حياتنا منذ طلوع النجمة حتى غسق الليل (القسم الأول)
سلسلة عشت في صفورية: مكان لايموت: حياتنا منذ طلوع النجمة حتى غسق الليل (القسم الأول)
نقلاً عن صفحة الأستاذ والباحث: محمد التوبة على فيسبوك، ومشاركة خاصة منه لموسوعة القرى الفلسطينية
حين كانت ترتسم الشمس قرصاً ملتهباً نارياً على قمة الجبال غرب صفورية، وحتى تغطس وراء الأفق وتغرق صفحة السماء بألوان الشفق الجميلة، حينها كنت أجلس خلف بيتنا على سلسلة من الحجارة على البيادر أراقب أمامي امتداداً لانهائياً من الجمال الأخاذ الذي يخلب اللب وأستمتع بسحر الغياب وأنتظر رحلة عودة الناس على طريقين : أحدهما يسير شرق بيوتنا والثاني جنوبها، ومنهما تمر مئات الأغنام بثغائها وأجراسها ودبيبها، وتعود مئات الأبقار والدواب مع الفلاحين، والحراثين، والرعاة العائدين بعد يومهم في البراري والأراضي والنشاطات الزراعية والرعوية. أنتظر حتى يعود والدي إن لم أكن معه، وكانت ينتظر معي في الأغلب الطفلة فاطمة محمد عبد الرحيم، وكانت تنتظر والدها مع قطيع الغنم، ومعي أيضاً صديق الطفولة شحادة سويدان رحمة الله عليه القريب والجار وأخي في الرضاعة.فأمه راضية ابنة عمنا محمد وهي أيضا أمي بالرضاعة فقد أرضعتني عدة مرات في طفولتي حين كانت تزور والدتي وتشعر أنني كنت بحاجة إلى الرضاعة. كنت أنتظر حتى يغيب الشفق بعد غياب الشمس بألوانه الجميلة التي تتعانق فيها الحمرة النارية والتلاوين اللانهائية من الألوان المتعددة ثم يَغسَقُ غَسَقُ الليل على الجبال والأشجار والأفق ويغرق الكون في الظلام وتتناهى الحركة وتخفت الأصوات، وحين لا يستطيع الجالس أن يرى من بعيد الزول أو الزوال، كما كنا نقول، القادم نحوه ويحق وجهه، فحنئذ كنا نقول " ضَبَّ الرَّمَس"، ولم أعرف إلا معناها العملي، ولا يبقى بعد أن ضب الرمس إلا الذهاب إلى البيت ليأوي كل إنسان إلى بيته وينتهي بذلك يوم من حياة صفورية. وتبدأ أضواء السِّراج تلتمع من خلال نوافذ البيوت وأبوابها مُؤذِنة ببدء ليلة جديدة. وتبدأ الليلة بوجبة عشاء ساخنة ثم بِسَمر بعد صلاة العشاء، ثم سهرة سريعة في المضافة ثم العودة إلى النوم المبكر، لأن تعب اليوم وعمله الطويل يبدأ بالسريان في الأعصاب وتخديرها بنعاس لذيذ، لا سبيل إلى دفع سلطانه، والغرق في نوم طويل يريح الروح والجسد والأعصاب، ويشحنها لرحلة اليوم التالي. كان من أمثالنا أن نقول عن البنت أو السيدة إن الشمس تغيب في عيونها، كناية عن نومها المبكر ، وكان من أمثالنا أن نقول عن الرجل :إنه نام كالميت، كناية عن التعب الذي كان يعانية طوال اليوم. ومع ذلك فنادراً ما كانت تمر ليلة من دون حكايات من الوالدين رحمهما الله تعالى، وأجواء كان يا كان، وقصص الشاطر حسن، والطَّقِّ على الجِلْدَة، والسفر إلى بلاد المزاريب وحمل الزاد والزوادة وبعض الأهازيج لمن هم أصغر منا سناً وبعض الأغاني والموالات الهادئة من والدتي رحمها الله وبعض قراءة القرآن من السور القصار وآية الكرسي والأدعية والرقية والتَّخْريج عن الرُّضع والقراءة لهم. وربما لعب الصغار بعض الألعاب داخل البيت قبل النوم مثل المُقْرَعْجي والسلطان أو الحزازير، وربما لعِبَ الكبار بعض الألعاب مثل ورق الشدة في الباصرة والإسكمبيل ومثل المنقلة وهي شبيهة بالشطرنج، حتى يطبق النعاس على العيون، ويرتمي كل واحد على فرشته، وهو لا يكاد يفتح عينيه. ويستغرق الجميع في النوم العميق والأحلام.وكان فراشنا كله من الصوف سواء الفرشة أو المخدة أو اللحاف. ويؤخذ الصوف عادة عند جز الخراف في الربيع ويغسل وينظف من الأشواك والعوالق ويعطي للمنجد فيكون من أحسن الفراش.كان النوم هنيئاً وعميقاً وخصوصاً إذا كان طعام العشاء دسماً من الخضراوات مع اللحم أمام البرغل الأبيض أو البرغل المطبوخ بالبندورة أو السلق أو الكوسا. أو من الحبوب مع اللحم أو من الدجاج المشوي أو المقلي أو المسلوق أو لحم الأرانب أو الزغاليل مع الملوخية أو الفريكة أو بعض الأكلات الأخرى مثل الششبرك أو المغربية أو المجدرة والرشتاية والشاكرية والمسخن. وكانت التحلية من الفواكه في الموسم أو من المخزونات مثل الرمان والعنب أو المجففات من التين والزبيب أومن المربيات من التطلي من العنب والخروب والدبس والعسل وكان أطيب أنواع المربيات والمعقود عندي هو السفرجل. فإذا لم يرغب أحد في الطعام المطبوخ فهناك دائما الزيت والزعتر والزيتون المرصوص الأخضر والزيتون الأسود مع نبتة الفيجن برائحتها العطرية اللطيفة وهناك البيض للسلق والقلي ، وهناك القاورمة المبهرة تُحَلوَس أو يقلى معها البيض، أكله مدهشة. وكان من عاداتنا أن نضع كمية من السكر فوق البيض المقلي بزيت الزيتون فتكون الطعمة مع الحبز مثل الكعك. وهناك اللبنة أو لبن الكيس كما كنا نسميها والجبنة واللبن وكان من عاداتنا أن نضع قليلا من الملح على اللبن أو قبضة من السكر وهو خليط لذيذ، وهناك السمسم مع السكر وكان عندي هو من الأكل المفضل في التحلية. وكان هناك أنواع من الخبز التي تؤكل وحدها مثل الملاتيت والزلابية والقراقيش . وهناك المخللات من اللفت والخيار وغيرهما ولا تنقطع. البيوت مليئة بالخيرات، ولم يكن أحد يسأل ماذا نأكل؟ فهو يجد الطبخة اليومية وإن لم تَقْحَم نفسه عليها أو تَهف إليها فأمامه المؤونة من كل خيرات الأرض والشجر والنبات والحيوان. وكانت قصص السهرة تتم مع سلق أكواز الذرة أو شيها أو أحيانا شي البلوط حسب الموسم أو مع وجود المكسرات من بزر البطيخ والشمام والقرع وميالة الشمس ومن البندق واللوز والفستق والكعكبان والقضامة الناعمة والخشنة والقضامة بالسكر والملبس على لوز ومعها راحة الحلقوم والبسكوت والعجوة أو التمر والهريسة والبليلة وهي القمح المسلوق والقَلِّية وهي القمح المقمر على النار المقرمش وقرون الخروب الجافة والزعرور حسب الموسم، وكان ذلك عموما يسمى النُّقْل ومعناه في اللغة ما يأكله الشارب مع الشراب وكنا نقول في الأمثال كَمُل النقل بالزعرور استهانة بالزعرور وتمثيلا للشخص غير المرغوب به حين يلتحق بجماعة لا تحبذ وجوده، برغم أن الزعزور كان لذيذاً وكان من الأكل المفضل عندي ومثله كان عندي البندق وكثيراً ما كنت آخذ بيضاً من قن الدجاج في بيتنا وأذهب إلى دكان عمي طه، أو غيره ومقابل البيض يملأ جيوبي بالبندق، كان المال قليلا في أيدي الناس أحياناً وكان الاقتصاد العيني دارجاً. وكثيرون من باعة الزعرور والبرتقال والفخار الذين كانوا يأتون إلى صفورية، وبعضهم ربما كان من منطقة غزة ، لبيع سلعهم كانوا يقبلون كميات من القمح في مقابل تلك السلع.
بعد تناول العشاء والسمر والقصص تغفو العيون ويخفض ضوء السراج حتى لا يكون في الغرفة إلا ضوء خافت، ويغرق الجميع في نوم هادئ عميق حتى طلوع النجمة، وهذا الوقت يكون على الأرجح قبل ظهور الفجر بساعتين أو أقل قليلا، فيهب الجميع من النوم وكأن ساعة ضخمة دقت لهم. ولم يكن هناك في الحقيقة ساعة ولاغيرها بل كانت الساعة الحيوية في قلوب الناس مربوطة مع صياح الديك، ومع نجمة الصبح المتلألئة الوضاءة كأنها في الأفق درة بيضاء لامعة، وهي نجمة الزهرة. وهذه الأوقات هي ساعة التعبد لمن تعود على قيام الليل في الهزيع الأخير منه، وكانت بعض المساجد تؤذن في مثل هذا الوقت وكان يسمى الأذان الأول ، وهذه الأوقات هي ساعة الاستعداد لبدء رحلة اليوم الجديد في حياة صفورية وحياة أهلنا. فاليوم يبدأ من طلوع نجمة الصبح ويستمر حتى غسق الليل. كان الوالد والوالدة يبدآن بالوضوء وصلاة بعض الركعات، ثم تنطلق سلسلة من الأعمال وأولها أن ينزل والدي إلى أرض الدار وإعطاء الدواب عليقها ويسقيها ويضع السَّرج أو البرذعة على ظهورها، ويعود ليفطر ما تيسر من الطعام من البيض المقلي أو المسلوق أو المربيات والسكريات وكان والدي مغرماً بها ويختم بالقهوة، ثم ينزل مع الوالدة ليحمل الخضروات التي جلبها بالأمس من الخلديات، ويضعها على ظهور الدواب، وأما أهل بساتين العين والقسطل فكانوا أقرب إلى الناصرة ومن البساتين ينطلقون بخضراواته وأحمالهم. وقبل أذان الفجر بقليل يكون قد انطلق مودَّعاً بالدعاء. وما لم يكن هناك مدرسة فأنا ألزق مع والدي حيثما ذهب، وكان مشوار الناصرة هذا مؤكداً ويومياً في العطلة الصيفية والأعياد، وتسير الدواب في طريقها المعهود وتخرج من صفورية وتدخل بين أشجار الزيتون وتقترب من بساتين منطقة العين أو القسطل وهنا تتوقف الدواب، ليقوم الناس بأداء صلاة الفجر.
المسير من البيت يكون عادة بليل قبل الفجر بقليل وإذا لم يكن في السماء بدر فالظلام شديد والنجوم الساطعة تبدو أشد لمعاناً وجمالاً وكثافة من المعتاد، وتبدو وكأنها أقرب إلى الأرض. ثم تبدأ أنوارها بالخفوت، وتبهت وضاءتها أمام أنوار الفجر المتزايدة. ومن عاش في أحضان الطبيعة من طلوع النجمة إلى الفجر هو وحده الذي يفهم رائحة الأحاديث المعطرة بتراب الأرض التي تدور بين الفلاحين والأهالي في مثل هذه الأوقات، وهم يمشون على دروب توريد الخضار إلى الناصرة ، وهو وحده الذي يفهم لمَعان الألوان وهي مُلَوَّحة بألوان النبات والحصاد ، ويفهم حركة الحياة التي تموج بها مخلوقات لا حصر لها في تراب البستان أو أثلام الحراثة أو تحت الزيتون والأشجار المثمرة أو في أعشاش الطيور. والذي عاش في أحضان الأرض يعرف معنى المِلْكية والعناق مع الأرض والحجر والشجر والطير والحيوان والحشرات والينابيع. والذي لم يقف في الأرض كل يوم على مدار السنة لن يفهم ألوان السماء والنبات والطيور والحيوانات والأرض والماء. كيف يفهم معنى اللون مَنْ لم يركض حتى ينقطع نفسُه في أرض خضراء على مد البصر موشاة بالبرقوق والنرجس وعصاة الراعي والأَقَاح وآلاف الورود التي لم نضع لها أسماء، وبقيت كأنها يوم نزل آدم عليه السلام إلى الأرض تحتاج إلى من يسميها، والذي لم يقف في الأرض كل يوم على مدار السنة لن يعرف ما يطير منها من آلاف الطيور في رفوف رفوف، وكيف يفهم معنى الخيرات من لم يَعِشْ أياماً كاملة في أي وقت من السنة وهو يأكل من الأرض الخبيزة والزعتر الأخضر وخبز غزال وبيت انْجَنْ وقُرْصَعَنّة وعِلْتاً ومُرّاراً وسِنّارِيَة وعكوباً وشومراً وقُرَّة وحوِرِّة وبسباساً وقُرِّيصاً ويحمل معه العُويّنَة واللُّسّينة لتصير فطائر وملفوفاً، أو يشوي القمح الأخضر ويفركة فريكة ويأكلها بطعمها اللذيذ أو يشوي الفول الأخضر والحمص الأخضر والعدس الأخضر ويأكل الهويسة هكذا كان اسمها، أو يلتقط من تحت الزيتون الحبات الناضجة المليئة بالزيت، أي الجرجير، فيأكل منها حتى يتدفق الزيت من فمه وربما لفها بالعِلْت أو الهندباء والمرار . وكيف يفهم معنى الملكية وحب الأرض من لم ير أشجار اللوز والمشمش والقراصية والبَرابِلُّلو تهِبُّ بالنوار وأشجار الرمان تهب بأزهار كالنار وأشجار التين من كل لون والتوت الأبيض، ولم ير محيطاً من الصبار منوراً ومتبرعماً ومثمراً وكيلو متراً مربعا من الخضار والخيرات الحسان.
ومن استيقظ مع نجمة الصبح وخرج يمشي في الأرض هو وحده الذي يعرف كيف تبدو السماء رائعة الجمال مرصعة بالكواكب الدرية والنجوم الزاهرة ، ويعرف كيف تبدو السماء قريبة في الليل، وكيف تبدو النجوم كثيفة منيرة، وخصوصاً إذا كان القمر غائباً أو محاقاً، فآنئذ يزداد الظلام ظلاماً وتزداد النجوم بريقاً، وحين يمشي ترافقه النجوم ويعرف كيف يرصد مسيرها ويهتدي بحركتها، الليل بلا قمر يبدو موحشاً، والأشياء تبدو على غير حقيقتها، وما أسهل أن يخاف من لم يتدرب على رؤية الأشياء مرات كثيرة في النهار والليل ليتعلم تقدير المسافات وفهم الأشكال. ما أسهل أن يرى الشَّتول رجالاً مقرمزين، أي يجلسون القرفصاء، يتربصون به، وما أسهل أن يظن حفيف الأغصان أحاديث خفية من بسم الله الرحمن الرحيم، ولكن مع التدريب وتعود العين على الظلام يتساوى المسير في النهار والليل، وأعرف من الأعمام وأبنائهم ومن الصفافرة من كان مشهوراً بأنه دعَّاسُ ليلٍ جسورٌ يخاف منه العفريت النفريت، وتفر من الجناني. وأما إذا كان الليل مع القمر فهو حقاً صديق السَّارين في الليالي، وأنيس العيون الساهرة على قطعانها وأرزاقها في جوف الليل، وأنواره الفضية الرائعة تجعل الليل جميلاً إذا سجى في الهزيع الأخير من الليل قبل أن تلوح تباشير الفجر. وكيف يفهم معنى الزمان من لم يستيقظ مع نجمة الصبح والليل يلملم ذيوله ليرحل أمام الضياء. ويتفجر الفجر في عمود الصباح وينسلخ فيه الليل وتتلون السماء بلوحات نورانية لا تنتهي، موجة أنوار خلف موجة أنوار، ولون خلف لون حتى يشرق الشرق، وتتجلى الشمس على الأفق حمراء كوجنات الرمان وزهراته والبرقوق المتوهج كالجمر، ومثل وجنات الحبيب القريب وهو يمشي مع الحبيب من النجمة حتى الشروق وهم يذهبون إلى البستان أو الحقل أو قطاف الزيتون أو تحضير الخضار أو الحصاد أو الكرم أو المقثاة أو الحكورة ، هناك ليفطروا تيناً طازجاً مغسولاً بالندى قبل أن يشرعا في العمل. التين المفلوع الدافع لقلبه الأحمر بالعسل المتجمد على شفاه الفلوع.
وهذا الفجرُ في كل يومٍ فجرٌ خاصٌ لا يتكرر، بل تتخلق ألوان جديدة وتتنور السماء بأطياف جديدة، ولكل فجر معانيه ولكل شروق أفراحه. ويتجدد مع الشهور، ففجر في تشارين غير فجر في كوانين، غير فجر في تباشير الربيع، غير فجرفي تموز وآب اللهاب، غير فجر في انقلاب أيلول. ومن كان يحب أن يفهم معنى المشارق فليستيقظ طوال عمره في كل يوم مثل أهل صفورية مع طلوع النجمة. وليراقب النجوم وهي تهوي إلى الغرب ونجمة الصبح وهي تومض متلألئة بيضاء، ثم ليراقب المشارق وهي تتفجر بالنور كل يوم من زاوية مختلفة على الأفق الشرقي وليستمتع بالأنوار والظلمات والألوان والظلال وهي تتشابك وتتعانق وترسم لوحات تأخذ بالأنفاس وتتغير لمحة بلمحة. ثم حين تقترب الشمس من الظهور على الأفق فليسمع استقبال الكون لها من ألسنة الطيور، لا يبقى طير لا يبدأ بالعزف الفطري قبل أن تظهر الشمس بقليل وكأن يداً سرية أعطت إشارة البدء بالتغريد، ويستمر هذا العرس حتى تعلو الشمس الأفق قدر قامة رجل وعندها يخبو العزف المشترك، وتطير الطيور إلى أرزاقها. كل يوم مَشرِق متباين وله ألوانه الخاصة التي لا تتكرر، وكل يوم حفلة أنوار، وكل يوم يغرد الكون، وكل يوم تصغي أرواح أهل الأرض للغة السماء . هذه لوحة ضئيلة من لوحات الحياة في صفورية، إنها تسري في روحي مثلما سرت في روح كل من عاشها. والدي ووالدتي كانا يعيشانها كل يوم على مدار السنة، وكل صفوري وصفورية كانا يعيشانها كل يوم أيضاً على مدار السنة، وما أقصه عن والدي ووالدتي تأكدوا أنه جرى مع كل والدين وفي كل بيت وفي كل مزرعة وحكورة. وكنت منذ وعيت أعيش هذه اللحظات مع والديَّ. كان أبي يزيد علينا بأن يبدأ مع أمي رحمة الله عليهما بالوضوء وأداء بعض الركعات لله، ولم نكن نفهم مغزى ذلك كثيراً. ولكني الآن أدرك أن أبي وأمي ، وأباءكم وأمهاتكم في كل صفورية، كان كل واحد منهم يحس أن الكون كله بكل مخلوقاته يسبح معه، ويؤدي حق الله فلِم لايكون هو عابداً مع هذا الكون؟ إن من يقوم الليل يحس أن كل الكائنات تسبِّح معه . ثم بعد ذلك تسير القافلة قبل الفجر وتكون الصلاة في الطريق. كان والدي صاحب صوت جميل في قراءة القرآن، يركع ويسجد مع إخوانه من الذاهبين إلى الناصرة مثلما تتمايل السنابل والأغصان ويقرأ ويرتل القرآن بصوت جميل رخيم عذب مثلما ستغرد الطيور، كان صوت والدي إذا قرأ القرآن شجياً آسِياً حزيناً فيه تضرع وخشوع ولكنه عذْبٌ يرقق القلب وتصغي له الروح ولو لم نكن ندرك المعاني. ما أروع قراءته حين كان يقرأ خواتيم سورة البقرة وآل عمران وغيرهما. كل شيء يسبِّح في حركة كونية هائلة رائعة تختلط فيها الأنوار بالظلال والألوان والتغريد، إنه الجمال، إنه سريان روح الكون في روح الإنسان فيَكبُر الإنسان حتى يصير أكبر مخلوق في هذا الكون الفسيح اللامتناهي. هذه هي الحياة مع الأرض في صفورية. هل نقص عنها قصصاً؟ نعم، يمكن أن نقص قصصاً، ولكن من أين نبث في قصصنا الروح حتى لكأن كل كلمة فيها برقوقة أو نرجسة أو زهرة رمان ؟ ومن أين نحرك معها الكون كله في ضمير السامع أو القارئ حتى لكأن كل جملة تروى تغريدة الألوف المؤلفة من أمم الطيور والمخلوقات الجميلة ؟ هل نقول إن قصصنا كان مع تغريد العصفور الدوري والشحرور والزرزور والبلابل وعروسة التركمان والوَرْوَر والهدهد والحجل والحمام واليمام والسنونو وأبو سعد وأبو مصص والغراب والزاغ وسراق حناء أمه والفسفسة واللقلق والحدأة والنسر والصقر والآلاف المؤلفة من الطيور المهاجرة العابرة لبلادنا؟ وهل نذكر الفراش وفرس النبي والزيز وأم علي والآلاف المؤلفة من الهوام الطيارة التي كانت تهجم على ضوء النار التي نوقدها في البستان في الليل وفي الحكورة وفي المقثاة وفي البراري؟ هل يمكن استحضار كون كامل بكل أَلَقِه وتلاوينه وحركاته وسكونه وتفجر الحياة في كل أركانه؟ ما أظن ذلك ممكناً مهما حملت الكلمات من الصدق ومن حرارة الشوق ونار الألم وحرقات الشوق إلى تلك الربوع. كان عالماً جميلاً، قتله الغدر والضعف والخيانة والتآمر الدولي، كان عالماً حالماً واعداً بكل الخير والطموح والآمال الكبيرة. وما كان أقسى على الإنسان أن يفقد وطنه. لقد خلَّف ذلك في الروح جروحاً نازفة لا ترْقَـأ، وأحزاناً حارقة لا ينطفئ سعيرها، كانت نكبة لا تدمع منها العيون وحسب بل كان يمكن أن تغرق منها النفوس في غيابات اليأس وتذهل منها الألباب في دياجير القنوط لولا الإيمان بالله تعالى ثم الثقة بأمتنا وبأنفسنا وبأن النصر لنا في نهاية المطاف على عوامل الهزيمة والضعف فينا ثم النهوض بواجبات تطهير الأرض وتحريرها من النهر إلى البحر حقاً وصدقاً لا تكتيكاً ولا تحريكاً.
بعد صلاة الفجر تستأنف المسيرة إلى الناصرة سيرها حتى تأتي الشارع المزفت الذي كان يربط الناصرة مع شفا عمرو وتعبره الدواب ثم تتجه صعوداً نحو الناصرة حتى تصل إلى قمة التل الصاعد وهناك يبدأ النزول في الناصرة في شوارع شبه فارغة ونمر على مستشفى وعلى كنيسة لها شأن عند المسيحيين ثم يستمر المسير حتى نصل سوق الحسبة قبل شروق الشمس بقليل أو مع شروق الشمس، وهناك ننزل الأحمال، وننتظر لتسليمها للعاملين في الحسبة،وتربط الدواب في أماكن مخصصة لها وهناك من يحرص على توفير الماء والعليق للدواب حسب توجيهات أصحابها. ويفعل مثلنا مئات الفلاحين القادمين من صفورية وكانوا معنا على الطريق إلى الناصرة، وكانوا يحملون عشرات الأصناف من الخضروات وغيرها.
ومن التنكيل والتعذيب الذي كان يوقعه الإنجليز بآبائنا في موسم توريد القمح، وهو محصول أساسي في حياة صفورية، هو أن الإنجليز كانوا يغرقون السوق بالقمح الأسترالي والطحين الأسترالي بأسعار متدنية جداً، فيفقد القمح الصفوري قدرته على المنافسة، وربما كان هذا الإغراق يؤدي إلى تراكم الديون على الفلاحين حتى يتم مصادرة موسمه وتخريب بيته والزج به بالسجن، حتى يسدد أو يسدد عنه أهله وإخوانه. البيدر كان رمز الثروة في صفورية وكان أيضاً المحرك الأساسي لكل حياة الناس، فكما يقول الموظف هذه الأيام : على الراتب ،كان الفلاح يقول : على البيدر. وعلى البيدر تعني بعد لملمة الغلال والمحاصيل في الصيف في أواخر تموز، على البيدر تنعقد الأفراح، وعلى البيدر كسوة النساء والبنات والأولاد، وعلى البيدر حفلات طهور الأولاد، وعلى البيدر شراء الذهب للأحباب وعلى البيدر الوفاء بالنذور وسداد الديون ، وعلى البيدر بناء البيوت وترميم البيوت وعلى البيدر إعداد المؤن للعام القادم وعلى البيدر كل أحمال العام الذي مضى والذي هو أت. ولكن البيدر أيضاً كان يشهد مشكلات في دراسة الحبوب كان يجب حلها، خيول كثيرة رفست الدرّاس فأودت بحياته أو بأحد أعضائه، وغبار كثيرة دخل في العيون وآذاها وأرمدها، وخلافات على التذرية أغضبت الجيران ولا بد من مصالحتهم، وخلافات على القسمة أو سداد الديون أو الحجز على المحاصيل، وعلى البيدر معالجة المرضى وخصوصاً من الملاريا والتفوئيد، وعلى البيدر حياة نابضة بكل تجلياتها وجمال المحاصيل فيها، وأهمها القمح الذي حاول الإنجليز تدميره وتخريب بيوت آبائنا بذلك. وكان لهذه السياسات الظالمة نتائج مفجعة على مستوى كل فلسطين واضطر بعض الناس إلى بيع قسم من أراضيهم، ولكن صفورية العظيمة لم تسجل اسم بائع لأرضه ولاسجلت اسم سمسار لأرض غيره، ولاسجلت وجود مشبهين خونة ومشبهات خائنات، بل سجلت أن قوة دفاع صفورية شاركب بقتل أمثال هؤلاء الخونة حين انكشافهم. فلله دركم يا أبناء صفورية رجالاً ونساء وشيباً وشباباً وأطفالاً وطفلات. ومن العذاب والتنكيل الذي كان يوقعه الانجليز، على الفلاحين والمزارعين الصفافرة في هذه الرحلة إلى الناصرة ، على الإنجليز لعائن الله والملائكة والناس أجمعين، هو أكذوبة الرفق بالحيوان، فقد كانت دوريات الانجليز العسكرية المرافقة لجمعيات الرفق بالحيوان تراقب الدواب وهي ذاهبة إلى الناصرة وتوقع الغرامات على صاحب أي دابة تعرج مثلا أو أي دابة يقدرون أن المزارع حمَّلها أكثر من طاقتها. وفي كثير من المرات كانت دوريات الرفق بالحيوان تجبر مئات المزارعين على الوقوف في الطريق وإنزال الأحمال عن ظهور الدواب لفحص ظهر الدابة إذا كان مجروحاً وفيه دَبَرَة كما كانت تسمى، وهي قرحة ، وعندئذ تكون الغرامة عالية ويمنع المزارع من التحميل ويعاني من رمي خضرته في الطريق وقد يصادر الانجليز الدواب ويسوقونها إلى مراكز اعتقال عندهم، ولا يسترجعها صاحبها إلا بدفع الغرامات وشراء دوائهم المخصص للدواب، والبقاء تحت مراقبتهم. وهكذا كانوا يعذبون الإنسان بحجة الرفق بالحيوان، ولم يكن قصدهم إلا جمع الغرامات وتخريب رزق المزارعين وتدمير محاصيلهم.
ومن النوادر المضحكة المبكية في سياق الرفق بالحيوان أن أحد أهل صفورية كان لديه حمار قوي ولكنه على ما يبدو كان حماراً فهماناً !! لأنه كان حين يرى دورية الرفق بالحيوان يبدأ بالعرج فجأة كي تراه الدورية فتنزل عن ظهره وتغرم صاحبه. ويروي صاحب الحمار أن هذه المسألة تكررت على نحو يدعو للدهشة فقوائم الحمار كانت سليمة وكان يعود كما كان من دون عرج بعد ابتعاد دوريات الرفق بالحيوان وكان صاحب الحمار يقول يبدو أن هذا الحمار متعاون مع الانجليز!!! وفي إحدى المرات غرم الانجليز صاحب الحمار غرامة كبيرة فغضب المزارع واتخذ قراراً هاماً. فحين عاد من الناصرة أخذ الحمار إلى منطقة بعيدة عن الشارع العام المزفت بين الصخور وفي الأرض البور على يسار عين صفورية وهناك وضع في مؤخرة الحمار أصبعاً من الديناميت وأشعله واحتمى بالصخور لينفجر الحمار إرباً إرباً. وكان يقول تبين لنا أن الحمار ليس متعاوناً مع الانجليز فقط بل تبين أيضا أنه من أصل إنجليزي !!! طبعاً كان قتل الحمار في ذلك الوقت خسارة كبيرة تعادل الآن خسارة السيارة الشخصية تماماً.