قرى فلسطين القديمة.. "ريحة" الماضي تصارع للبقاء..
لم تنفد بعد حكايات عبد العزيز أبو زيد، يطول عمرها وسردها كذلك وعناصر التشويق فيها، ويكمن سرها في أصالتها على الرغم من تعاقب سنواتها، تماما مثل شموخ أعمدة بيته القديم.
في صدر مضافته وسط بلدة دير إستيا القديمة شمال الضفة الغربية يتربع الحاج التسعيني أبو زيد فوق أريكة تفوق السبعين عاما ويستند على عصاه رافضا التزحزح من منزله القديم والانتقال إلى آخر أكثر راحة وحداثة كما فعل آخرون بمحيطه.
وتوصف القرى القديمة بأنها منازل الآباء والأجداد، وبفعل التوسع العمراني امتد البناء خارجها وبالتالي هجرت، مما حدا بمؤسسات مختصة للقيام بترميمها بهدف إحياء التراث العمراني القديم وتثبيت المواطنين فيها.
من ثلاثة طوابق يتكون منزل أبو زيد، يتخذ من الأرضي مجلسا لضيوفه من الأهالي والسياح الذين يقصدون القرية لرؤية معالمها التاريخية، في حين يتوزع الطابقان الآخران بين غرف الطعام والنوم، وقد اعتاد صعودهما ونزولهما مرات عدة يوميا دون كلل أو ملل.
يتشبث المسن بمنزله حيث ولد وعاش، ويعرف كل تفاصيله، فهناك أسفل البيت بئر الزيت، وفي الجهة المقابلة لقاع الدار (وسطها المفتوح للسماء) بئر المياه وبجانبها سلم الطابقين الحجري، حيث عمل وأشقاؤه بمساعدة والده في بنائه وإصلاحه مرات عدة.
بين معمور ومهجور
من بين 14 عائلة تعد نحو مئة نسمة لا تزال عائلة أبو زيد تتسمر في بيتها بدير إستيا القديمة، وتتوزع العائلات بمعظم المنازل والأحواش، وأصبحت تتكيف بالعيش فيها أكثر بعد ترميمها وتوفير خدمات البنى التحتية من ماء وكهرباء وغيرها.
ومثل أبو زيد تصمد فوزية أبو حجلة (65 عاما) في بيتها المتهالك سقفه بفعل الشتاء، وأمامه كانت توقد نارا للتدفئة أو "فاكهة الشتاء" كما تصفها.
وتقول إن البيت الذي تقطنه ونجلها وعائلته يبقى على الرغم من كل أحواله الصعبة أفضل من بيت الاستئجار الذي تصفه بالثوب المستعار "لا يدفئ ولا يستر صاحبه".
وقد أجريت حتى الآن ثلاث عمليات ترميم في دير إستيا القديمة ولم ينتهِ العمل بها، ففي القرية القديمة أكثر من مئة منزل يحتاج أغلبها لإعادة إحياء بما يحفظ هيئتها الخارجية ومكانتها التاريخية.
وعلى الطراز العثماني الذي يمتد لنحو خمسمئة عام ويمتاز بالأسقف المقببة وبالحجارة المتناسقة والمتينة بنيت دير إستيا كحال معظم القرى الفلسطينية القديمة.
حفظ القديم
هذا الجمال والتراث جعل عضو المجلس البلدي في دير إستيا نظمي سلمان حريصا على جلب المزيد من مشاريع الترميم إليها، وإقناع أصحابها بالبقاء فيها وتشجيع من تركها على العودة إليها.
ينشط سلمان بالدفاع عن القرية القديمة، يتفقد حجارتها ليصلح المتهالك منها عبر مشاريع ترميم داعمة تبعث الروح فيها، خاصة أن الترميم أنعشها كمساكن ومعالم بارزة تقام فيها فعاليات التراث والثقافة وتعمرها وفود السياح والزوار.
يقول سلمان إن المؤسسات الداعمة تشجعت على الترميم بشكل أكبر عندما استغل البناء للصالح العام وتم تحويله إلى مؤسسات صحية وتعليمية وشبابية، وهذا ما يدفعها لترميم ما تبقى من منازل مهجورة.
ويدرك أيضا وبمعرفته الواسعة بتاريخ القرية وتقسيماتها الممتدة فوق 55 ألف متر مربع الأهمية التاريخية لها وضرورة الحفاظ عليها بهيئتها القديمة لحمايتها من خطر البناء الحديث.
ويعي كذلك المحاولات "المشبوهة" -حسب وصفه- لتفريغها من مضمونها التراثي الفلسطيني، لذا فهو يشجع على السكن فيها، ويقطن وعائلته الممتدة بمحيطها رافضا هجرها، ولا يدخر جهدا في التحذير من التفريط بها.
مثل هذا الدور من الإقناع تقوم به أيضا آية طحان المهندسة في مركز رواق المعماري الشعبي الذي يأخذ على عاتقه ترميم هذه المنازل.
وقبل أن يشرع المركز في الترميم أعد سجلا وطنيا للمباني القديمة ومواقعها وأبرز المعلومات عنها، ووثق أكثر من خمسين ألفا منها بحاجة لإعادة ترميم.
الصالح العام
هناك أيضا خمسون قرية تحوي أغلب هذه المباني القديمة، وترميم السواد الأعظم من مبانيها -وفق المهندسة طحان- يعني "الحفاظ على 50% من التراث الثقافي الفلسطيني".
وينفذ "رواق" مشروعه ضمن برنامجين، طال الأول ترميم 120 مبنى تاريخيا في مختلف المناطق الفلسطينية، وآخر قرى بأكملها يرمم فيها عدد من المباني أو أغلبها، واستهدف حتى الآن 18 قرية عبر ترميم مبنى أو أكثر في كل منها أملا بإنهاء القرى الخمسين.
وأدى تخصيص الجزء الأكبر من المباني لأغراض الصالح العام داخل القرية وتحويلها لمراكز خدمات أو مؤسسات عامة ثقافية وسياحية وأخرى ذات أنشطة ترفيهية إلى تشجيع عمليات الترميم وتوفير الدعم لها.
ولا تخفي طحان وجود "صحوة" فلسطينية لترميم المباني القديمة، سواء عن طريقهم كمؤسسات تعنى بذلك أو عبر المجالس البلدية، خاصة في ظل الخطر الإسرائيلي المهدد لهذه الأماكن "والخوف من سرقة هويتها الفلسطينية".
ومجرد صمودها -تقول طحان- يعد مقاومة للمحتل، كما يمكن الاستفادة منها كعامل اقتصادي بجعلها مراكز سياحية يستفاد منها بشكل أو بآخر.
وداخل مضافته المزينة بطقمين من الأرائك، أحدها مؤرخ بالنكبة الفلسطينية والآخر بالنكسة عام 1967 وبقطع التراث الفلسطيني و"بابور الكاز" (موقد الطهي) وقنديل الإنارة يجلس الحاج أبو زيد رافضا هجر منزله وكأن لسان حاله يقول "لبيت تخفق الأرياح فيه.. أحب إلي من قصر منيف".
المصدر : الجزيرة