خارطة المدن الفلسطينية
صفد عكا حيفا الناصرة طبريا بيسان جنين طوباس طولكرم نابلس أريحا قلقيلية سلفيت يافا اللد الرملة رام الله القدس الخليل غزة بئر السبع بيت لحم
معلومات عامة عن قرية إجْزِمْ/ قرى جبل الكرمل / قرى الروحة

روايات أهل القرية - إجْزِمْ/ قرى جبل الكرمل / قرى الروحة - قضاء حيفا

الجزء الثالث من الروايات

إجزم: حكايات مؤلمة وذكريات لا تنسى


      التقيتُ الحاجّة ندى صفدي- الماضي 'أم ماهر'، في مدينة حيفا، وخلال لقائي بها كانت طوال الوقت تذكُر قرية إجزم المهجرّة، فهي قرية الآباء والأجداد، حيث سكنت عائلتها في القسم الغربي من جبل الكرمل. تبلغ أم ماهر (85 عامًا)، والدها نايف الماضي، يذكره الفلسطينيّون الّذين سكنوا إجزم حتّى العام 1948، هُجّرت العائلة بعد النّكبة، كان الوالد مختارًا لإجزم لفترةٍ طويلة، وكان ملاّكًا لأكثر من ثلث أراضي القرية، كان يبيع الحبوب ويستأجر من يرعى مصالحه في الزّراعة ويعاونه في طلبات البيت.  قالت الحاجّة ندى الماضي لـ(عرب 48):" إنّ والدي كان كريمًا، بيته كان عبارة عن مضافة للقريب والغريب، يأتون إليه لاستشارته في أمورهم وهمومهم، ولم يكن يبخل بالمساعدة، تميّز بكرمه. وكان يوفِّق بين النّاس، كانت نصائحه تعمِر البيوت".

      عن طفولتها قالت أم ماهر: "عشتُ طفولتي في بيتٍ يشبه القصور، وفي أمسيةٍ من أماسي الشّتاء ترك أهل القرية ديوان والدي، على غير عادتهم، قبل الحادية عشرة مساءً، وإذ بنا نسمع دوي انفجارٍ هائل، فانفجر الركن الخاص بوالدي، ويومها أدركنا أنّه لا أمان في البيت، فقال والدي (الناس انسعرت)، وعند الصباح حملني وسرنا مع العائلة إلى برج البراجنة، أقمنا هناك سنتين، ثم عدنا في العام 1938، وفي جعبتي أجمل ذكريات الطفولة". روت أم ماهر حكايات لم يقوَ الزّمن على محوها من الذّاكرة، حتّى بدأت الذّاكرة تُحمّل صاحبتها ما لا طاقة لها بِه. تتابع قائلة:"تذكرينني بأيام العز، لو أنكِ رأيتِ البيوت الّتي كانت لدى أهلي، قام اليهود بنسفها، وتركوا بيتًا واحدًا لأخي الكبير، قصرٌ جميل، وكان كثيرون يزورون البيت لجماله".

       تنهّدت الحاجة ندى الماضي: "رحمة الله على الوالد، كان شهمًا ومحبوبًا، وأوّل مَن علّم أولاده. قرّر والدي إحضار مدرّس ليعلمنا أصول القراءة والكتابة، لا أذكر كم من الوقت أمضينا في التعلّم، ما أذكره أنّنا حُشرنا في غرفة واحدة، ستة عشرة طالبًا، وأبناء الأجيريْن عند والدي، في تلك الفترة لم تكن هناك مدارس حكوميّة، وكان المدرّس ينام ويصحو في بيتنا. فتولّعتُ بالمطالعة، إذ لم يبخل عليّ أخي الكبير محمود بتفقُد مكتبته واختيار كُتب المطالعة من قصص وروايات، أنهيتُ كتاب 'ألف ليلة وليلة' و'في بيتنا رجل' و'بائعة الخبز' و'غادة كربلاء' وغيرها من القصص، لكن أكثر ما همّني في قراءاتي آيات القرآن الكريم". تعلّقت بوالدها، وقالت عنه مجدداً إنّه "لديّ الكثير ما يقال عن أبي رحمه الله، إذ كان من أهم رجال تلك الحقبة ومن كبار التجّار، شاركهُ سعيد المحسن وأبناؤه في زراعة أرضنا بالقمح والخضراوات، وكانَ يقسّم الأرباح مناصفةً، أما بناته فقد حُرّم علينا لقاء الغرباء باستثناء أبناء سعيد المحسن الّذين لم يتجاوز سنهم السّادسة عشرة، ولم يسلم من أذيّة أبناء شعبه، فبعضُ الحاقدين على أصحاب الأموال كانوا أشدّ قسوة وأكثر بطشًا بممتلكات والدي".

       ثمّ أخفضت الماضي صوتها وقالت: "رحمة الله على أيام زمان، كنّا راضين عن حياتنا، حتّى وصل اليهود عين الغزال، وأصبح من المفروغ منه الخروج من البيت. بدأ اليهود بإطلاق النّار على كل من يمر في الشّارع، فهربنا ليلًا، وحمّلنا الملابس، وأغطيّة النّوم، فوق ظهر الخيل، ثم مكثنا حتّى الصباح فوق التلّة، حتّى وصلنا إلى دالية الكرمل".

'اليهود أذلّوا العرب'!

       وصفت الحاجّة ندى الماضي التهجير من إجزم،"عندما وصلنا دالية الكرمل في حينه، فوجدنا مئات العوائل ممّن هُجّروا من قراهم، جاؤوا من جبع وعين غزال والمزيار والطيرة والطنطورة. في ساحة القرية حمل الجائع منهم في يده رغيف خبزٍ حاف، كانوا يأكلون عن جوع، ثمّ تجمهر المهجّرون وتشاوروا فيما بينهم في كيفية تدبير أمرهم. كالأفلام رأيتهم بأم عيني يقفون في طوابير، والأمّهات يحملن أطفالهنّ، والرّجال يحملون ما استطاعوا حمله من أكياس وحاجياّت بسيطة. صورٌ تنفطرُ لها القلوب: أطفالٌ حفاة، نساءٌ ورجال بلا مأوى، وعجائز غالبَتهم آلام الوقوف فبكيْن. لاحقًا سكنتْ عائلتي في بيت مختار دالية الكرمل، الّذي دعاه للمكوث بضعة أيام، والنازحون هرعوا إلى الحافلات، وعندما قيل لهم أنّها تابعة 'للأمم المتحدة'. قالوا: 'الأمم متحدة والصليب الأحمر كذبة، بل هذه حافلات إسرائيل، وبُشرت العائلات بالانتقال للدول العربية".

         تابعت أم ماهر: "رأيتُ مشاهد محزنة، أمّهاتٌ لا تقوى على حملَ أطفالها، وشبابٌ يتبرعون بحملِ ما تبقى مِن الأطفال والحاجيّات، ورجال وضعوا مفاتيح بيوتهم في جيوبهم على أمل العودة، وقيل لهم: 'ستأكلون الأرُز وتعيشون في أمان لبعض الوقت ثم تعودون إلى بيوتكم'، هكذا نقلتهم الحافلات إلى أبعد من جنين، وقُذف بهم في بقعةٍ مفتوحة، ثم وصلوا الدول العربية، وأفلحت قلةٌ من الرجال بالتسلل ليلاً عائدين لديارهم، ليصف بعضهم محاسن 'الأمم المتحدة وصليبها الأحمر'، الّذي وزّع الحلوى على الأطفال مناصفة، وأجلس النّساء، وعادت الحافلات إلى دالية الكرمل بعد خمسة عشرة يومًا لتنقُل البقيّة الباقيّة من المهجرين من ديارهم، وبين المسافرين رجلٌ في الخمسينات، ساعد زوجته بالصعود وحملَ حقيبة فيها ما اتسع من الحاجيات ووضعها في الحافلة، ثم عادَ ليأخذ الفرشة خاصته، فأوقفه مسؤولٌ يهودي: قال له: 'ممنوع اصطحاب أحد، إذهب لوحدك'، عجِزَ الرجل عن انتزاع فرشته الّتي تحوي مدّخراته وشاهد كغيره كيفَ أحرقَ المسؤول ما تركه الفلسطينيّون خلفهم، وتحولت الأموال إلى رماد، دمَعت عينُ الرجُل وغابَ بين الجموع. رأيتُ أبي حين أخرجَ مفتاح بيته في إجزم، فتح الباب على مصراعيه لندخل ونرتمي بين زوايا البيت، ليعود اليهود فيطلقون النّار من فوق رؤوسنا، خفنا فعدنا للمرة الثّانية إلى دالية الكرمل، وهذه المرة قضينا هناك سنتين، كنّا قد سمعنا من بعض العائدين أنّ اليهود طلبوا من الرجال الوقوف بصفٍ واحد، وأداروا ظهورهم وفق الأوامر لتنطلق نيران الرشاشات فترديهم قتلى، وبينهم سجناء 'عتليت'. كان ختام أسرهم القتل، بينما هبطت معنويات أبي حتّى فارق الحياة".

حق العودة

       اختتمت الحاجة ندى الماضي بأنّ والدها توفي بعد فترةٍ وجيزة قضاها برفقة صديقه طاهر قرمان الّذي دعاه للسكن في قرية إبطن، وقالت:"جاورَتنا عائلة مكوّنة من شابين ووالدتهما، فأعجب أحمد الصفدي من سكان طبريا بي، كنت في السّابعة عشرة من عمري، تزوجت من الشّاب أحمد الصفدي في العام 1951، وبعد ثلاثة أشهر انتقلنا إلى شفاعمرو، وعمِل أحمد الصفدي في مكتب الشؤون الاجتماعيّة. لم يكن زوجي يرد محتاجًا ولم يغلِق بابًا لزائرٍ أو سائلٍ أو ضيف. وبالصدفة 'تكرمّت' هيئة الأمم المتحدة على الفلسطينيين بمعلبات اللّحمة الّتي استلمها الحاكم العسكري اليهودي فوزّع معظمها على اليهود، وما تبقى منها سُمح للموظف أحمد الصفدي بتوزيعها على المحتاجين بالتساوي".

أنهت الحاجة ندى الماضي قائلة :"إنّ حق العودة إلى الديار سيتحقق ولو بعد حين.

  https://www.arab48.com/     موقع