الشاعر إبراهيم الصالح «أبو عرب» 1931-2014

الشاعر إبراهيم الصالح «أبو عرب» 1931-2014

الشاعر إبراهيم الصالح «أبو عرب» 1931-2014  | موسوعة القرى الفلسطينية

 وخلال جلساتي الكثيرة الممتعة مع العم أبو عرب التي كنا نتجاذب فيها أطراف الحديث عن فلسطين ونستحضر الماضي ونستعيد الذكريات، أهداني جعبة من ذكريات طفولته وشبابه المعطرة برائحة اللوز والزيتون من ربوع الجليل، وشهادات عن مآسي اللجوء والكفاح المفعمة بعبق دماء الشهداء أوجزها كما يلي:

وُلد الشاعر إبراهيم محمد صالح علي مطر خطباء (الشهير «أبو عرب») في قرية الشجرة قضاء طبريا في 6/4/1931. التي قضى فيها أجمل أيام طفولته وشبابه، وغنى لها ولفلسطين أجمل القصائد فقال:

يا ريح سلملي على أوطاني * القدس ويافا الناصرة وبيسان

سلم عَ عكا وعَ الجليل الغالي * أجزم وحيفا الطيرة عين غزال

عَ الشجرة سلم عَ كوكب سيرينِ * عَ كفر كنا ولوبية وطرعان

وأيضاً:

يا طيور السما عَ الشجرة حومي * ودي لبلادي أجمل تحية

سلم ع حيفا وعلى الجليل * سلم ع دورا وقدس الخليل

على رام الله وعلى قلقيلة * ضلك يا بلادي حرة أبية

درس أبو عرب في مدرسة الشجرة حتى عام 1942، ثم في مدرسة لوبيا المجاورة حتى عام 1944، ثم في طبريا حتى عام 1945. وكان في طفولته يواظب على حضور الأعراس في الشجرة والاستماع إلى الشعر الشعبي الفلسطيني بالحداءة والسحجات والتي كان يحضرها كبار الشعراء من أمثال: الحاج فرحان سلام من قرية المجيدل قضاء الناصرة، والأخوان توفيق الريناوي ومحمد الريناوي من قرية الرينة قضاء الناصرة، والأخوان مصطفى البدوي «أبو سعيد الحطيني» ومحمد البدوي «أبو شكيب الحطيني» من قرية حطين قضاء طبريا.

ورث أبو عرب موهبة الشعر عن جده الشاعر الشيخ علي الأحمد الذي يعد من فحول شعراء فلسطين وعمه الشاعر الشعبي محمود الصالح. ويروي أبو عرب كيف تأثر بأشعارهما التي كان لها الدور الرئيسي في تعبئة وتحريض الجماهير لمناهضة الاحتلال البريطاني والغزو الصهيوني وتأجيج شعلة النضال الوطني والقومي في النفوس، ومن أشعار الشيخ علي الأحمد بل هي أشهر ما قيل في معاتبة الزعامة العربية عام 1948:

إيه ملوك العرب هل أعددتم * عذراً إذا ما جئتم الديّانا

أو سطر التاريخ نكثَ عهودكم * ووعودكم أن تُنقذوا الأوطانا

خير لكم من أن يُقال: تراجعوا * وتخاذلوا أن تخلعوا التيجانا

أغضبتم ربُ السماوات العُلى * أخجلتم تحت الثّرى قحطانا

مليون نفس هُم ضحايا جبنكم * جرّعتموهم علقماً ألوانا

قسماً لو أنّ المومسات مكانكم * لتركن ماخور الفجور عيانا

ولبسن مسح الراهبات تقشّفاً * هرباً من العار الذي أخزانا

عاصر أبو عرب الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936 ويتذكر تفاصيل المعارك التي خاضها ثوار فلسطين ضد الاحتلال الإنجليزي: «عندما كنت طفلاً، كانت ثورة ال 1936 ضد البريطانيين، وكنت أشاهد الثوار وهم يأتون إلى قريتنا في الليل لينصبوا الكمائن للدوريات الإنجليزية».

عاصر أبو عرب حرب فلسطين عام 1948 ومعركة الشجرة الأولى 6/5/1948 التي جرح فيها والده محمد الصالح في ذراعه، ونزح أبو عرب مع الأهل إلى قرية كفر كنا قضاء الناصرة. حدثني الشاعر أبو عرب عن رحلة اللجوء والتشرد في مقابلة خاصة عام 2000: «ذهبنا إلى كفر كنا متسللين، وحينما مررنا بسهل البطوف لا زلت أذكر جثث الفلسطينيين الذين قتلهم اليهود متفسخة بين حقول الذرة المزروعة في كفركنا..». وفي كفر كنا استشهد والده متأثراً بجراحه بعد حوالي خمسة شهور تقريباً من معركة الشجرة، ثم توجه أبو عرب وأسرته مروراً بسهل البطوف إلى قرية عرابة البطوف قضاء عكا، حتى كثرت الأقاويل حول احتلال اليهود لشمال فلسطين عندها قررت أسرة أبو عرب النزوح شمالاً إلى لبنان.

وظل الأمل بالعودة قائماً في نفسه منذ ذلك التاريخ وحتى وفاته، فحين خروجه وأهله من فلسطين لم يحملوا معهم شيئاً سوى كواشين ووثائق الأرض، ليقينهم بالعودة القريبة جداً إلى ديارهم، وظل أبو عرب متشبثاً بأمل العودة، وحتميتها ممّا دفعه لأن ينظم أجمل القصائد التي وصفت الحنين إلى فلسطين في السنوات التالية.

في «بنت جبيل» مكثت أسرة أبو عرب مع أسرة ناجي العلي قرابة شهرين، تحت شجيرات التين، ثمّ انتقلت إلى مخيم عين الحلوة بصيدا حيث مكثت قرابة ثلاثة أشهر، ثمّ انتقلت إلى سوريا حيث استقر بها المطاف أخيراً في مخيم العائدين بحمص. ويصف الشاعر أبو عرب حياته في المخيم لأحد الصحفيين:

«كان المخيم عبارة عن معسكر للجيش الفرنسي سابقاً, فيه مهاجع غير مقطعة من الزينكو, قسم منا سكن المهاجع وقسم آخر سكن الخيام, وكانت تلك السنة أقسى سنة مرت في حياتنا, إذ عشنا شتاءاً قارساً شديد الثلوج, وكان أفراد كل أسرة يتناوبون في الليل لإزاحة الثلوج عن الخيمة كي لا تنهار عليهم, لقد تعذبنا كثيراً.

شكل أشقاؤنا السوريون لدى وصولنا حمص لجنة لجمع التبرعات لنا, وكانوا يومياً يوزعون لنا الغذاء والخبز, ثم تولت الحكومة السورية تقديم معاشات لنا لمدة شهرين, (60 قرش لكل فرد) وكانت تكفي لشراء احتياجاتنا, وكانت سورية حديثة الاستقلال, فارتأت توزيعنا على القرى المجاورة, وطلبت من مختار كل قرية تأمين الغذاء والمسكن لنا, وكان أهالي القرى يقدمون لنا الطحين والبرغل والملابس, على مدى عام كامل, بعدها تولى الصليب الأحمر الدولي تقديم المساعدات لنا, من ثم استلمت ذلك الأونروا, وفي عام 1951 استأجرت الأونروا منزلاً أقامت فيه مدرسة ابتدائية, كما أنشأت مستوصفاً في العام ذاته لتقديم بعض المساعدات. وكان أكثر الأمراض انتشاراً بيننا في تلك الفترة التيفوئيد والحصبة».

ويتذكر أبو عرب بعض المشاهد المؤلمة في المخيم في لحظة من لحظات رجوعه إلى أيام خلّتْ من عمره:

شهر وسنة عم تمرق الأيام * والليل باكي فوق خيمتنا

وأطفال تحت البرد عم بتنام * بخيمة وريح الظلم عصفتنا

وجدّي مريض بتوكله الأسقام * أختي وأنا بنلوك دمعتنا

أمي حزينة دموعها أرقام * أرقام بتحكي بعد نكبتنا

في ذلك المخيم بدأت روح الفنان تتحرك في أعماق أبو عرب كما تحركت في أعماق ناجي العلي، ففي حوالي عام 1955 بدأ أبو عرب بغناء العتابا والميجانا والدلعونا وظريف الطول.. في الأعراس كعمه الشاعر محمود الصالح حتى اشتهر على مستوى المخيم, ومن تلك الأغاني الشعبية الفلسطينية التي رددتها شفتاه:

على دلعونا وعلى دلعونا * بلادي ما أجملها كروم الليمونا

يا طير الطاير حوم عَ بلادي * سلم ع الضيعة وسلم عَ الوادي

يا طير الطاير سلم عَ بلادي * يا تربة بيي وتربة أجدادي

سلم عَ النبعة وسلم عَ الوادي * وسلم عَ الضيعة كروم الزيتونا

وأيضاً:

يا ظريف الطول زور بلادنا * سلم عَ الأغوار وكل مروجنا

يا ظريف الطول ما بين الكروم * مثل الفراشة عَ بلاده يحوم

كل ما يهل القمر وتبان النجوم * بسأل النجمات كيف بلادنا

ثم بدأ أبو عرب في كتابة أشعار شعبية خاصة به تحمل المعاني الوطنية والثورية والحنين إلى فلسطين ويقال أن أول قصيدة خاصة به كتبها هي قصيدة تتحدث عن وداع فدائي لأخته قبل استشهاده ومطلعها:

يا خيتي دموع العين كفكفيها * كفاكي نفس خيك تجرحيها

أنا ماشي يا أختي ودعيني * امسحي بارودتي يا الله هاتيها

نداء الوطن حلفني يمين * بروحي أرض قدسي بفتديها

قسم ما عاد يغمض جفن عيني * وأشوف أعداءنا بتجولوا فيها

وفي عامي 1959-1960 دعاه الأستاذ فؤاد ياسين (سلايمة) مدير ركن فلسطين في إذاعة صوت العرب بالقاهرة إلى تقديم الشعر الشعبي الفلسطيني في برنامج اسمه «أهازيج ومكاتيب» مع شعراء فلسطينيين كبار من أمثال: الحاج فرحان سلام ومصطفى البدوي «أبو سعيد الحطيني» وعبد الله نفاع وغيرهم.

وفي عام 1964 ومع انطلاقة الثورة الفلسطينية قام أبو عرب بكتابة وتلحين مجموعة من الأشعار الشعبية الفلسطينية ذات الطابع الوطني والثوري بنفسه وأصدر عدداً من الأشرطة التسجيلية (الكاسيتات) انتشرت في المخيمات الفلسطينية، وكما كان جده الشيخ علي الأحمد شاعر الثورة الفلسطينية عام 1936 أصبح أبو عرب بحق شاعر الثورة الفلسطينية عام 1964.

وفي عام 1978 انتقل أبو عرب إلى لبنان مع المقاومة الفلسطينية، وفي عام 1980 أسس «فرقة فلسطين للتراث الشعبي» من 14 عازفاً. وقام بتأليف وتلحين وأداء الأغاني الشعبية الفلسطينية ذات الطابع الوطني والثوري حتى بلغت حوالي 300 أغنية و28 شريط كاسيت. كانت هذه الفرقة آنذاك هي الفرقة الوحيدة التي تقدم الأغاني الشعبية الوطنية للمقاتلين في مواقعهم العسكرية وفي مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان.

وفي عام 1982 حدث الاجتياح الإسرائيلي للبنان وأصيب شاعرنا بمصاب جلل حين استشهد ابنه معن الصالح في معركة غير متكافئة بعين عطا مع رفاقه أدهم سلايمة وسمير عبد الرحمن وأحمد الزمار في 9/6/1982 ولم يستطع أحد جلب جثثهم لأنهم كانوا وراء خطوط العدو. فرثاه والده الشاعر أبو عرب في قصيدة رائعة وأطلق عليه منذ ذلك اليوم لقب (ابن الشهيد وأبو الشهيد). بقي أبو عرب وفرقته مع المقاتلين الفلسطينيين أثناء الحصار في بيروت إلى أن تم الاتفاق على خروجهم منها فقرر العودة إلى سوريا.

وفي عام 1987 استشهد الفنان ناجي العلي وهو من أقارب أبو عرب من الشجرة, فتأثر الشاعر باستشهاده تأثراً بالغاً حتى غير اسم فرقته إلى «فرقة ناجي العلي» تخليداً لذكراه. قال موفق أحمد الجمل عازف العود في «فرقة ناجي العلي» التي كان يغني أبو عرب برفقتها دائماً: «رافقته في كثير من الرحلات إلى آسيا وأوروبا وأميركا حيث رفعت الرايات الفلسطينية في أكبر المسارح وأعرقها في العالم وقيلت كلمة الحق الفلسطينية على لسانه. لقد كان هناك القطب الذي يجتمع عليه كل الجاليات العربية إذ حضر حفلاته مهاجرون عرب من شتى الدول العربية. كان توجهه لفلسطين ككل، وللشعب الفلسطيني ككل، بجميع أطيافه السياسية وأحزابه وتنظيماته..».

غنى أبو عرب لفلسطين وللشعب الفلسطيني وكان بعيداً عن الحزبية فرثى جميع الشهداء مهما كان انتماؤهم السياسي من أمثال: أبو علي إياد، ماجد أبو شرار، أبو الوليد سعد صايل، أبو جهاد، طلعت يعقوب، أبو إياد صلاح خلف، فتحي الشقاقي، أبو علي مصطفى، أبو العباس، الشيخ أحمد ياسين، عبد العزيز الرنتيسي، والرئيس ياسر عرفات.

وذاعت شهرته على مستوى الوطن وامتدت إلى دول عربية وأوروبية عديدة، حيث شارك في العديد من الفعاليات الشعبية والإعلامية الفلسطينية في الوطن العربي وخارجه وكان له ظهور كبير في الفضائيات والإذاعات العربية. وفي عام 2002 شارك في فيلم وثائقي بعنوان «العودة» تم عرضه في بعض الفضائيات العربية، وأصدر أبو عرب ديوانان الأول «حداء الثوار» والثاني «؟؟؟».

وفي آخر أيامه من عام 2012 استطاع تحقيق حلمه بزيارة قرية الشجرة الزاهرة بعد غربة دامت 64 عاماً. وعن ذلك يحدثنا الأستاذ وديع عواودة من قرية كفر كنا قضاء الناصرة: ... ودّع بلدته عند مغادرتها وهو يناجي عين الماء فيها كأنه يراه للمرة الأخيرة بلهجة تقطر حنيناً وحزناً:

يا عين الميّ كان الشجر جاري * بعد نبعك يا عين المي جاري

لكن الزمن بالظلم جاري * بعدما تغربوا شمول الاحباب

وكانت آخر المشاهد الحزينة التي شاهدتها عيناه الحزينتان هي مشاهد نكبة الشعب الفلسطيني في مخيم اليرموك بدمشق وذلك من خلال شاشات التلفاز في مكان علاجه بالإمارات. فأبى أن يموت في الإمارات ليموت بين شعبه في مخيم العائدين بحمص فكان له ما أراد وتوفي في مخيم العائدين بحمص مساء يوم 2/3/2014 بعد أيام قليلة من وصوله ولسان حاله يقول ما قاله في أيام خلت:

هدي يا بحر هدي * طولنا في غيبتنا

ودي سلامي ودي * للأرض اللي ربتنا

سلملي ع الزيتونة * على أهلي الربوني

بعدا امي الحنونة * بتشمشم بمخدتنا

خلف الشاعر إبراهيم الصالح «أبو عرب» خمسة أبناء: محمد ومعن (الشهيد) وعرب ومثنى ومهند. وست بنات: مكارم وازدهار وتماضر ومنال وريم ورشا. وقد آثر المرحوم أن يسميهم بأسماء عربية أصيلة حتى يكون لهم من أسمائهم نصيب فكانوا «خير خلف لخير سلف».

رحم الله شاعرنا أبو عرب وأسكنه فسيح جناته وأبدله داراً خيراً من داره.. والشجرة تجمعنا

فادي سلايمة

حمص 2014

#الشجرة_الزاهرة

رابط المقال: https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=pfbid0Vfxc4oPLbh3b8casyerS9E5mxws3ztE6ykAL1vvATTwwVAoqnA23yZ81su2BbBhdl&id=600531870013986&mibextid=Nif5oz