طفلة الشاطئ... أصبحت محامية
تغيّرت حياة الطفلة هدى غالية، من قطاع غزة، بالكامل عام 2006، إذ حرمها العدوان الإسرائيلي من أسرتها، لكنّها اليوم باتت محامية تسعى لمحاكمة الاحتلال
في صباح يوم التاسع من يونيو/ حزيران 2006، كانت هدى غالية طفلة تبلغ من العمر 11 عاماً، عاشت أياماً سعيدة، لأنّ العام الدراسي كان قد انتهى، وستذهب في اليوم نفسه إلى شاطئ البحر، وسط أجواء عائلية جميلة، لتلهو مع بقية أطفال العائلة. لكنّ ذلك اليوم تحول إلى كارثة بالنسبة للشعب الفلسطيني عموماً.
لا يكاد أحد ينسى مشهد طفلة الصف السادس وهي تنظر إلى أفراد أسرتها الذين راحوا ضحية مجزرة إسرائيلية على شاطئ شمال قطاع غزة، ثم ركضت نحو والدها لتخبره بذلك حتى صدمت بمشهد والدها الذي استشهد هو الآخر، ثم انهالت بالصراخ والبكاء: "يابا يابا". صارت قصتها حديث العالم حينها، والجميع تداول الحديث عن طفلة الشاطئ التي استشهد أفراد أسرتها ثم والدها الذي كانت تبحث عن الأمان معه.
هدى عيسى غالية، ولدت في 17 يونيو/ حزيران 1995. ومنذ عام 2006، باتت تلك الطفلة شابة قوية، وحصلت في 26 يناير/ كانون الثاني الماضي على إذن مزاولة مهنة المحاماة النظامية.
لم تكن هدى تعي كثيراً أحداث الانتفاضة الثانية التي وقعت عام 2000، وأثرت في جميع مناحي الحياة في قطاع غزة، وفي الأراضي الفلسطينية كافة. لم يكن في منزل العائلة تلفزيون حينها. كانت تحب اللعب وتعيش وسط عائلة تمتهن الزراعة، فترافق والدها منذ طفولتها إلى الأرض، لتلعب بالقرب منه في بعض الأحيان، وتراقبه وهو يزرع في أحيان أخرى وتحاول تقليده.
تقول هدى لـ"العربي الجديد" عن يوم المجزرة: "كان يوم جمعة، آخر ما أذكره أنّ والدي كان يحصد ثمار البندورة (طماطم) والباذنجان، ثم توجهنا إلى المنزل لنجهز الطعام والملابس كي نقضي بقية اليوم على شاطئ البحر. كنا في الظهيرة، وكان كثير من الناس على الشاطئ، وبينما كنت ألعب مع الأطفال كان والدي بعيداً عنا يلعب الورق مع بعض الشبان، عندما أطلقت قذائف من زوارق إسرائيلية، فاختلف كلّ المشهد". تضيف: "هرب الناس حينها وبدأنا في جمع أغراضنا، واتصلنا بسائق سيارة كي يحضر لنقلنا، لكنّ قذيفة وقعت خلفنا، فإذا بالدنيا تنقلب، وشعرت بإصابتي، لكن وجدت أمامي الجميع مصاباً، فيما أشقائي وزوجة والدي استشهدوا. جريت لأبحث عن والدي فوجدته ملقى على الرمل وقد استشهد... هنا صرخت وصرخت وبكيت طويلاً. وعلى مدار أشهر من بعد الحادثة، عشت صدمة نفسية".
التقط مشهد "طفلة الشاطئ" مصور التلفزيون الفلسطيني، زكريا أبو هربيد، فكسبت الفتاة تعاطفاً شعبياً ودولياً كبيراً وإدانات واسعة لإسرائيل. نقلت هدى بعد إصابتها إلى مستشفى "كمال عدوان" في شمال قطاع غزة، لتلقي العلاج من شظايا القذيفة في أطرافها السفلية. عايشت صدمة نفسية أضافت إليها الكاميرات التي لاحقتها ضيقاً هائلاً، فيما كانت تعيش في أعقاب المجزرة عدة أشهر في منزل عمها.
التزمت هدى في البداية الجلوس وحدها بعيداً عن الجميع؛ صغاراً وكباراً. كانت ترفض أن تكون لها صديقات في البداية، وأكملت المرحلة الإعدادية في مدرسة "عباد الرحمن" الخاصة، ولم تكن تحصل على درجات عالية في تلك المرحلة، لكن تحسن مستواها الدراسي في المرحلة الثانوية، وأنهتها في مدرسة "تل الزعتر" بمعدل 71.9 في المائة. لم تكن المجزرة هي آخر الظروف السيئة التي عايشتها هدى، فقد اختبرت من بعدها الحرب الإسرائيلية الأولى على غزة ما بين عامي 2008 و2009، واستشهد زوج شقيقتها فيها، كما أصيبت شقيقتها إصابة خطيرة، أسفرت عن استشهادها في تاريخ 9 مارس/ آذار 2009. وعايشت الحرب الإسرائيلية الثانية عام 2012 والأخيرة عام 2014 بمزيد من التأزم. تقول: "لم يجرِ تفعيل قضية أسرتي في المحاكم الإسرائيلية للأسف، فأخبرني المحامي، محمد سهام العلمي، من المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان، وهو المسؤول عن ملف أسرتي، أنّ المحاكم الإسرائيلية اعتبرت قطاع غزة منطقة معادية، ولا يجوز رفع قضايا منه، وعليه تم إيقاف ملف الدعوى ضد الاحتلال الاسرائيلي، لكن قررت أن أدرس الحقوق وأن أكمل مسيرتي في الدراسة حتى أفعّل القضية دولياً".
تخرجت هدى في صيف عام 2017، ووقفت أمام منصة التخرج، تعرّف الجمهور بهويتها، وأكدت أنّها ستكمل مسيرتها اليوم بالرغم من المجزرة التي حلت بأهلها، فيما كان الهتاف والتصفيق كبيرين من الجمهور. ثم بدأت في مزاولة المهنة داخل مكتب المحامي الذي ترافع في قضية أسرتها، وحصلت على شهادة مزاولة المهنة في يناير/ كانون الثاني الماضي، وهي ترغب في الانطلاق لتصبح محامية عن حقوق الفلسطينيين ضد جرائم الاحتلال.