المجازر في القرية - صَنْدَلة/ ألحقت بقرى حيفا عام 1949 - قضاء جنين

القنبلة

في السابع عشر من أيلول سنة 1957، وتحديدا عند الساعة الثانية بعد الظهر، وفيما أهالي صندلة كانوا بيادرية (يعملون على البيدر) يذرون غلالهم على بيادر القرية، دوى في مسامعهم دوي انفجار، هز كل بيوت صندلة الطينية، التي تساقط منها التراب عن التبن فيها، على حد تعبير الحاج مصطفى العمري "أبو ناظم". وظلت سحابة دخان الانفجار معقودة حينا من الوقت، قبل أن يقوى الفضاء على امتصاصها.

كان ذلك الدوّي، صوت انفجار قنبلة خلّفت أكبر مجزرة أطفال في التاريخ الحديث، 15 شهيدا وشهيدة وثلاثة جرحى من أولاد وبنات مدرسة القرية، لم يتجاوز أكبرهم الثالثة عشرة، بينما معظمهم كان بين سنيّ الثامنة والتاسعة.

لم يكن يعرف أطفال صندلة شيئا عن القنابل، ففي أثناء عودتهم من مدرستهم "التتر"، التي كانت تقع على طريق صندلة - المقيبلة، مشيا على الأقدام. استوقف بعضهم، جسمٌ حديدي مُستدير، مُلقى على جانب الطريق، اقتربوا منه جميعا، وحاولوا تقاذفه، فتقاذفتهم القنبلة أشلاء على تراب السهل. نجمة العُمري، وهي أخت لثلاثة من الأطفال الشهداء، طالب وغالب وآمنة، كانت من أوائل الذين وصلوا إلى موقع الانفجار. مشهدٌ تقشعّر له الأبدان، جيل كامل من أبناء القرية، كان قد ترذذ دما، وتبعثر لحما على تراب مرج ابن عامر، وأمهات صراخهن كان مسموعا من جبال فقوعة، يرقصن بأشلاء أبنائهن من هول الفاجعة، بينما راحات أكفهن ظلت موشومة على خدودهن وصدورهن بدم أطفالهن لأيام.

قضاء وقدر

في ذلك الحين، من سنوات الخمسينيات، كانت صندلة مثل سائر بلدات الداخل، ترزح تحت وطأة الحكم العسكري الذي استمر ما بين عامي 1948 - 1966. إضافة إلى ذلك، اعتبرت القرية منطقة عسكرية مغلقة، لا يخرج الأهالي منها ولا يدخلون إليها إلا بتصريح عسكري، نظرا لوقوع صندلة على الحدود مع مناطق الضفة الغربية التي خضعت في حينه لحكم النظام الأردني.

لم تكترث الدولة العبرية، لموت 15 طفلا وطفلة، من أبناء صندلة في ذلك اليوم، واستمر عمل نظام نقطة الأمن على مدخل القرية، كما لو أن شيئا لم يحدث، بل منعت كل من حاول الوصول للقرية. بعض الأطفال الشهداء، جُمعت أشلاؤهم على عجل في أكياس من موقع الانفجار، ودُفنت بنفس اليوم، والتي كانت تعود لثمانية أطفال. بينما دُفن باقي الأطفال الشهداء، الذين بقيت جثثهم أقل تشوّها، في اليوم التالي والذي يليه.

لم تنظم مراسيم جنازة رسمية أو جماعية للشهداء الأطفال، كانت كل أسرة تحمل جثمان طفلها أو طفلتها أو ما تبقى منه/ا، إما بكيس أو بحضن والده أو والدها، وتدفنه على حدة، بعضهم دفن ابنه أو ابنته في الليل. كما لم يُفتح أي تحقيق في الحادث، سوى مُعاينة عابرة قامت بها قوات الجيش لموقع الانفجار، وقد أُغلق الملف على "حيفتس حشود - بسبب جسم غريب"، حتى القُنبلة لم تُسم باسمها، وكل ما قيل لأهالي الأطفال في حينه كان "قضاء وقدر".

حتى ميسر محمود العمري، الناجية من بين ثلاثة أطفال نجوا من الانفجار، نُقلت وقتها إلى مستشفى العفولة، ومن هناك نُقلت إلى مستشفى حمزة (رمبام) في حيفا. بُترت ساقها من الغليظ على حد تعبير الحاج "أبو ناظم"، ولما جاء والدها لإخراجها من المستشفى إلى البيت، لم تأذن له إدارة المستشفى بذلك، قبل أن يدفع كامل تكاليف العلاج، التي لم تكن صندلة كلها تقدر على دفعها. عاد أبوها إلى البيت بدونها، إلى أن تدخل بعد أيام محامٍ إسرائيلي من حيفا، استطاع إخراجها للبيت.

رواية يتيمة

لم ينشغل الصندليون بالقنبلة، لطالما أُرغموا عليها كـ"قضاء وقدر" وكما لو أنها سقطت على أبنائهم من السماء. وظلوا في حينه مسكونين بغصتهم الساكتة وحسرتهم الصامتة، على أولادهم وبناتهم، طوال العقود التي تلت وما طوت ألم عام المذبحة.

بعد أكثر من خمسين عاما، تكشفت رواية واحدة ووحيدة عن سبب وجود القنبلة على طريق المدرسة. أبو ناظم الحاج مصطفى العُمري، الذي فقد أخيه يحيى في المجزرة، كان من بين مجموعة من أهل القرية التي استثقلت على دم أبنائها وبناتها تخريجة القضاء والقدر، وأرادت كشف الأيدي التي وقفت خلف موت 15 من براعم صندلة وتشوه ثلاثة آخرين.

الخواجا "سمحا بيليغ" أحد مسؤولي الوكالة اليهودية، التي وضعت يدها على الأرض التي كانت على طريق المدرسة، حيث وُضعت القنبلة، استقبل في عام 2006، أبي ناظم بحفاوة، وقبل أن يسأله هذا الأخير، باشر بيليغ الحديث عن القنبلة بأسف مصطنع. قال إن عامله في الأرض وهو سائق الحصّادة، يهودي أيضا من أصل عراقي - كردي، اسمه "أفراهام أهارون" هو من وجد القنبلة في الأرض خلال عمله، وظنها في حينه، جرنا لمعس الذُرة المبلولة، اشتبه بيليغ بالقنبلة التي كانت موضوعة بين الأكياس على الحصّادة، فصاح بعامله السائق، وأمره برميها على الفور بعيدا. ألقى السائق القنبلة على الطريق الذي يمر منه أطفال مدرسة صندلة في ذلك اليوم.

هنا يرقد شهداء مجزرة صندلة

حين سألنا أبو ناظم، إن كانت هذه الرواية مُقنعة، تنهد، وأجاب مُشككا في صحة تفاصيلها، لكنها الرواية الوحيدة واليتيمة التي تسنى لأهل القرية كشفها، بعد أكثر من خمسة عقود. على أي حال، إن صدق الخواجا أو لم يصدق، فإن السائق والخواجا والوكالة اليهودية وحصّادتهم، قد يكونوا وراء وضع قُنبلة، حَصدت 15 سنبلة،

 


المرجع: عرب 48 مقال: مجزرة أطفال صندلة.. لماذا وقعت من ذاكرتنا؟ علي حبيب الله