الحمّة قرية فلسطينية تاريخية وعيون ساخنة تتدفق منها مياه كبريتية وذكريات رومانية

الحمّة قرية فلسطينية تاريخية وعيون ساخنة تتدفق منها مياه كبريتية وذكريات رومانية

الحمّة قرية فلسطينية تاريخية وعيون ساخنة تتدفق منها مياه كبريتية وذكريات رومانية  | موسوعة القرى الفلسطينية

في ملتقى الحدود الجغرافية التاريخية بين فلسطين والأردن وسوريا يجد الزائر موقعا فريدا بتضاريسه وينابيعه الساخنة ويعرف بالحمّة، وهي ممتدة بين ثلاثة بلدان لكن تسميتها الغالبة الأكثر انتشارا هي «الحمّة السورية». ويقول المؤرخ شكري عراف لـ»القدس العربي» إن الحمة كانت تقع ضمن حدود فلسطين وفق خرائط حدود 1923 وكانت تخضع لسيطرة الانتداب البريطاني. منوها لوقوع الحمّة بين جنوب الجولان السوري المحتل وبين جبال البلقاء الأردنية وتبلغ مساحتها حوالي 1500 متر مربع وارتفاعها أسفل مستوى البحر بـ 150 مترا وترتفع عن بحيرة طبرية القريبة بنحو 50 مترا. وينتصف المنطقة نهر الرقاد الفاصل بين سوريا والأردن ويصب في نهر اليرموك الذي يلتحم بنهر الأردن في جنوب البحيرة. وسيطرت إسرائيل على المنطقة عام 1967 بعدما كان محيطها «منطقة حرام» محايدة واليوم هناك مستوطنة إسرائيلية على أراضي الحمّة وقد ورثت اسمها أيضا (حمات غادير أو مافو الحمّة) وتعتاش بالأساس من منتجع سياحي نادر يقوم على التنزه والاستحمام خلال معظم أيام السنة في مسابح تتغذى من ينابيع مياه معدنية ساخنة تتراوح درجة حرارتها بين 45 و 60 درجة. ويعزو أطباء منافع صحية للاستحمام بمياه الحمّة من ناحية توسيع الأوعية الدموية وعلاج المفاصل والعضلات. لكن سّر جاذبية الموقع يعود لسخونة مياهها وتوفيرها فرصة للاستحمام والتمتع بالعوم فيها في أيام الشتوية مما يفسرّ تراكم الطبقات الحضارية في الموقع كما تدلل الآثار العمرانية بدءا من فترة الهيلينيين ممن منحوا المكان تسميته بعد تشييدهم فيه مدينة مجاورة عرفت بغادير أو جدارة وتعرف اليوم بأم قيس، وكانت ينابيع الحمّة منتجعا لسكانها كما يؤكد الباحث ومرشد الطبيعة والرحلات راضي عمر.

جداريس الإغريقية

ويوضح راضي عمر لـ»القدس العربي» أن اسم الحمةّ ورد في مؤلفات الجغرافي اليوناني سترابو في القرن الميلادي الثاني وقال فيها إن «منطقة جداريس تحتوي على مستنقعات مياه ضارة عندما تشربها الحيوانات فإن شعرها، قرونها، وأظلافها تتساقط» وعلى شاكلتها تنتشر عيون مياه ساخنة صغيرة على طول منطقة الأغوار ووادي عربة.

وحسب عمر، شكلت الحّمة في الفترة الرومانية نقطة جذب سياحية لزوار من أرجاء امبراطورية روما من عامة الشعب وحتى الحكام للاعتقاد بأن مياهها تمتاز بخواص استشفائية وتمنح روادها فرصة لتجديد شبابهم وحيويتهم، ولذا فقد وردت في عدة مصادر تاريخية بصفتها أشهر وأجمل الحمامات في داخل الامبراطورية الرومانية بعد حمامات بايا في منطقة نابولي الإيطالية. وقد ذكرها الرحالة الانكليزي بكينغهام بعد زيارته الحمة في بداية القرن التاسع عشر بالقول إن حماماتها تعج بالزائرين. أما الباحث يعقوب شومخار الذي زارها في نهاية القرن التاسع عشر فيصفها ويتحدث عن حمامات مهدومة. وبنى الرومان منتجعا ضخما فخما في المكان يشمل مسابح وحمامات ومرافق للتدليك والرياضة والترفيه، وازدهرت مجددا في الفترة البيزنطية التالية لكن هزة أرضية في منطقة الشق السوري قد ألحقت ضررا فادحا بمنشآت الحمة العمرانية.

خمس عيون

وشهد الموقع عمليات حفر وتنقيب وبناء وترميم في الفترة 1979-1982 على يد فريق من الجامعة العبرية في القدس، ويجد الزائر اليوم آثارا عمرانية متقنة وضخمة تعكس أهمية المكان في عصور غابرة منها قاعدة الأعمدة، وفيها صفان من العمدان التي كانت تحمل سقفا بارتفاع 14 مترا عن أرضية البركة داخلها ما زالت بعض بقاياه قائمة وتدلل على صورتها الأصلية، ومن حولها برك سباحة صغيرة كانت تحتوي مياها فاترة وفق تأكيد الباحثين. ومن هذه البرك بركة معدة لمرضى الجذام وهي الأخرى مبنية كسائر مرافق الحمة من الحجارة البازلتية السوداء. وينقل عدد من مرشدي الطبيعة والرحلات عن نصوص تاريخية تقتبس رواية أحد زوار الموقع عام 570 ميلادي ويدعى انطونيوس الذي يصف هذه البركة بالقول: «مقابل بركة الماء الساخن هناك حوض كبير كان مرضى الجذام يدخلونه عبر بوابة ضخمة وبأيديهم شمعدانات وبخور ومن ثم تغلق البوابة ويقيم فيها المرضى طيلة الليل». منوها أن هذه الرواية التاريخية وجدت ما يعززها حيث اكتشف المنقبون قبل نحو أربعة عقود ونيف عشرات الشمعدانات الفخارية في محيط هذه البركة الليلية. وقريبا من بركة الجذام قامت قاعة بيضوية ترتفع ثمانية أمتار في وسطها بركة سباحة متدرجة العمق مرصوفة بالرخام وينقل لها الماء من النبع الحار عبر قناة حجرية مكشوفة ومن حولها ست نوافير يقال إنها كانت تستخدم لتبريد مياهها. كذلك ما زالت آثار قاعة النوافير بحالة جيدة رغم بنائها في الفترة الرومانية وطولها نحو 53 مترا وفي مركزها بركة سباحة مياهها باردة محاطة بـ 32 نافورة مما أكسبها اسمها، هذا وقد بني كل منها على شكل رؤوس حيوانات تتدفق المياه من أفواهها وهي بخلاف بقية البرك كانت مكشوفة ودون سقف حسب تقديرات الباحثين الأثريين. وهناك عدد من البرك الأخرى بعضها ما زالت تمتلئ بمياه الينابيع الساخنة.

المنتجع

ويقوم منتجع الحمّةّ الإسرائيلي على قسم من الحمّة التاريخية ويعتبر من أكثر نقاط الجذب قوة، ولذا تباع تذاكر الدخول بأسعار باهظة تبلغ 30 دولارا للفرد الواحد. وداخل الموقع التاريخي تنتشر خمس عيون مياه معدنية ساخنة تنبع عميقا جدا من باطن الأرض تبث رائحة الكبريت والمعادن والأملاح الأخرى تصل أنوف الزائرين عن بعد وهي مفيدة للبشرة وفيها دواء للأمراض الجلدية وفق معتقدات شعبية. وتقع عين المقلى قريبا من الحمامات التاريخية الرومانية ودرجة حرارتها 52، بينما تبلغ درجة حرارة عين البلسم 42 وتقع جنوب غرب عين المقلى وهي تغذي اليوم مسبحا للزائرين بكميات كبيرة من المياه المتدفقة بغزارة. أما عين بولس فدرجة حرارتها 25 درجة فقط وتقع قريبا من عين البلسم وهي الأخرى تستخدم للاستحمام لمن يفضلون مياها غير مرتفعة الحرارة. وتتدفق عين الريح من باطن الأرض على بعد 200 متر إلى الشرق من عين بولس على حافة وادي الرقاد ونهر اليرموك ودرجة حرارتها 37. والخامسة هي عين الساخنة ودرجة حرارتها تبلغ 28 فقط وتنبع من الزاوية الشمالية الشرقية من موقع الحمّة وتستغل مياهها لتربية التماسيح كواحدة من نقاط الجذب للمنتجع. وفي محيط هذا النبع يقام اليوم بين الفترة والأخرى عروض للببغاوات والزواحف والأفاعي والسلاحف والسحالي بأنواع وأشكال مختلفة.

إنعاش الروح

ويقول الحاج محمد حكروش أبو نايف (83) من بلدة كفركنا داخل أراضي 48 لـ «القدس العربي» إنه يدأب وزوجته على زيارة الحمة منذ عقود وهو يملك بطاقة دخول ثابتة يسدد ثمنها سنويا، منوها أن الاستحمام في مياه الحمة بالنسبة له متعة كبيرة خاصة في أيام الخريف والشتاء. ويوضح أبو نايف أن الحمة تحتوي على مميزات نادرة منها موقعها المنخفض والدافئ ومياهها المعدنية الغنية بالمعادن والأملاح المفيدة لصحة الإنسان، لافتا لكونها ملتقى اجتماعيا وفيه يتعرف على أشخاص من مختلف أرجاء البلاد علاوة على قضاء أوقات فيها مع أصدقاء يتشارك معهم «تنقية الرأس وإنعاش الروح» بعيدا عن زحمة الحياة اليومية وضجيجها. يذكر أن القائمين على منتجع الحمّة اليوم يخصصون بعض أيام الأسبوع لليهود المتدينين فقط وأخرى للنساء المحافظات عربا ويهودا، وبعد عام من الإغلاق بسبب جائحة كورونا فتحت الحمّة أبوابها هذا الأسبوع لكن المدمنين عليها واظبوا على زيارتها ودخول بركها البدائية المنتشرة خارج المنتزه الرسمي والقائمة بمحاذاة الحدود مع الأردن حيث توجد الآثار العمرانية الرومانية. وداخل المنتجع الرسمي هناك مسجد تاريخي كبير موصد منذ الاحتلال الإسرائيلي للمكان وتمنع الصلاة فيه وترتفع مئذنته نحو 35 مترا مبنية من الحجر الأبيض وكان يخدم سكان قرية الحّمة في المكان.

سكة الحديد الحجازية

يشار أن المنتجع كان نقطة جذب مركزية في فترة الانتدابين البريطاني والفرنسي على فلسطين وسوريا، وقد اعتاد العرسان على قضاء بعض أيام العسل في منطقة الحمّة وطبرية المجاورة مستفيدين من وجود فندق بني في المكان عام 1945 وخط قطار يمر بجوار الحمة. والحديث يدور عن سكة الحديد الحجازية التي بناها مهندسون ألمان في نهاية القرن التاسع عشر بناء على طلب الدولة العثمانية لتيسير طريق الحج للديار الحجازية وكانت تنطلق من اسطنبول وتمر بسوريا وتتفرع منها سكة حديد تربط بين دمشق وحيفا وبيسان ومنطقة سمخ جنوب طبرية ثم الحمة قبل صعودها للأراضي الأردنية. وما زالت آثار هذه السكة ظاهرة للعيان على شكل بقايا سكك حديدية وقناطر وجسور شيدت للتغلب على الفوارق والمعيقات الطبيعية والتضاريس الجبلية.

وتؤكد منظمة «ذاكرات» أن الحمة لم تحتل بالقتال وإنما سيطرت عليها إسرائيل بعد انتهاء حرب 1948 بزمن بعيد منوهة أنه في آخر الحرب وقعت القرية ضمن المنطقة المجردة من السلاح على الحدود مع سوريا ونصت اتفاقية الهدنة السورية-الإسرائيلية التي وقعت في تموز/يوليو 1949 على حمايتها. لكن السلطات الإسرائيلية قررت مع ذلك بحسب ما كتب المؤرخ الإسرائيلي بني موريس أن تطرد سكان مجموعة القرى التي شملتها الاتفاقية بحجة أنهم ربما كانوا يتعاونون مع السوريين أو يسرقون المواشي ويعتدون على أراضي غيرهم. وقد استعملت السلطات الإسرائيلية طوال السنوات السبع اللاحقة (1949-1956) خليطا من سياسة العصا والجزرة لإخراجهم من ديارهم وذلك استنادا إلى موريس، واشتملت الوسائل المستعملة على الضغط البوليسي والحوافز المادية وقد انتقل سكان المنطقة في معظمهم إلى سوريا لكن البعض منهم سكن في قرية شعب التابعة لقضاء عكا.

وتستذكر أن سلطات الانتداب البريطاني منحت امتيازات منطقة الحمة إلى سليمان ناصيف (من مواليد بلدة المختارة اللبنانية) بدءا من عام 1936 وحتى 2029. منوهة لفشل جميع الجهود التي بذلها اليهود لشراء هذا الامتياز منه وقد أدخل المرحوم تحسينات جمة على الحمامات، فشق الشوارع وغرس الأشجار وبنى المساكن الفخمة. وتتابع «بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها وبدأت بتقسيم انتصاراتها فكانت فلسطين من نصيب الحكومة البريطانية وانتشر الشباب اللبناني المثقف في كافة أنحاء البلاد الخاضعة للحكم البريطاني طمعاً بالوظائف والمراكز الحكومية، فكنت ترى العديد من اللبنانيين في الأردن والسعودية ومصر وفلسطين». وكان من نصيب سليمان بك ناصيف ان يعمل موظفاً كبيراً ومسؤولاً انتقل من مصر إلى حيفا ثم طبريا وبيسان، وبحكم علمه اطّلع على كل كبيرة وصغيرة في البلاد فقرر الاستقالة من عمله في الحكومة سنة 1929 وفكر بإقامة مشروع كي يضمن له مستقبلاً حرّاً، ودعا عدداً من المهندسين والاقتصاديين للتشاور وبعدها عزم على إقامة مشروع الحِمّة المشهورة بمياهها المعدنية. وبما انه كان صاحب مركز حكومي بريطاني، كان سهلاً عليه أن يحصل على إذن من المسؤولين في الأردن وفلسطين. ولكونه من مواليد بلدة المختارة عاصمة العائلة الجنبلاطية في لبنان فقد سهّل عليه موافقة الحكومة الفرنسية وابتدأ في إقامة المشروع سنة 1930.

رابط المقال الأصلي: https://www.alquds.co.uk/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%85%D9%91%D8%A9-%D9%82%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%84%D8%B3%D8%B7%D9%8A%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%B9%D9%8A%D9%88%D9%86-%D8%B3%D8%A7/