه، إذا أطلقنا سراح سجناء إجزم. بقيت الوحدة [العراقيّة] لفترة قصيرة، ثم واصلت طريقها إلى جبع(26). كان اسم سائق الشّاحنة المسجون في منزل شريف، كوبرشتوك وهو الّذي ذكره شفيق، وقد أرسل هذا السائق، من سجنه، رسائل إلى يعقوب سالومون، المحامي اليهودي الّذي كان ضابط ارتباط للهاغانا في حيفا وأحد المشاركين في المفاوضات مع إجزم. عرف سالومون شريف قبل الحادث بوقت طويل، حيث كانا محاميين في حيفا. تم العثور على الرسالة التّالية في أرشيف يعقوب سالومون في مظروف صغير يحتوي على ملاحظات أخرى من تلك الفترة(27).
نص الرسالة:
15/7 / 48. عزيزي السيّد سالومون. لقد تلقيت رسالتك ولا أستطيع أن أفهم لماذا يستغرق الأمر وقتاً طويلاً عندما لا يكون رأسي وجسدي على ما يرام.. وأحتاج إلى علاج طبي.. وليس لدي شيء هنا. "محمد أفندي"(28) مستعد لإطلاق سراحي إذا أعطيته عربيّاً واحداً. يجب أن تعلم أن الوضع هنا متوتّر للغاية، وأنا مستعد لأن اقدّم حياتي ثمناً باي لحظة. أسقطت طائراتنا العديد من القنابل.. وكان هناك العديد من الضحايا.. لقد أرادوا بالفعل أن يتخلصوا مني، فقط محمد أفندي لم يسمح لهم بذلك. لا يمكنك تخيل مدى خطورة وضعي. أكتب إليكم الآن بوضوح، وأطلب إجابة واضحة. وعندها سوف أعرف ما يتوجّب عليّ فعله، حيث لن يكون لدي خيار آخر سوى الهروب والمخاطرة بحياتي بنسبة مائة بالمائة(29). أنا ضائع وأجد صعوبة في الاستمرار. إنّهم يراقبونني بسبعين عين، يرجى أخذ كل شيء في الاعتبار، شكراً لك مقدما، تسفي كوبرشتوك(30).
في الثامن من تموز- يوليو، وبينما كان كوبرشتوك وإيتكيس لا يزالان في إجزم، وقع هجوم مشاة يهودي على القرية، وُصِف بأنّه انتقاماً للهجوم العربي على الطريق قبل يومين. فشل الجنود اليهود في الوصول إلى القرية وتعرّضوا لهجوم عنيف من قبل مقاتلي القرية، وتم تطويق موقعهم من ثلاث جهات، ثم تراجعوا على عجل، تاركين وراءهم قتيلين وعادوا بتسعة جرحى.
واختتم الضابط الإسرائيلي الّذي وثّق الحدث بالقول، من بين ملاحظات أخرى، أنّ "العدو كان سريعاً في التوجه والهجوم، ويتمتّع بقيادة جيّدة وروح هجوميّة وميل إلى الأذيّة"(31). وفي العاشر من تموز-يوليو تم إطلاق سراح إيتكيس، وفي السّادس عشر أطلق سراح كوبرشتوك أيضاً(32).
المحلي مقابل المنظور القومي
في حين أن الصورة المحلية تتطور بشكل متماسك إلى حد ما من الوثائق والروايات الشفويّة، فثمّة، هناك بعض التناقضات بين "العالم المحلي" (كما وصفه الفّلاحون ووثائق الجيش) والصور العامة والشائعة عن العام 1948 الّتي تطوّرت على مر السّنين. ويدور أحد النقاشات الجارية حول العام 1948 عن دور "القوى الخارجيّة" - سواء كانت قوات التحالف العربي (العراقيّة، الأردنيّة، السوريّة، إلخ) أو القوات المنضوية ضمن الأطر الفلسطينيّة كتلك الّتي نظّمها عبد القادر الحسيني من القدس أو محمد الصفوري من صفوريّة. وأشار الفلّاحون إلى أنّهم كانوا متردّدين في السماح للقوات الأجنبيّة بالاستقرار داخل القرية. وقيل لنا، من خلال تقرير استخباراتي من أرشيف الجيش الإسرائيلي يعود ليوم 12 آذار- مارس 1948 (قبل التصعيد الكبير للحرب)، أنّ مخبراً اسمه "المحامي" قال إن فرقة محمد الصفوري غادرت قرية إجزم، وهي الآن في منزل بالقرب من بستان الشّريف، كما قاموا بنقل ذخائرهم وأسلحتهم. خارج المنزل حيث يقف النّاس للحراسة ومعهم بنادق الكناري(33).
"المحامي" ،وهو على الأرجح شريف نفسه (لأنّه كان المحامي الوحيد في إجزم في ذلك الوقت)، أعطى المزيد من المعلومات لليهود بعد أيام قليلة: تم إعادة تجهيز 30 رجلاً بالإضافة إلى رجال الصفوري، وأُرسلوا إلى إجزم برفقة ضابط تركي، على الأرجح مرتبط بـ "جيش التّحرير العربي". قالوا إنّهم أرسلوا من قبل عبد القادر الحسيني، قائد القوات المقاتلة في منطقة القدس. وكان الضابط [التركي] والصفوري في صراع منذ أن كان التركي تابعاً لصفوري، لكنّه اعتقد أن الصفوري لا يعرف شيئاً عن الأمور العسكريّة، فقام الضابط التركي برسم المخطّطات لمناطق المستوطنات اليهوديّة القريبة. قام رجاله بزرع الألغام بين فريديس ومستوطنة زخرون يعقوب اليهوديّة (على بعد بضعة كيلومترات جنوب إجزم)(34). علِمنا من كلا المصدرين أنّ القوات الّتي أتت من الخارج جاءت وذهبت، وبقيت بالقرب من القرية، ويبدو أنّها واجهت مشاكل في التواصل فيما بينها ومع الفلاحين.
بعد سقوط حيفا، تمّ عزل سكان المنطقة. وحيث أنّهم مُنعوا من دخول المدينة خلال أشهر أيار وحزيران وتموز، فقد استعانوا بوسطاء دروز لنقل وبيع منتجاتهم الزّراعيّة في المدينة(35). وكان هناك طريق آخر للخروج من الحصار يؤدي إلى حيث تتواجد القوّات العراقيّة المتمركزة في جنين، على بعد عشرين كيلومتراً جنوب إجزم. دخل العراقيّون فلسطين مع قوات التحالف العربي الأخرى في 15 أيار-مايو 1948. ولا يزال الجدل مطروحاً حول ما إذا كانت الجيوش الأجنبيّة قد شاركت فعليّاً بشكل نشط، كما تميل الرواية الإسرائيليّة إلى تأكيد ذلك، أو أنّ الأمر كما تعرضها الرواية الفلسطينيّة غالباً، والّتي ترى أنّ وجود تلك القوّات كان رمزيّاً جزئيّاً ومضلّلاً للفلسطينييّن المحلييّن الّذين أخطأوا حين اعتمدوا عليهم لمساعدتهم. ولعبت هذه القوّات، في إجزم دوراً ثانوياً، كما سنرى، خاصة عندما كانت البلدة في أمس الحاجة إليها.
على الرغم من أنّ الخطاب العراقي الرّسمي كان مؤيداً للفلسطينيّين بشدّة، إلا أن المشاركة العراقيّة في الحرب كانت محدودة في الواقع. اتّهم العراقيّون، داخل جامعة الدول العربيّة ومن قبل الفلسطينيّين المحليّين، بـ "عدم وجود أوامر" (ماكو أوامر في العاميّة العراقيّة) وعدم وجود سياسة واضحة(36). ونتيجة لهذا النّقص، اتّخذ الضباط العراقيّون في مناطق معيّنة مبادرات شخصيّة. وقد وجدنا مراسلات بين ضباط محليّين عراقيّين ومحلييّن إسرائيليّين لتسوية خلاف حول استخدام قطعة أرض معيّنة على الخط الحدودي بين القوات اليهوديّة والعراقيّة، في مكان بين إجزم وجنين. فيرسل الضابط العراقي رسالة إلى الضابط اليهودي، يتحدّث فيها نيابةً عن المزارعين العرب المحليّين الّذين أطلق الجيش اليهودي النّار عليهم أثناء محاولتهم الوصول إلى أراضيهم. ويشير إلى أنّ اليهود يقومون الآن بجمع المحاصيل العربيّة ،وأنّ مثل هذا العمل لا يحمل أي معنى من معاني "الروح العسكريّة". ويدعو، من أجل حل المشكلة، إلى اجتماع، يكون فيه الطرفين غير مسلحين(37). وقد حصل هذا الاجتماع بالفعل. ربما تكون مثل هذه المبادرات المحليّة مؤشرات على الوضع العام غير المنضبط.
ومع ذلك، قدّم العراقيّون بعض المساعدة للمقاتلين الفلسطينيّين المحلييّن. نعلم من سجلّات أرشيف الجيش الإسرائيلي، أنّه كان هناك تدفّق للأسلحة والمنتجات بين "المثلّث الصغير" والمنطقة الّتي تشغلها القوات العراقيّة، خاصة عندما كان المثلّث الصغير محاصراً(38). يقول أبو أشرف: كنّا نذهب في اللّيل من إجزم إلى عارة [20 كلم جنوب إجزم] ،حيث يتمركز هناك الجيش العراقي. كنّا نذهب ونحضر الرّصاص على الجمال. في اللّيل وقد ذهبتُ بدوري عدّة مرّات". وتظهر الوثائق أنّ الجيش اليهودي كان على علم بالطريق المفتوح عبر الجبال: أفاد أحد المخبرين أنّ مقاتلي إجزم لديهم اتصالات جيدة بقريتي عارة وأم الزينات [تبعد حوالي 8 كيلومترات. شرق إجزم]. كانت عارة تقع تحت سيطرة العراقييّن ولهم فيها قوّة كبيرة، وكان العديد من الجنود العراقييّن يزورون قرية إجزم. الأسبوع الماضي زار قادة إجزم عارة وأبلغهم القائد العراقي أنّه عندما تنتهي الهدنة سيكون هناك هجوم عام على حيفا من اتجاه مشمار هعيمق من قبل القوات النظاميّة بالقوات الجويّة والبحريّة(39) وأبلغهم بعدم السّماح للعرب بدخول حيفا، وإبلاغ عرب حيفا بالابتعاد عنها بسبب الخطر(40).
الظروف الّتي غادر في ظلّها الفلّاحون الفلسطينيّون قراهم هي في صميم النقاش العام (وكذلك الخاص). في حالة منطقة الكرمل، ورغم إجلاء بعض السكّان، فإن المقاتلين تم تشجيعهم بل أجبروا على البقاء. ففي بلدة الطيرة، على بعد عشرين كيلومتراً شمال إجزم، قام الفريق الأردني بإجلاء العديد من النّساء والأطفال بطريقة منظّمة. ترتبط هذه الحماية للأسرة وخاصة المرأة بالدور المركزي للشرف في المجتمع العربي. وشرف الرّجل مرهون بمنع أي ضرر ولا سيما الأذى الجنسي الّذي يلحق بأقربائه. لذلك، شعر الرّجال أنّهم من الضروري إبعاد النّساء والفتيات عن أي ضرر محتمل، بينما ظلّوا هم يقاتلون. ومع ذلك، وبالعودة إلى الوراء، اعتبر بعض الفلّاحون تفكك العائلات خلال الحرب عاملاً ضاراً. وفي مقابلة في منزله في إربد، تحدث أبو وصفي، مختار الطيرة وشخصيّة بارزة في المنطقة، عن إجلاء النّساء والأطفال. أثار تعليقه ملاحظة (أم أنّها اتهام؟) من أبو مجدي الّذي كان جالساً معنا وكان طفلاً في الطيرة عام 1948: [ الحوار بالعربيّة] "لدي سؤال واحد، أبو وصفي: ما السّبب وراء إبعاد النّساء والأطفال وإبقاء الرّجال، ما هي السياسة المخطّطة من وراء ذلك؟.. هل كانت سياسات القوى من الخارج أم من الداخل؟ يعني، إذا غادرت أمي وزوجتي ماذا بقي لي أن أفعل؟"
أثار هذا التعليق جدلاً بين الرّجال في الغرفة. كان الافتراض الأساسي أنّ القرية كانت أكثر عرضة للخطر عندما لم تسمح ظروف الحرب بالحفاظ على النّظام الاجتماعي المعتاد
بشكل عام، تم تصوير النّسيج الاجتماعي للقرية على أنّه نسيج ريفي وتقليدي، حيث أدوار الجنسين تم ترسيمها بوضوح (Abu Rashed 1993). استلزم إجلاء النّساء والأطفال في نيسان-أبريل 1948 ترتيبات منزليّة جديدة - من سيطبخ للرّجال؟ من سيغسل الثّياب؟ علاوة على ذلك، لم تكن الجوانب العملية فقط هي الّتي تسبّبت في حدوث صعوبات؛ كانت صورة القرية كوحدة عاملة هي الّتي تحطّمت، حتّى قبل أن تسقط في أيدي اليهود.
كان الجيش العراقي عاملاً جديداً يتدخّل في النّظام الاجتماعي النّظامي. قد يفسّر ذلك إحجام القرويّين على السماح للعراقييّن بالاستقرار في القرية أو القتال نيابة عنهم. ومع ذلك، عندما أصبح الوضع أكثر خطورة (خاصة من منتصف شهر تموز- يوليو)، دعا الجزماويون العراقييّن للانضمام إلى القتال ومع ذلك لم تصل هذه المساعدة.
أبو نعيم [ الحوار بالعبريّة]: كنّا نتشاور مع الجيش العراقي. "ما رأيكم؟" فنقول لهم "استمرّوا" [فكانوا يجيبون]. "سوف نأتي الأسبوع المقبل. الأسبوع المقبل".
إفرات: إذن فعلاً أجبروا الرّجال على البقاء والقتال؟