عشت في صفورية: مكان لا يموت

عشت في صفورية: مكان لا يموت

عشت في صفورية: مكان لا يموت  | موسوعة القرى الفلسطينية

 

عشت في صفورية: مكان لا يموت

الطريق إلى الخَلَّدِيَّة أو الخَلَّدِيَّات. القسم الأول

   عشت في صفورية: مكان لا يموت

في صيف 1947 كانت آخر مرة نَعزُب فيها في الخلديات كما جرت بذلك عادة الوالدين. كنا ننطلق من بيتنا متوجهين غرباً، وعلى يسار أول طريقنا إلى الخلدية كما سبق لي أن ذكرت بيوت جيراننا محمد رشاد، وشحادة الشايب ودار يوسف العزيرية وأخته زهرة العزيرية، وخليل أبو شقرا وخضر أبوشقرا. والأرض على يميننا اسمها رباع الناطح، منها قسم لنا وقسم لمحمد رشاد ولبقية الجيران، وهو منحَدر يصل في النهاية إلى قاع يعرف باسم الدوار، وفيه زيتون قديم، كانوا يسمونه كفري، ويعنون أنه من عهود قبل الإسلام، يحمل أحمالاً ضخمة مباركة. ثم نستمر في المسير فنجد هناك على اليمين جدراناً من الصبر ثم حكورة لدار العفيفي، ونسير حتى نصل منطقة اسمها أبو صحن، وعندها يلتقي طرفا هضبتي صفورية فيصير خانقاً، فإذا جاء المطر صار هناك سيل وفيضان هائل صعب العبور، ويصب كله في أرض البركة. فننعطف يميناً وتكون منطقة البركة على يميننا، ويقف على يسارنا جدار صخري عال مثل الجبل هو امتداد لهضبة السدر. والبركة أرض خصبة غنية بالماء، وتمتد إلى اليمين حتى تعود إلى الدوار، وهي لخليل ابراهيم العباس، ولا تجف فيها المياه طوال العام، والموسم الصيفي فيها عجيب بغزارته وعطائه. وبعدها غرباً ترتفع الأرض في ظهر جابر وغابة الدّيدَبة، وأملاك للناس اسمها المحموديّات، ولعلها لجيراننا. ثم تقوم مناطق رعي أمام غابة الديدبة، ثم ندخل غابة من الزيتون اسمها البرانس، وعندها ينتهي طرف الجبل الماشي معنا على اليسار، وفي قمته النهائية بيت دار أبو الحجل. في هذا الزيتون لنا عدد ممتاز من الأشجار، وهي قديمة وحمالة لأحمال مباركة، ومنها الكثير للحدايدة، ثم نخرج من غابة الزيتون، فتظهر لنا سناسل حجارة جديدة، أو سلاسل، ثم تظهر أراض زراعية واسعة شاسعة، ومنها ما هو مزروع بالقمح وبالزيتون وما شاكله، ومنها ما هو أرض مشاع للمراعي وهي أرض معشوشبة مخضوضرة طوال العام. وننعطف يساراً لنقطع الطريق المزفت القادم من شفا عمرو والذاهب إلى الناصرة. ونتقدم لنمر على أراض أسمها ذراع أبو حسن ثم تلال من أشجار المَل واسمها مَلَّات الشيخ علي. وندخل إلى بساتيننا من شرقها. ويقال إن الهالك موشيه دايان بنى له بيتاً على تلال المل المشرفة على بساتين الخلديات. وتقوم الخلديات على واد تجري فيه المياه طوال العام. وهو يقسم البساتين إلى شرقية وغربية. وكان أول البساتين من ناحية الجسر القائم على شارع شفا عمرو الناصرة هو بستان رضا محمد السليمان، ثم بعده بستان أحمد كليب ثم بستان محمد عبد الحميد العباس ثم بستاننا الغربي، ثم آخرون وعلى الضفة الشرقية كان أول البساتين هو بستان أسعد الحاج مصطفى ثم بساتين آل التوبة الشرقية ثم بساتين حسن الأحمد وأحمد المحمود ثم الحدايدة وآخرون. كانت بساتين الخلديات ومنها بساتيننا مليئة بالخيرات من كل أنواع الخضراوات والفواكه وخصوصاً القراصية والرمان والتفاح البلدي والبرابللو والكمثرى والسفرجل واللوزيات. ولكن درة بستاننا كان الرمان، كان الوالد قد زرع قطعة كبيرة من البستان بأشجار الرمان، ربما كانت تعادل ربع الأرض في البستان الشرقي وقد تكون ثلاثمائة متر في مثلها أو يزيد، فكانت غابة رمانية رائعة الجمال فإذا أزهر الرمان بزهراته القانية الحمراء كالدم المتورد في وجنات الصبايا صارت المنطقة آية من آيات الجمال الخلاب للألباب، وما كان يحلو لي سوى السير في هذه الغابة الرمانية والاستمتاع بزهرها الفتان. ثم كانت أنواع الرمان مقسمة ثلاثة اقسام : مَلِّيسي وهو بطعم حلو كالعسل ولون جلده من ألوان كأنها قوس قزح ومشتقاته ولا تشبع العين من النظر إلى اختلاط الألوان في جلدته، ومن دون أن أقسم يميناً إني كنت أحياناً استمر في تمعن ألوان جلد هذا الرمان حتى أني أحيانا كثيرة لا أسخى بكسر الرمان وأكله لجمال جلده واختلاط الألوان بأشكال عجيبة، ولا سيما أنه طازج على أمه لم يذبل ولم ينفلع. ونوع رمان لَفَّان وهو حامض حلو كأنه شراب الليمون بالسكر، منعش على التعب كأنك تشرب عصير الليمون على، ولون جلده فاتح لامع كأن ملمسه بللور. ونوع رمان اسمه بغَّالي وهو بجلدته أحمر غامق، وحبته أكبر من حبات الأنواع الأخرى، ولو قلت إن بعض أكوازه في ضخامتها كانت تعادل كبر رأسي وأنا ابن تسع سنين لما ابتعدت عن الحقيقة، لأن الأهل كانوا يقولون أحياناً عن بعض الحبات هذه أكبر من رأس محمد. الرمان البغالي طيب الطعم كبير الحبات، والجملون في حبة الرمان جميلة التنسيق والمنظر وجملون واحدة يشبع المشتاق. ورمان صفورية مشهور وله سوق رائجة في حيفا والناصرة، ولكن رمان الخلديات يفوق كل رمان أيضاً. وبعد أن هاجرنا من صفورية في 16/7/1948 وصلنا بنت جبيل في أواخر آب وأوائل أيلول ورجع بعض أهل صفورية لمحاولة جلب ما يستطيعون من مقتنيات. وكان ممن رجعوا ومكثوا بعض الوقت جارنا في البستان الغربي محمد عبد الحميد العباس وجارنا في البيوت في صفورية ، ولما عاد من فلسطين اجتمع مع والدي في حمص وكان معه عدد من الأعمام منهم عبد الرحمن ويوسف ومصطفى وسعيد وأبناء الأعمام وجيران من صفورية من دار مصلح وعتابا وملحم والعيلوطي حكى لنا الجار ما رأى من الحمل على أشجار الرمان والفواكه في بساتين الخلديات ومنها بستانه وبستاننا الغربي وكان يتحدث ويبكي والجميع يبكي ومما قاله ووعيته قال: لقد بلغ عمري أكثر من الستين وأنا في البساتين ولكني لم أر في حياتي رمانا مثل رمان البستان الغربي ولا رأيت ثمرا مثل ثمر فواكه البستان الغربي. وكان يقول هذا ونحن نعلم أن بستانه هو كان مضرب الأمثال في الخلديات خاصة وفي صفورية عامة. وكانت بساتين العين تضرب أرقاما قياسية في انتاجها وكان هو يعرف ذلك، لأن دار عباس لهم عدة بساتين في العين عند القسطل، ولكنه كان يؤكد أن بستاننا الغربي تفوق وفاق الجميع، كانت فروع شجر الرمان لكثرة الحمل قد انشلخت عن أمها لأن العادة جرت على أن تسند الغصون الحاملة بمساند على شكل حرف سبعة في رأس خشبة مخصصة لهذا الغرض، أحمال الرمان غلبت الفروع والأغصان وشلختها ورمت الرمان على الأرض. ووصف بقية الفواكه والأشجار وبكى وأبكى وانتحب وانتحبوا ومضوا إلى رحمة الله وفي قلوبهم غصص من الشوق للأوطان والديار وجنات البستان.

ومثلما كانت الأحمال على أشجار الفواكه عجيبة، كانت الأحمال على الخضروات أعجب. وكان الوالد والأعمام يوسف وعلي وأبناء عمنا محمد: صالح وعبد القادر، والحاج أسعد وابنه مصطفى مع كل النشاط ومعهم عدد من العمال والعاملات لا يكادون يلحقون بقطاف الخضراوات وترتيبها وشحنها كل يوم إلى الناصرة أو إلى حيفا. ومثلنا بقية البساتين فالكل يطلب المساعدة والعمال لمعاونته والفزعة له. كانت المواسم تغلب أصحابها بكل معنى الكلمة، وكانت بعض المحاصيل في النهاية تقلع قبل نفاد عطائها وذلك لزراعة موسم جديد من نوع جديد، وكثيراً ما شاركت في قلع البندورة والباذنجان وغيرهما وهي ما تزال حاملة. وكنا ننام في الخلديات ما يقارب الشهر قسم منه من تموز وقسم من آب وأحياناً نستمر حتى بداية مطر الوسم في أوائل أيلول فقد كان عَلَيَّ أن أعود إلى المدرسة. إن معايشة الأرض والماء خبرة عجيبة رائعة يرى فيها الطفل مخلوقات الله الدقيقة ويعايشها في الليل والنهار إضافة إلى ملاحظة مفاهيم الزمان مع طلوع الفجر وحتى غياب الشمس وملاحظة الظلال التي يحتاج إليها في الظهيرة. الزمان له ألفاظ خاصة: نستيقظ مع النجمة، ونرقب الزمان بكلمات مثل: شق الفجر، وطلع الفجر، وصلاة الفجر، وطلوع الشمس، وارتفعت الشمس، والفطور اسمه كسر الصفرة، والقهوة تدعو الناس بدخانها المعطر، والشمس بارتفاع رمح، والشمس بارتفاع رمحين، والدنيا أضحت، والدنيا في الضحى العالي، والدنيا أظهرت، وصلاة الظهر، والغداء جاهز، والقيلولة، والشمس مالت، والدنيا أعصرت، وصلاة العصر، والشمس اصفرت، والمشي قبل أن "يضب الرمس"، والدنيا لَيَّلت، والليل بأوله، والليل أعطى بعضه بعضاً، والدنيا نص الليل، والنوم حتى النجمة، وهكذا والنشاط اليومي مستمر من الفجر حتى الليل. وبالنسبة إلي وأمثالي من الأطفال فعملنا طوال النهار الركض في البستان من الجابية عند الوادي في نصف المسافة بين البستانين إلى رأس البستان الغربي وفيها كيلو متر وركض حتى رأس البستان الشرقي وفيها كيلومتر أو تزيد وكنت أساعد أحيانا وأقوم بتحويل الماء على أثلام الزراعة حتى تروى ثم أقطعها لتسير المياه إلى الثلم الثاني، أو أقوم برش السماد مع أول الماء ليحمله الماء ويوزعه على طول الثلم، أو أقطف مع العاملين الخيار أو أقلع الجزر أو أغسل الفجل وأجعله أضمامات أو أرتب القراصية والفواكه في السحاحير أو الرمان في وقت الرمان، ولكن كان للعب في مياه الجابية الزمن الأطول وكان يعتبر الإمساك بحنكليس غنيمة لأن هذه الأفعى المائية كانت غير سامة وكانت تسلخ وتشوى وتؤكل. وأما مسك الضفادع والسرطعانات والسلاحف والحفر على ديدان للفخاخ فكان عملاً متواصلاً بل إن الحصى نفسه كان جميل الأشكال والألوان وكان جمع الحصيات الجميلة يبعث في النفس عشقا للأرض بمخلوقاتها ومائها وترابها وحصاها. نملؤ جيوبنا بالحصى للنُّقيفَة والمقلاع الذي نلفه حول خصرنا. وكان الركض خلف الفراشات، والزيز الذهبي، ومحاولة صيد العصافير أمراً يسيراً لكثرتها على الشجر حتى أن من ينام في القيلولة قد يتعب من ضجة العصافير إذا لم يكن قد هدَّه التعب وجعله ينام بلا هز كما كان يقال. وأحياناً لا بد من جمع الحطب للوالدة للطبخ وهذا كان يتطلب الصعود إلى التلال الشرقية المحاذية لبساتيننا وكان تعرف باسم مَلَّات الشيخ علي، أو على الجبل الغربي المحاذي لبستاننا الغربي بين أشجار البلوط والشتول والبلان وأشجار برية أخرى نهوي عليها بالفأس إذا كانت جافة نوعاً ما وكل طفل صفوري حطاب جيد. في الليل مع الغياب يظلم المكان ويكون الليل في البداية مرهوباً، وما أسهل أن تسمع حفيف الأغصان فتظنها حركة أناس قادمين، أو ترى من بعيد شجرة تتحرك بنسيم الليل فتظنها مخلوقات غريبة تتحرك نحوك. وتتكاثر على ضوء السراج مخلوقات طيارة عجيبة الألوان والأشكال مثل فرس النبي والفراش والعث وبعض أنواع الجنادب وأم علي وعشرات من المخلوقات التي لا نعرف لها اسماً تهجم على السراج أو النار تحت القهوة أو الشاي، وهناك وميض الحباحب كالسهام. وهناك أصوات الثعالب فهي كثيرة، ولكن أخطر الأصوات أصوات الذئاب وكانت كثيرة لأن في البساتين الكثير من الأغنام، والكلاب المرافقة للأغنام ترد باستمرار. وكانت الأصوات تقترب أحياناً، وهناك دائما كريك مغروس عند باب العريشة والقاعدة هي الانتفاض عند سماع الخطر والضرب بالكريك بعنف على كل من تواجهه، سواء أكان ذئباً أو إنساناً مستذئباً، ولكننا لم نحتج لذلك قط. والخوف من الليل في البداية لا بد منه، فحفيف الأشجار في ليل بلا قمر هو صوت الغول، وتمايل الأغصان مع النسمات تحركات الجن، وأصوات الذئاب البعيدة تبدو وكأنها على باب العريشة، ولكن طول التآلف مع الليل والتعود على الأصوات والأشكال تحسن موقف الطفل وخصوصاً حين يكون القمر بدراً فهو صديق حقيقي في الليل المظلم وفي ظلال كثيفة معتمة تحت الأشجار. والنوم في الليل سلطان فمع التعب في النهار لا يمضي وقت قصير بعد صلاة العشاء وبعد بعض الحكايات إلا والجميع يغطس في نوم غلاب لذيذ لا يعرف طعمه إلا من قضى يومه من النجمة حتى الغسق وبعد الغسق في شغل ودأب وكدح . كان في البستان عريشة بين شجرتين وهي مبنية من الخشب وواسعة ومريحة ومزودة بالفراش والحصر والأدوات اللازمة للطعام والشراب. وكان الطبخ على الحطب والخبز على الصاج وهو طعام هنيء ولذيذ ومن خضراوات البستان، وكانت الإضاءة بالسراج، وكنا نحمل سراجاً عند التحرك ليلاً لسبب أو لآخر. الجميع يشعر بالأمان والجيران متعاونون في كل نواحي الحياة. كان صيف العام 1947 هو آخر مرة ننعم فيها بالحياة في البساتين في الخلديات، وكانت حياة في الجنة وفي أحضان أجمل عالم وأبهى طبيعة أخاذة الجمال.

وللخلديات قصص وحكايات، ولكن أول نشأتها هي أحلى القصص. وخصوصاً بالنسبة لوالدي. كانت بساتين العين عند القسطل هي جنات صفورية الوحيدة وكانت هي رمز الخير والثروة وتمتد على طول الطريق الذاهبة من الناصرة إلى شفا عمرو لمسافة ربما تصل إلى عشرة كيلومترات أو أكثر وعمقها يمتد حتى صفورية ربما خمسة أو ستة كيلومترات وفيها غابة من الأشجار المثمرة وفيوض من كل أنواع الخضراوات التي خلقها الله ولا تكاد عائلة صفورية تخلو من وجود بستان لها. وكان لجدي لأمي حسين عبدالله العباس ولأخيه سيدي أسعد عبدالله العباس رحمة الله عليهم عدة بساتين كبيرة عامرة ثامرة وفيها كل ما تشتهي النفس، منها بستان يضمنه رجل من دار طه اسمه أحمد الحاج خليل، و بستان يضمنه رجل من دار الحاج حسين وبستان يضمنه رجل من دار بكر.

أم جدي حسين وهي عائشة، حسب ما سمعت من أمي على الأرجح، إذا لم تخني الذاكرة، هي أخت خيزران جدتي لأبي. وعلى الرغم من أنهم كانوا يسمونها عائشة العباس فهي تعود إلى أبوحيط وليس هذا غريبا إذا عرفنا أن التوبة والعباس وأبو حيط من جذر واحد، وكانت بيوتهم وأملاكهم في الأراضي متجاورة وكان بينهم نسب متعدد وقربى. وكما جرت العادة كانت الأم تخطب لأبنائها وحين يكون الشاب في سن 18 يبدأ بالاستعداد للزواج. جدتنا خيزران خطبت لابنها محمود بنتاً جميلة وأصيلة هي ابنة عمه عبد الحميد وقرأ الناس الفاتحة وارتبطت البنت باسم محمود ولكنه رفض الزواج منها. وألحت أمه عليه ورفضت أن تخطب له غيرها، واستمر الحال على هذا الحال سبع سنوات عجاف. وبعد ذلك تزوجت البنت. وبقي محمود بلا زواج حتى كان يوم رأى فيه ابنة الشيخ الجليل حسين عبد الله العباس، كانت ما زالت صغيرة ولكنه فرض على أمه وجماعته أن يذهبوا لاستكشاف الطريق وجس النبض. وكان له ما أراد ولكن الجواب جاء بالرفض وخصوصاً من أمها المرأة الربانية الفاضلة الحاجة خضرة محمد العيسى رحمة الله عليها. ولكنه لم ييأس وذهب هو نفسه في زيارة لوالدها فهو ابن خالته من حيث القربى. روى لي والدي أنه استُقبِل من والدها أحسن استقبال وسأله سؤالاً واحداً : هل تصلي وتحافظ على الصلاة؟ فأجاب الوالد: نعم. ثم قال له عليك أن ترضي أمها، فهي لها وجهة نظر اسمعها منها. الحاجة خضرة كانت صريحة، قالت يا محمود أهلُك على العين والرأس لكن أنت ماذا تملك لنفسك؟ كل ما تملكه مازال مشتركاً مع العائلة ومع إخوانك، وهذه بنت حسين عبد الله العباس تعيش في عز أبيها وبساتين أبيها وأملاك أبيها، هل تريدني أن أوافق على زواجها منك لتشتهي الفجلة بعد الزواج؟ ثم إن البنت صغيرة وربما تمر سنتان قبل الزواج. قال الخاطب المبهوت : تعلمين يا خالتي أننا لسنا بلا أملاك، لنا أراض وزيتون وأراض مروية لم نبستن فيها. قالت له: هذا كله مشترك ولكن ماذا تملك أنت؟ قال لها انتظريني مثل هذا اليوم في السنة القادمة، وقام وودع وهو لا يرى الطريق كما حدثني رحمة الله عليه. قرر أن يقيم بستاناً ولكن أين؟ في العين عند القسطل مستحيل لأن الأرض لو فرشتها ذهباً لا تستطيع شراءها ولا أحد يبيع، والملاكون في القسطل من الأغنياء الوجهاء مثل محمد الحج، وسليمان الحج، ومحمد الموعد، ودار عباس، وطه الابراهيم وغيرهم . ولكن كان لأهل صفورية أراض في واد اسمه وادي الخلدية أو الخلديات وعليه زراعات قليلة ولكنها لم تبستن كما يجب. فيها أراض لدار سليمان ودار كليب والعباس والحدايدة وغيرهم ،وكان لجدي إبراهيم أرض ممتازة هناك فقرر والدي بستنتها. اشترى موتوراً لضخ الماء وحفر جابية يعني بركة كبيرة تمتلئ بالماء من نبع فيها، ومن الوادي. ونظف أرضاً بطول يقارب كيلومترا ً في عرض أقل بقليل من ذلك وزرع عشرات الأشجار وخصوصاً الرمان وزرع كل خضار خلقها الله وكانت تزرع في عين القسطل، وبعد سنة على الموعد ذهب ليعلم الحاجة خضرة. قالت له بعد كلام كثير: ولكن للبنت خال له كلمة وربما يكون قد خطَّبها لغيرك. قال لها الوالد يا خالتي هذا في العرف لا يصح، ولا في الدين يصح، أن يخطب أحد على خطبتي. ولا يجوز إهانتي بهذا الشكل، وأنت في مقام أمي والشيخ حسين في مقام والدي، ولكن قسماً بالله العظيم إذا أحد خطب هذه البنت في أثناء خطبتي لها فلن يكون هناك إلا الدم: إما أنا أو هو. ثم خرج غاضباً إلى خالها، وهو رجل من أكابر الناس خلقاً وتديناً وهو الشيخ صالح محمد العيسى. وبعد عتاب وكلام وافق الشيخ صالح على أن يتريث فلا يسمح بخطبة أحد فوق خطبة الخاطب الأول. ومن ناحية أخرى سمع وعداً له بخلعة غير عادية. تم العرس بعد سنة ولكن بصعوبات كثيرة. وسيأتي وصف العرس الصفوري عموماً في ذكريات قادمة ومن جملة ذلك عرس الوالدين، حسب رواية والدتي رحمة الله عليها . بعد بعض السنوات من الزواج أرسلني والدي إلى دكان عمي طه التوبة لأزن فجلة من نوع أسطواني يبلغ طولها ما يقارب شبراً وفتراً وبلغ وزنها 2.5 كيلووين ونصف وبضعة غرامات، وكان هذا النوع من الفجل حديث أسواق الناصرة وحيفا حين نزل من بساتيننا بهذا الحجم. وقد أرسلت لجدتي لأمي منه ولسان الحال يقول إن ابنتك لم تشته الفجلة. والحق أن جدتي صارت أحب الناس إلى والدي، وهي كذلك كانت تعزه وتحترمه وكانت العلاقة مع بيت جدي لأمي أسعد علاقة وأجمل علاقة، رحمة الله عليهم.

الشيخ صالح محمد العيسى كان لقبه ( الحلو) لأن صفورية وما حولها لم تر أوسم من ذلك الرجل هيئة ولا أجمل منه وجهاً، وكان حيياً إذا لبس الحطة والعقال قدم الحطة حتى تنزل إلى مستوى عينيه، وكان يرد طرف الحطة أو الشورا على فمه وأنفه فلا يعرفه من يراه. إضافة إلى أنه كان يمشي مطرقاً. ولولا أني كنت ألعب في بيته مع أطفاله لما عرفت وجهه. وفي بيته رأيت لأول مرة كيف يصنع زيت الزيتون الطفاح أو الفغيش، وذلك في جرن صخري له فتحة من الأسفل وفتحة من الأعلى، ويدق الزيتون بمخباط قوي حتى ينفغش ويهرس، ويوضع في الجرن وبعد أن يوضع فيه ما يكفي من الزيتون المهروس يصب عليه ماء ساخن، وكان الجرن يتسع لعدة تنكات ماء، والماء الساخن يسهم في تفتيت الزيتون المفغوش، ويبدأ الزيت يطفح على وجه الماء. وكلما ازداد الزيت على سطح الماء يؤخذ في أواني من الفتحة العلوية من الجرن، وهذه القصفة الأولى ذات طعم رائع ورائحة كأنها عطر من أجمل العطور، لا يمكن أن يعرفها إلا من وقف على سحب الزيت الطفاح عن وجه الماء، وكان قد شمـَّر عن ساعديه، وسنَّ ضرسيه، وأعدَّ خبز الطابون الساخن ليلت الخبز بالزيت لتاً شديداً ويأكله والزيت يقطر من شفتيه، بل إني رأيت والدي وآخرين رحمة الله عليهم يضعون الخبز في أفواههم ويصبون الزيت من زنبوعة إبريق ا لزيت كالحنفية. وفي مقابل بيت الشيخ صالح محمد العيسى كانت تقع الزاوية من الجهة الغربية، وعليها قصص وحكايات، وفيها أحد الأولياء الصالحين.

ومن رأى الخلديات، كما رأيتها في العام 1947، وهي في أوج عزها وقد اخضوضرت واحْلَوْلَت لعرف أنها جنات في الأرض تجري من تحتها الأنهار. فالنهر الذي يشق الخلديات إلى ضفة شرقية وأخرى غربية يهبط إليها قادماً من خانق بين جبلين يأتيان من طرف سهل البطوف الجنوبي بين شفا عمرو وصفورية، إضافة إلى ينابيع فوارة في الخلدية في مجرى النهر وإلى جانبه، ويكون التيار قوياً ثم يسيل تحت جسر أقيم على الطريق بين شفا عمرو والناصرة، ثم تنساب المياه في أرض مستوية سهل، فتنساح المياه خارج مجرى النهر وتطفح على الضفتين وخصوصاً في الشتاء. وتشكل على الضفتين بعيداً عن المجرى منطقة مستنقعة لا تقل عن مائة متر في بعدها عن كل جانب من الضفتين. وينبت فيها نبات كثيف اسمه السِّعِد. وحين تخف مياه النهر بعد موسم الأمطار تبدأ المنطقة المستنقعة بالجفاف وتتراجع عنها المياه في الصيف إلى النهر، وتجف الأرض وتجمد قليلا، وبعد أن كانت تغوص فيها الأرجل حتى الركبة تتجمد فلا تغوص فيها القدم أكثر من الكعب بقليل. والتربة في هذه الأرض غنية لأنها محملة بالطمي مع مياه النهر من الجبال والأراضي البطوفية الخصبة. وكان أصحاب البساتين ينظفون هذه المنطقة من النباتات الضارة ويقلبونها بأيديهم بنكشها وتنظيفها ويزرعونها بالملوخية، ويا سبحان الله كم كانت الملوخية تأتي رائعة خضراء عميقة الخضرة عريضة الأوراق ناعمة الملمس طويلة الساق، وإذا نزلت إلى أسواق الناصرة وحيفا عرفوا أنها من الخلديات لأنها لافتة للنظر بنموها الكبير. وكان والدي يملك أرضاً سبخة من هذا النوع الذي وصفته، وزاد عليه مساحة من البستان وزرع مربعاً من الملوخية في أرض مساحتها ربما كانت ثلاثمائة متر في مثلها، فكانت ذات منظر عجيب من الاخضرار الذي حين تنظر له من بعيد بدا لك مربعاً أسوداً، وكانت بساتين العين والخلديات تصدر من الملوخية حتى تغرق أسواق حيفا والناصرة. ومن الفواكه التي كانت مرغوبة بعد الرمان القراصية وخصوصاً منها القراصية ذات الحبة الصغيرة التي تشبه حبة الزيتون الأسود الكبيرة، ولكن طعمها مذهل لأنه معطر مثل البرابللو الصفراء والحمراء، ومذاق القراصية لا ينسى، وكانت المستشفيات تشتريه كثيراً لأن هذه الفاكهة مليِّنَة وكانت تجفف ولها مصانع تصنعها عصيراً وهو عصير لزج عسلي المذاق شديد الحلاوة، وهو أيضا في المستشفيات مثل العلاج. كان في بستاننا مربع من أشجار القراصية ربما نافت على مسافة مائة متر في مثله، وكانت أحمالها من العجائب ومن رأى حمل الزيتون أو الكرز فهو شبهه. كانت أسعارها ممتازة ومواسمها رائعة، ولم تكن بساتين الخلديات تعرف استخدام أي أدوية ولا أسمدة. غابة القراصية تلك حين تكون حاملة تشكل ظلاً عميقاً بليلاً تجعل النعاس يغلب كل من يجلس ويستند إلى جذع شجرة. في بداية بستاننا في الخلديات، وربما كانت في 1930 كان الري باليد حسب ما سمعت من الأهل وهو نزح الماء بطريقة يدوية وسقي الأرض، ثم تشارك الوالد مع جيراننا حسن الأحمد العباس وأحمد المحمود العباس واشتروا محركاً من نوع بلاكستون، وركبوه على الماء حسب ما سمعت من رواية الأهل. وبعد موسمين استقل كل جار بمحرك خاص به، وقد اختار أهلنا موقعاً في أرضنا يبعد عن النهر بما يقارب 20 متراً وحفروا لهم جابية وانفجر فيها النبع بعد عمق متر ووسعوها إلى عمق مترين وكانت بشكل دائرة قطرها حوالي عشرة أمتار، وتربطها قناة مع النهر، فإذا زاد الماء في الجابية فاض منها إلى القناة فإلى النهر، وإذا انخفض فيها منسوب الماء فاض الماء إليها من النهر. على ضفاف هذه البركة عشنا حياة في الجنة. ولا أظن أن في الدنيا عالماً يمكن أن يكون أجمل وأهنأ من الحياة في بستان هو بستانك، وأرضك، وأن تلقي نفسك في البركة، وتنفعل في الركض خلف الضفادع والسرطعانات والبلعط والسمك الصغير والحنكليس. ولم أتعلم السباحة لأني كدت أغرق مرة، ولكن كان هناك ما يسمى القَرْعَة. وهي من نوع القرع الرقابي، أي الذي له رقبة ويحشى مثل الكوسا وهو صغير، تترك القرعة حتى تكبر جداً من أجل بزرها، وبعضها يكبر حتى يصير بحجم الجرة الكبيرة، وتفرغ من بزرها وتجفف ويغلق فمها جيداً حتى يكون كتيماً، وتكون بذلك خفيفة لا تغرق مثل العجلة التي تنفخ بالهواء في هذه الأيام للأطفال في المسابح الأهلية. وما على الطفل إلا أن يحضن القرعة ويسبح كما يهوى. وبعد قيام المحرك بالضخ ينساب الماء في مواسير تمتد حتى آخر الأرض، وتتوزع المياه بنظام بديع حتى تروي ما يعادل كيلومترا في مثلها من الأرض المزروعة بكل أنواع الخضروات حسب الموسم. ومثل هذا الترتيب كان لبستاننا الغربي وكان جارنا فيه محمد عبد الحميد العباس وكان شريكاً في المحرك مع جاره أحمد كليب، وأما نحن فكان لنا محركنا المستقل. ولكن كل من يعرف الخلديات وجناتها الغناء كان يعرف أن بستان محمد عبد الحميد العباس كان أية في التنظيم والخصب والثراء وجودة الفاكهة والخضروات حتى كان هذا البستان مضرب الأمثال. وحذا الوالد حذوه، فلم تبق شجرة فواكه لم يزرعها الأهل في البستان الغربي على شكل منظم جميل مع ترك مساحات للخضروات . وركب له محركاً من نوع سمعت اسمه بشيويش ولا أدري ما معناها، وكان الذي يركب هذه المحركات ويقوم بإصلاحها عند اللزوم حسن كيوان وهو من صفورية. ولعلي سبق أن قلت إننا نظفنا هذا البستان من الحصى والحجارة شبراً شبراً ثم قلبت الأرض بالحراثة عدة مرات مع التنظيف والتعشيب الشديد من كل الأعشاب الضارة ثم زرعت لفتاً، فجاء الموسم رائعا ودرنات اللفت كبيرة، ومن المعروف أن اللفت للمخلل، وكان هو والخيار من مأكولات صفورية اللذيذة، ولم يكن بيت يخلو من خابية المخلل الملون باللون الشمندري، ولكني لاحقاً فهمت أن اللفت كان مطلوباً في مناطق فلسطينية مثل نابلس لأنهم يطبخونه مثل الأرضي شوكي، يقشرونه ويقوِّرون في وسطه حفرة ويسلقونه قليلا ثم يحشونه باللحم مثل منزلة الباذنجان، ويطبخ برب البندورة أو بالطحينة ، وهي أكلة لم أرها في صفورية.

النهر الذي يمر من الخلديات يستمر في جريانه حتى عدة كيلومترات حتى يصل إلى مكان أسمه ا لمشيرفة، ولم تتح لي الفرصة لرؤيتها لأن مثل هذا المشوار كان يحتاج لأكون بمرافقة الوالد أو من هو في مقامه. وكان فيها بساتين اسمها المشيرفات، وتشكل المشيرفات وبساتين عين القسطل والخلديات الجنات الصفورية التي كانت تفيض بالخيرات الحسان والثروة والنماء الدائم. ولكن الماء في المشيرفات كان طبعاً يسيح في النهاية في مرج رعوي تكثر فيه الأغنام والأبقار وأقيم فيها مصنع للجبنة وللبنة والزبدة والسمنة أو ما شاكل، وكلها من خيرات الله ثم صفورية. الماء عموماً كان كافياً والجميع يسقي أرضه وهو مرتاح، ولكن كان يحدث أحياناً أن تدور المحركات كلها جميعاً فيؤثر هذا على مصدر الماء، وتجف الجابية ويضطر صاحب البستان إلى إطفاء محركه. بعض الجوابي تستمر في النبع وتصمد للضخ ، فيشكو الآخرون من أن فلاناً يسيطر على الماء ويأخذ حصة أكبر مما يجب، وتحصل بعض الاحتكاكات، ولكن الجميع كانوا حريصين على مصلحة الجار ويراعون خواطر بعضهم، وفي صفورية عدد كبير من الوجهاء والعقلاء الحكماء الذين كانوا مستعدين لبذل جاههم ومالهم وسلطتهم لإقامة العلاقات الاجتماعية السليمة وإصلاح ذات البين بين الخصوم. وقد سمعت من أهلي وفي المضافات أن الناس من القرى المجاورة كانوا يأتون لوجهاء صفورية لتحكيمهم وتستأنس في الخصومات برأيهم. وكان محمد السليمان في العام 1838 هو المتسلم على الناصرة، أي هو القائمقام عليها، وكان هو رأس دار سليمان في ذلك العصر، كما هو مذكور في تاريخ الناصرة، ومع ذلك فإن بعض النفوس أميل إلى المنافرة، وحب المقاهرة والمغالبة والسيطرة بالسطوة والقوة. وكان لا بد أحياناً من الردع بالذراع والعصا. مشكلة الماء مع جيراننا الحدايدة أدت في النهاية إلى "طوشة"، والذين وقفوا في وجوه بعضهم كانوا أبناء خالات، وكل واحدة تنادي ابنها. ولكن إذا نزغ الشيطان، وتملك الغضبُ الإنسان أدى به إلى الغلط، ولكن الطوشة انتهت من دون أذى وبمجرد إصابات طفيفة. وفي مناسبة أخرى قامت علاقة متوترة مع أحد أفراد عائلة السعدية وبين أحد الأعمام أدت أيضا إلى طوشة، والذين وقفوا في وجوه بعضهم كانوا أنسباء، ولكن وجهاء صفورية سارعوا إلى فضها وانتهت بإصابات طفيفة. في الحقيقة هناك بعض الناس أشرار حقاً، ولا يمكن استرضاؤهم بسهولة، وكان يوجد في صفورية عدد منهم، وكانوا لا ينزجرون بسهولة. أعرف بعضهم بالاسم ولا أرغب بذكرهم. ولكنهم كانوا من النوع الشيطاني الذي لا ينام إلا إذا أوقع أذى بالناس. كان في صفورية شجعان من النوع الذي كان يسمى عفريتاً نفريتاً دعاسَ ليلٍ وأخا الظلماء. ولكن جسارتهم كانت للخير وجرأتهم لا تبتعد عن المروءة وخدمة الناس، وكان هناك من نوعهم في الجسارة والجرأة ولكن على الشر، وفي خدمة المصالح الدنيئة الرخيصة لهم. لا أذكر في سنوات وعيي أن أحداً قتل أحداً، باستثناء أبو دبسه الذي خرجنا من صفورية ولم نسمع من كان القاتل، ولكن من المتداول في صفورية أن هناك من قتل قريباً له ، والقصة مشهورة ولا أود إثارتها. والسبب في هذه المشكلات يتعلق بوضع الأمن في أواخر الدولة العثمانية الذي تراجع، وصارت كل حمولة أو عائلة تحمي نفسها بطريقتها، إما بالتحالف مع عائلات أخرى، أو بالنسب مع الأقوياء، أو بذراعها هي وعصاتها. وجاء الإنجليز فتركوا الأمن فوضى ليأكل الناس بعضهم بعضاً، وقاعدة فرق تسد معروفة. وهذه حقيقة اجتماعية، حين تفقد سلطة الحكم وتضيع هيبة الحاكم يعود كل أناس لقبيلتهم وعشيرتهم، وهذه الحقيقة الاجتماعية يقررها القرآن الكريم في حوار قوم النبي شعيب معه، على نبينا وعليه السلام، حين قالوا له (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفاً ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز) هود 91 . فالضعفُ مجلبةٌ للرجم، وقوة العشيرة دافعة له. وكثيراً ما سمعت من أهلي وفي المضافات من يتمثل قول الشاعر في سيرة أبي زيد الهلالي التي كانت تقرأ في المضافات وهو يقول:

جُهَّالٍ بلا عُقَّالْ ضاعَتْ حقًوقهمْ *** وعُقَّالٍ بلا جُهَّالْ راحوا قَطَايِع .

ولا يخفى أن المقصود هنا بالجهال القوة الضاربة الخشنة في مقابل العقال وهم القوة الناعمة.

والطريق إلى الخلدية شهد كارثة التفريط بصفورية، فالمسافر القادم من شفا عمرو إلى الناصرة ينزل في أرض منحدرة حتى يأتي خانقاً بين جبلين تضيق عنده الطريق، ويمكن بسهولة تعطيل المرور فيها، وعند هذا الخانق وإلى جانبه في الأراضي المجاورة زرع أهل صفورية حقل ألغام بعد سقوط شفا عمرو لمنع مرور القوات اليهودية بسهولة على هذا الطريق. ولكن جاء من جيش الإنقاذ من يقول لأهل صفورية بضرورة نزع حقل الألغام. لأن جيش الإنقاذ كان سيسلك نفس الطريق ليقوم بهجوم معاكس ويسترد شفا عمرو. وما حصل فعلاً هو أن اليهود سلكوا نفس الطريق من قبل أن يقوم جيش الإنقاذ بهجومه المرتقب. هل كان نزع حقل الألغام خيانة؟ هل كان تسليماً لصفورية؟ لا أستطيع أن أجزم، وهي للتاريخ ليحكم ؟ ولكن هل كان حقل الألغام سيحمي صفورية لو بقي؟ حين كبرنا فهمنا أنه لم يكن قادراً على حماية صفورية، لأن أي حقل ألغام يمكن اختراقه، وحقول الألغام توضع عادة لتعرقل تقدم المهاجمين، وتبطئ تحركهم، وتعطي بذلك بعض الوقت للمدافع وتساعده في ألا يؤخذ على حين غرة من المهاجم. كان الإنجليز قد دربوا اليهود على اختراق حقول الألغام، وزودوهم بكاشفات الألغام وتخطيط مسار آمن للجنود في حقل الألغام، وزودوهم بأسلحة يمكن أن تفجر مسارات في حقل الألغام تعرف باسم كوبرا وهي مثل النربيش المحشو بالمواد المتفجرة ويطلق ليمشي متلوياً كالأفعى في حقل الألغام ويفجره. وزودوهم بدبابة خاصة لتفجير حقول الألغام تسير وعليها في مقدمتها ملفاف دوار ويدير معه كرات معدنية مربوطة بجنازير فتخبط الكرات الفولاذية الأرض بقوة وتفجر الألغام وتفتح الطريق للقوات المحمولة. هذا إضافة إلى أن الألغام التي زرعها المجاهدون كانت محدودة، ومع ذلك فإن نزع الألغام شكل إشارة مؤلمة للتفريط والاستهانة بالأمانة، وسهل مهمة العدو.

مع اصفرار الشمس كل يوم في الخلدية كانت تسير مئات الدواب عائدة نحو صفورية محملة بالخضراوات لتنتهي إلى الناصرة في الصباح في اليوم التالي. وفي المدة الأخيرة كانت تمتلئ سيارة شحن محملة أيضا بالخضروات لتنطلق إلى حيفا. كانت جنات الخلديات قد بدأت تتطور وتتزايد تنوعاً وكميات وجودة، وكانت صفورية تزداد غنى وثروة وقدرة على التحسين في مستوى الحياة في كل مجاليها. وكان آخر عهدنا بالخلديات قبل يومين من سقوط صفورية، فبعد سقوط شفا عمرو سرت إشاعات بوجود هدنة لمدة عشرة أيام، فقال الوالد للوالدة استعدوا لنزور الخلديات وأريكم الموسم فهو منقطع النظير والخضرة والشجر والفواكه في أحمال عجيبة. وهذا ما حدث فعلاً. فذهبنا إلى الخلدية ونظرنا في بهائها وجمالها والثروة التي تتفجر فيها والفواكه التي ما رأى أحد أروع من أحمالها. وقبل أن نعود قطف الوالد لنا طبخة ملوخية وكان الوقت في شهر رمضان. عدنا إلى صفورية وفي اليوم التالي طبخت الوالدة الملوخية لتكون فطورنا في رمضان. وهذا ما كان هو آخر طعام تناولناه في صفورية، لأن الطائرة بدأت بالقصف قبل أن نرفع المائدة، وبقيت صينية الملوخية على الطبق الملون الجميل المصنوع من قش القمح على الأرض، لأن الهجوم كان من ناحية بيتنا وكان الرصاص ينهمر فوق رؤوسنا مثل المطر ونحن نغادر البيت لأخر مرة. وللهجرة حديث خاص بها.

وفي الطريق إلى الخلدية رأيت التدريب العسكري في صفورية. رأيت الناس يتدربون على الرماية على البنادق. ولم أكن قد بلغت في صفورية من العمر سنوات تسمح لي بزيارة القيادة العسكرية لحامية صفورية التي اتخذت مدرسة البنات في السدر مقراً لها. وكنت أرى أنواعاً عديدة من البنادق على أكتاف الرجال فلا أستطيع أن أميز بينها أو أعرف مميزات كل بندقية منها. ولكن الفرص سمحت لي أن أرى الرجال يتدربون أحياناً على الرماية وإصابة الهدف وخصوصاً الذين كانوا يشترون بندقية جديدة. والسبب في هذه الفرص هو أن بيتنا يقع في غرب صفورية في طرف الحارة الغربية، وبعد بيوتنا وبيوت جيراننا تنحدر الأرض تدريجياً لمسافة عميقة ويسمى المنحدر رباع الناطح، حتى يصل الانحدار قاعاً عريضاً في أرض مستوية على اليمين تسمى الدوار وعلى اليسار أرض البركة. وبعد هذا القاع العريض تبدأ الأرض بالارتفاع تدريجياً في أرض مراع خضراء ثم تبدأ أرض الهضبة بالارتفاع لتشكل غابة صفورية المعروف باسم ظهر جابر والديدبة. على سفح الرباع النازل بالانحدار كان المتدربون يقفون ويضعون أهدافاً على شكل تنكات فارغة على الطرف الآخر من القاع في أول صعود بالتدريج نحو الغابة. ومن مواقعهم يطلقون النار على الأهداف، وكنت مع الأطفال أمثالي نقف خلف الرماة نتسلى دون أن نفهم شيئاً. وكنت أرى شخصاً كان على ما يبدو معلماً للرمي يمسك بالبارودة ويعلم الرامي كيف يتصرف. ربما يطلق الرامي خمس طلقات، وتنتهي مهمة التدريب، ربما يطلق أكثر من خمس طلقات، ولكنها كلها كانت ترمى طلقة طلقة، ولا أظن أن أي واحد من المتدربين رمى أكثر من عشر طلقات لأن الذخيرة كما كانوا دائماً يقولون كانت قليلة وثمينة. بعض البنادق كانوا يسمونها عصمللية، وكانت طويلة رفيعة. وبنادق فرنسية قصيرة وكعبها عريض، وبنادق فرنسية أطول وفوهتها مختلفة، وبنادق كانوا يسمونها كندية أو إنجليزية مشابهة لها، وكانت تعتبر عند الناس ثمينة ومهمة. وكان هناك سلاح قصير معدني يسمونه ستين، رأيته محمولاً مع أحد الناس ولم أر أحداً يرمي به. كانت حامية صفورية ذات سمعة حسنة، وقد شاركت قوةُ صفورية بعدة معارك وفَزَعَت لقرى عديدة عدة فزعات. ولست في مكان من يستطيع أن أروي شيئا عن هذه المشاركات، إلا ما قرأناه بعد أن كبرنا وهو أمر يحتاج للتمحيص، وكان واجب الذين شاركوا فيها أن يشرحوا لنا قيمتها وتضحياتها وطبيعة تلك القوة من حيث التسليح وقوة نيرانها وأنواع أسلحتها، ومن حيث أعداد المجاهدين ومدى تدريبهم، ومستوى ترابطهم وتنسيقهم مع القوات الأخرى التي كانت في المنطقة. وآخر معركة شاركت فيها قوة صفورية كانت موقعة الشجرة الأولى وفيها استردت قوة صفورية قرية الشجرة من قوات الاحتلال اليهودية، وموقعة الشجرة الثانية، وساهمت فيها قوة صفورية ولكن الحشد اليهودي زاد عن قدراتها ولم تستطع استرداد الشجرة مرة ثانية، وكبدت اليهود خسائر شديدة، وفي الشجرة فقدت صفورية الشهيد السعيد فخري الشيخ عبد الهادي رحمة الله عليه.

لما كبرنا وقرأنا وفهمنا ورأينا أدركتُ كم كانت المعركة ظالمة لفلسطين عموماً وأهل صفورية خصوصاً. فالبندقية الطويلة العصمللية التي كانوا يتدربون عليها في العام 1948 كانت من طراز العام 1898 وعيارها 7.92 ملم، والبندقية الفرنسية العريضة كانت من طراز 1908 وعيارها 8 ملم، والبندقية الفرنسية الثانية من طراز 1936 وعيارها 7.62 والكندية والإنجليزية اللتين كانتا مفضلتين وقليلتين كانتا مختلفتين. وهذا يعني أن كل بندقية كانت تطلق ذخيرة مختلفة، فإذا نفدت ذخيرتها لا تستطيع أن تستعير من أحد وتحولت إلى عصا. وأما رشيش ستين فهو سلاح قريب المدى لا فاعلية له في المعارك. طبعاً كان لدى قوة الدفاع الصفورية قوة نارية من غير تلك البنادق. ولكن في المقابل كان اليهود يملكون كل سلاح الجيش البريطاني: من بنادق فردية ممتازة وموحدة الذخيرة، ورشاشات البرن الحديثة ومدافع هاون عيار 81 ملم ورشاشات ثقيلة ومدافع ميدان ودبابات وطائرات، وقوات بحرية وكل أنواع الإمداد العسكري الذي كان يقدمه لهم الإنجليز. وأما التدريب الذي تلقاه اليهود فهو لا يختلف عن التدريب الذي تلقاه الجيش البريطاني. بل إن عدة وحدات يهودية كانت وحدات في الجيش البريطاني، وكان موشيه دايان ضابطاً في هذا الجيش اليهودي البريطاني. وكان الجندي في هذا الجيش يقضي أسابيع في رمايات حية فردية متنوعة حتى يصير الرمي عنده غريزة مثل التنفس، ثم يقضي أسابيع في التدريب على الرمي والعمل ضمن حضيرة من 7-10 جنود تحت إمرة عريف أو ما شاكل ومعهم رشاش وهاتف، ثم يقضي أسابيع في التدريب على الرمي والعمل في فصيلة قد تصل إلى خمسين جندياً من خمس حضائر تحت إمرة ملازم أو ما شاكل ولهم قوة نارية عالية، ثم يقضي أسابيع في التدريب على الرمي والعمل في سرية قد تصل إلى 250 جندياً من خمس فصائل تحت إمرة نقيب أو ما شاكل وتكون إحدى الفصائل للمساندة مزودة بالهاون والأسلحة المضادة للدرع وغير ذلك، ثم يقضي أسابيع في التدريب على الرمي والعمل في كتيبة قد تصل إلى ألف ومائتين وخمسين جندياً من خمس سرايا تحت إمرة رائد أو ما شاكل، وتكون إحدى السرايا للمساندة بالهاون والأسلحة المضادة للدروع وربما غير ذلك من الترتيبات، وتملك الكتيبة قوة نيران هائلة مع الإسناد المدفعي، والجوي والبحري، ثم يقضي أسابيع في التدريب على الرمي والعمل في لواء قد يصل إلى ستة آلاف جندي من خمس كتائب تحت إمرة عقيد أو ما شاكل ذلك، واللواء قوة كبيرة لا يستهان بها، وكان في الجيش البريطاني لواء يهودي. وهكذا يتدرج التدريب لمستوى فرقة من خمسة ألوية ثم قوة جحفل من عدة فرق أو جيش كامل على مستوى الأمة. والجميع يتدرب على التعاون مع المساندة من المدفعية البعيدة المدى، والتعاون مع المساندة الجوية من طيران متفوق ومن قوة بحرية. وهنا ندرك أهمية التدريب المستمر والتجديد المستمر بالسلاح والأفكار وقوة النيران والثقة بالقيادات، وقد أدت تطورات الأسلحة هذه الأيام إلى تقليل عدد الجنود وزيادة الكثافة النارية. وهو ما جعل أعداد الحضيرة، والفصيلة، والسرية، والكتيبة، واللواء، والفرقة تختلف من جيل إلى جيل ومن جيش إلى جيش.

 

 

عشت في صفورية: مكان لا يموت

الطريق إلى الخلدية أو الخلديات. القسم الثاني

 

ومع كل الجبروت الاستعماري البريطاني، ومع إمداد اليهود بكل شيء، فقد استطاع الفلسطينيون أن يهزموا اليهود في الميدان في عدة مرات. وكانت بريطانيا في كل مرة ينتصر فيها الفلسطينيون تفرض الهدنة، لتعطي اليهود فرصة للحشد وللمزيد من الحصول على السلاح بينما تمنع أي تسليح من الوصول إلى أيدي الفلسطينيين. الهدنة الأولى والهدنة الثانية ومنع الفلسطينيين من التسليح حتى سقوط فلسطين كانت خدعاً وتآمراً جعلت من حرب1948 حرباً شكلية لا تعبر فعلاً عن قدرات الشعب الفلسطيني، والدعم العربي القليل الذي تلقاه ، لأن الدول العربية آنذاك كانت حديثة العهد بالاستقلال ولا تملك لنفسها الكثير، ولم تستطع كل الدول العربية أن تحشد في كل ما جمعت قوة فرقة عسكرية واحدة، في حين حشد اليهود بمساعدة بريطانيا والغرب عموماً أكثر من ست أضعاف ما حشد العرب مجتمعين. وزيادة على ذلك كانت القوات اليهودية معززة بالسيارات المصفحة والدبابات ومدفعية الميدان وأخيرا الطيران وسلاح البحرية. الكيان الذي يدعى اليوم "إسرائيل" ما زال يتابع نفس النمط من التدريب ثم التدريب ثم التدريب، والمناورات ثم المناورات ثم المناورات، والإعداد للحرب بكل ما تستطيع بدعم من الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد الأوروبي. هل نعجب من ذلك؟ لا. فهذا عدو يستعد، ولكن السؤال متى يقوم الفلسطينيون والعرب بما يقوم به اليهود وأكثر؟ ما يسمى إسرائيل ليس معجزة، بل هي مشكلة واجهت مثلها شعوب كثيرة احتُلت بلادها. ولكن علينا أن نتذكر أن القوة بكل معانيها مطلوبة بعد الإيمان والثقة بالله تعالى ثم بأنفسنا وأمتنا ثم بالإعداد الصحيح بأفضل مما يعدون وأكثر مما يعدون.

هل قاتل أهل صفورية جيداً ؟ لا أعرف، وعلى الذين يعرفون أن يقولوا شهادتهم للتاريخ. لكن هنا أستطيع أن أروي ما عشته وسمعته فقط، وسيبقى تاريخ صفورية غير مكتمل حتى يؤرخه من يعلمون ومن شهدوا ومارسوا ودافعوا ثم انسحبوا.

المتداول في صفورية أن الشيخ صالح السليم مختار صفورية كان يتلقى رسائل من اليهود تطلب منه ضمان استسلام صفورية واعتبارها بلداً مفتوحاً. في مقابل سماح اليهود ببقاء أهل صفورية كما هم ومن دون المساس بهم. هل كان هذا ممكناً؟ هل كان يمكن الوثوق باليهود؟ وهل كان يصح من صفورية أن تستسلم من دون قتال؟ القوة العسكرية غير متكافئة، واليهود حاقدون على صفورية، كان اسمها في معركة الهدار في حيفا وفي شفا عمرو وفي الدامون وفي الهوشة والكساير وفي تمرة وفي لوبية وفي الشجرة وهي آخر معاركها خارج صفورية، ودماء اليهود فيها لم تجف بعد، هل يثق أحد بوعود اليهود؟ لا. ثم إن اليهود كانوا وما زالوا يعتقدون أن صفورية كانت مركزاً ثقافياً لهم في يوم ما من التاريخ، وكانوا على الأرجح سيبيدون عوائل معينة فوراً، ويهجرون من يتبقى، لأنهم كانوا متشوقين إلى إعادة صفورية إلى صورتها اليهودية، وكانت أفواج كثيرة من السواح تزور صفورية، من اليهود والمسيحيين، ولكن لهذا الموضوع حديثاً آخر.

جمع الشيخ صالح السليم وجوه صفورية قبل هجوم اليهود بأيام وحضر هذا الاجتماع عمي طه ووالدي. وشاور المختار الناس. وانقسم الناس بخصوص الاستسلام، ولكن الأكثرية الساحقة من أهل صفورية رفضوا الاستسلام، ومالوا إلى القتال بكل ما يملكون، فلم يكن أحد يطيق أن يقول التاريخ إن صفورية التي جاهدت الاحتلال الإنجليزي من أول يوم حتى آخر يوم تستسلم لليهود بلا قتال. أجمعوا على تكليف قوة صفورية ومن يستطيع القتال ويملك السلاح أن يقاتل حتى يستنفد ما معه، وذلك معذرة إلى الله، وحتى يحق له أن يتحيز إلى جماعة أخرى من المسلمين. حدثني أخ كريم أثق بكلامه قال: إنه كان يملك خمس طلقات فقط حين قررت جماعته الانسحاب، وهذه الطلقات الخمس للدفاع المباشر عن النفس، لأن الذين كانوا يلبسون لباس المجاهدين سيكونون مستهدفين أكثر من غيرهم.

وعلى طريق الخلدية في العودة إلى البلد مع مسيرة مئات الدواب ومئات الغنم في القطعان العائدة من المراعي كثيراً ما كانت شَلْيَة من الذئاب تباري الماشين، وكلاب الرعاة تعوي بعنف، والرعاة على خيلهم أحياناً تخب بهم بين القطعان وبين الذئاب، والسوط بأيديهم، والسلاح على أكتافهم. ولكني لم أشاهد أي اشتباك مع الذئاب، لأن الكلاب تعوي والركائب تسير، حتى إذا دخلنا أطراف البلد جاء العديد من الكلاب من البلد يلاقى الغنم، ويعوي مع العائدين، ومن الكلاب التي كانت تأتي لتلاقينا كلبنا الأبيض العجيب، فقد كان يشتم روائحنا قبل أكثر من كيلومتر، ويعود ليبلغ من في الدار أن أهل الخلدية وصلوا منطقة أبو صحن. عند أبو صحن تبدأ البلد وتلاقيك أضواؤها الخافتة الباهتة من بعيد، ولكنها مؤنسة باعثة للسرور بالوصول، وتنتهي رحلة يوم طويل ويؤوي الناس إلى بيوتهم والموعد بينهم طلوع النجمة، واللقاء في صلاة الفجر على الطريق إلى الناصرة.

وفي الضحى العالي من اليوم التالي تكون مئات الدواب عائدة من الناصرة إلى الخلديات، وهي تنزل في طريق منحدرة وبساتين عين القسطل على يمين المتحرك على الطريق، والنظر يمتد في الأفق إلى الجبال المطلة على عكا والبحر في الغرب، والجبال التي ترتفع لتصعد إلى شفا عمرو في الجنوب الغربي، ليرى جنات خضراء ترتفع الأرض فيها من سهل، إلى تل، إلى هضبة أعلى، فهي جنات معلقة يرتفع بعضها فوق بعض. وكم وقف السائرون يملؤون أوعيتهم من ماء القسطل؟ وكم تساءل المتسائلون: يا ترى ما سر هذه العين التي لم تنضب منذ فجر التاريخ؟

والقسطل ليس هو نبع العين وحده بل هو بحر تحت صفورية ومحيطها ونبع العين في القسطل شبه بئر ارتوازية يأخذ من بحر كبير. وهناك عيون كثيرة مهمة للزراعة وللشرب والرعاة. ومنها عين الخلدية وعين المشيرفة وعليهما مثل عين القسطل بساتين ورعي وزراعات سقي وبعل وصيفية وشتوية. ولا ننسى أن هناك آبار كثيرة أشهرها بير بداوية ولكنها ليست وحدها. وفي كل بيت في صفورية بئر للاستخدام اليومي في البيت وبعضها كان نبعاً لا يغور صيفاً ولا شتاء ، وفي كثير من الحواكير كانت هناك آبار لسقي بعض المحاصيل ولسقي الدواب، وكان في حكورتنا بئر تنبع المياه فيه من عمق متر ، وهي بئر فوارة صيفاً وشتاء.

ولكي تتخيلوا ضخامة مصادر المياه التي تنضح منها العين في القسطل وغيرها من عشرات العيون والآبار والقنوات تخيلوا بيكاراً صخماً يرتكز أحد ساقيه على القلعة القائمة في قمة هضبة صفورية التاريخية، والفتحة الثانية للبيكار تنفتح حتى ترتكز على خط تقسيم المياه في الجبال المشرفة على عكا وتتحرك ساق البيكار لتدور في دائرة نصف قطرها 20 كيلومتراً أو أكثر لكي تمر على مرتفعات شفا عمرو وتتحرك إلى الخلديات والمشيرفة ثم قرون حطين وتدور على خط تقسيم المياه في مرتفعات الناصرة ثم تدور حول صفورية لتشمل كل البطوف وتعود إلى خط تقسيم المياه فوق الجبال المشرفة على عكا، هذه الدائرة تستقبل كميات هائلة من مياه الأمطار وكلها تصب في النهاية في البطوف، وتختزن هذه الدائرة تحتها بحراً تأخذ منه العين في القسطل وتأخذ منه عشرات العيون الأخرى، وأرجح أن صورة الأرض وتضاريسها تسمح بالقول إن هذا حوض قديم قدم التاريخ تتجمع فيه مياه الأمطار من الأزمنة الجيولوجية الموغلة في القدم. وكانت القنوات، حسب ما قرأنا، من العصر الحجري ثم الكنعاني تسقي من العين كل القرى المحيطة ثم ازدادت القنوات في العصر الروماني ثم جرى الاهتمام الكبير بها في العصور الإسلامية. كل هذا والقسطل لا ينضب.

وحول صفورية مواقع أثرية كثيرة لعلي أحاول أن أشير إليها في مرات قادمة، وهي من الكثرة والتنوع ما يجعلها كنوزاً أثرية سياحية. كلها شربت من عين القسطل، فكم حضارة قامت على هذه الأرض منذ الإنسان الأول الذي سكنها منذ العصر الحجري وبدايات الحضارات العديدة التي مرت على فلسطين. وكم من الجيوش تقاتلت لتحتل العين ومواقع صفورية العديدة، حتى طهرتها جيوش الإسلام بفتح شرحبيل بن حسنة رضي الله عنه، ثم بعد حطين وعين جالوت، حتى جاء الاستعمار البريطاني عليهم لعائن الله والملائكة والناس أجمعين.

وآخر قصة كان يتداولها أهل صفورية هي قصة الجيش العثماني الذي عبر أرض صفورية في الحرب العالمية الأولى وهو ذاهب ليدافع عن قناة السويس، ثم عن فلسطين أمام غزة، ثم أمام يافا والقدس، ثم أمام بيروت ودمشق، قبل أن تنهار تركيا ويستلم الإنجليز هذه البلاد المقدسة ليسلموها لليهود. وتقول القصة إن الجيش العثماني دخل أراضي صفورية فاستقبله مختار صفورية في ذلك الوقت، وأظن أنه كان من دار سليمان، وحبذا لو يستطيع أحد من هذه العائلة الكريمة أن يقص القصة، وأبلغ المختار قائد الجيش أن الجيش كله بقائده وبضباطه وبرجاله وبخيله ضيف على صفورية، وتعجب القائد، ولكن جاءه الجواب فعلاً وقد استضافت صفورية جيشاً كاملاً بالآلاف، أطعمته، وسقته، وقدمت العلف لخيله. وبعد تلك الحادثة منح السلطان العثماني مختار صفورية أعلى وسام لتكريمه وتكريم صفورية بشخصه. كان الناس يستضيفون قائد الجيش وضباطه ويتفاخرون بذلك، صفورية فقط هي التي استضافت الجيش وقائده وضباطه ولم تر في ذلك شيئاً غريباً عن طبائعها وعاداتها. وفي الحقيقة من الخطأ مقارنة صفورية بأي قرية أخرى، وليس هذا عنجهية واستعلاء ولكن إلقاء نظرة على إحصاءات السكان تبرهن ذلك فوراً حسب إحصاء العام 1912 كان قضاء الناصرة يضم 22 قرية وكان السكان كما يلي:

صفورية: 2767البعينة : 162العزير: 65رمانة: 45كفر مندا: 321كوكب: 246عيلوط: 485جباتا: 84عفولة:172زبويا:489إكسال: 521دبورية: 489

عين ماهل: 372أم اقبي: 90المشهد: 403

وكل هذه القرى من المسلمين، وكان هناك قرى فيها عدد من المسحييين وهي:

الرينة: مسلمون 472ومسيحيون 621، وكفر كنا: مسلمون 548 ومسيحيون 612، وطرعان: مسلمون 486 ومسيحيون 227، ومعلول: مسلمون 296 ومسيحيون 235، ومجيدل: مسلمون 657 ومسيحيون 491 ، ويافا: مسلمون 354 ومسيحيون 491، وجنجار: مسلمون 45 ومسيحيون 18، والفولة كان فيها يهود ولم يذكر لهم إحصاء( عن كتاب تاريخ الناصرة، ص ص 365-366 تأليف القس أسعد منصور في العام 1924). وقد أحببت أن أذكر هذا الإحصاء ليتبين كما سبق لي أن ذكرت إن صفورية أكثر أملاكاً وثراء وعدداً، بل كانت تشهد انفجاراً سكانياً هو الذي جعل أهلها يبنون بيوتاً جديدة في منطقة السدر والمطلة وأماكن أخرى لم يتح لها الوقت الكافي لتبرز. فلا غربة إذاً أن القرى الضئيلة تستضيف قائداً بينما صفورية تستضيف جيشاً.

تمتد جنات عين القسطل وبساتينها على يمين السائر إلى الخلديات وتماشي السائرين حتى ما قبل الخلديات بقليل وبعدها تبدأ غابات الزيتون ومناطق الرعي المخضوضرة دائماً تملؤ العيون نضارة وجمالاً وخضرة. وبالوصول إلى الخلديات تبدأ دورة يوم جديد.

كم كنت جميلة يا صفورية، وكم كانت دورة الحياة فيك شائقة رائقة، رائعة ماتعة. وكم كانت الأعمال تبعث الآمال، ومع أنها كانت متعبة مجهدة تحتاج للصبر والمعاناة والجلد ولكنها كانت تجلب الكرامة السامقة الشامخة، والثراء والعز والرخاء، الرجل يعمل والمرأة تعمل، والفتى يعمل والطفل يعمل. ولكن المرأة كانت أيضاً في أمور كثيرة مخدومة محشومة، ومسيَّدة مؤيدة، وكان العيش في ظلالك يا صفورية كريماً هنيئاً، يشعر فيه الناس بالقوة المادية والمعنوية والقدرة على تنفيذ ما يرغبون، لا يستجدون أحداً فهم الكثرة الكاثرة، ولا يطلبون العون من غريب ، وهذا الاحساس بالاستغناء عن الناس يهز النفس هزاً بالاعتزاز، ويملؤ القلب بالإحساس بالقوة ومحاولة فرض النفوذ بالسخاء والجود وشراء الحمد والثناء بمكارم الأعمال والتنافس في فعل الخيرات والتسابق في تحصيل جلائل الانجازات.

وكان صفوك يا صفورية كالماء النمير في جابية البستان، والماء الغزير في قسطلك، والماء الفوَّار في عشرات العيون المنتشرة في أراضيك ووديانك، والماء الكثير في آبار بيوتك وحواكيرك . وكان الصفوري عزيزاً مهاباً بل أكاد أقول مرهوب الجانب، مقدماً في مجالس الرجال ومجتمعات الكرام، ولرجالات صفورية وعائلاتها وحمايلها أسماء وأيادي بيضاء لا في صفورية وحدها بل لا أبالغ إذا قلت في القرى المحيطة أيضاً ، كانوا يشاركون في مساعدات الفقير ونصرة الضعيف، وحل مشكلات القرى وخلافاتها حول الأراضي والرعي والمياه، صفورية كان اسمها العاصمة. وهي تستحق هذا الاسم وقد أطلق عليه منذ بدء الحركة القسامية، وتعرف ذلك كل القرى المحيطة بصفورية.

يا حفيف الأوراق كنت نغما سحرياً، و يا وشوشات الغصون المتمايلة مع النسمات كنت العزيف المخيف في الليل، وكنت العزف اللطيف الخفيف كأنك رفيف أجنحة طيور الجنات في النهار. أيتها الغابة الرمَّانية من يتَملَّى جمالك اليوم، ويتغزل بزهرك القاني، ويا غابة القراصية من ينام اليوم في ظلالك العميقة في القيلولة. ومن يجني هذه الثروات الكريمة، ويا أيتها البساتين المجاورة ، ويا أيها البستان الغربي الذي كنتَ مذهلاً بجمالك ومذهلاً بأحمالك من يجني خيراتك الحسان من الرمان والتفاح والسفرجل والخوخ والكمثرى والبرابللو والقراصية واللوزيات والأعناب؟ لم ننس أن نزودك بكل ما تحتاج إليه، لقد خزنا للمحرك قطع الغيار، والمازوت والكاز والشحم، سيستمر المحرك بضخ الماء ولن تعطش أشجارك ونباتاتك. ويا غابتنا المطلة من فوق الجبل على البستان الغربي حافظي على صد الرياح لتحمي كل الثمرات، لقد ضاعفنا عدد أشجار البلوط والسنديان والعبهر وكثفنا زراعتها فوق الجبل لتشكل مصداً للرياح لكيلا تقسو على الأزهار والنوار والأثمار.

ويا شجر الرمان لا تقبل الاقتلاع فأنت القيم على الارض والأشجار وأنت نقطة العلام. سنعود وستكون أنت الدليل.

 

فيا شجرَ الرمانِ إنك شاهدٌ * على أننا كنا هناكَ نُـعَـمِّرُ

ويا شجرَ الرمانِ إنَّ وجوهنا * على كلِّ جذعٍ فيكَ رسمٌ مؤطَّرُ

ويا شجرَ الرمانِ زهرُك من دمي * سقيتُ به أرضي وأنتَ المؤَشِّرُ

ويا شجرَ الرمانِ لم نَنْسَ أرضَنا * ولو بعد ألفٍ سوفَ نأتي ونثأرُ

ياصفورية: هذا المرجل الهدَّار الذي يغلي في شراييني، ويتفجر فيها فقاعات من جحيم، ويسفع قلبي بحرارته، ويحرق دمي ليحوله إلى سيال جمري ناري صخابٍ يصرخ حتى تُرَجِّعَ الوديان والجبال أصداء صياحه، أما من سبيل إليك لأطفئ ناري بنظرة إلى بيوتك ودروبك وإلى الخلديات وبساتينك وعيونك ؟

يا صفورية: هذه المرارة التي تكوي حلقي كأنني ابتلع العلقم حنظلةً حنظلةً حتى تجف عروقي فأشرب ماء مِلْحاً أُجاجاً زُعاقاً حُرَّاقاً يحرق جوفي، أما من سبيل إلى حلاوة من رماننا وتيننا وصبرنا، بل أما من سبيل إلى عليقمة يسيرة من جرجير الزيتون الناضج حتى سقط تحت أمه، أو من عروق المرار والعلت من الحكورة ومن تحت زيتون الدوار والبرانس وجورة الزعتر مع شربة ماء من نبع الخلدية أو رأس العين ؟

يا صفورية: في شوارعك وعلى بيادرك وفي الحواكير والبساتين والبراري والمدرسة والمضافة والدكاكين وحيثما كنت فيك كان لي هوية، كانت سحنتي، ومخايلي، وسيمائي، وملامحي تنطق باسمي من غير أن أنطق به. كانوا يتفرسون في وجوهنا فتصدق فراستهم، كانوا يتوسمون بنا وكانوا أروع المتوسمين.

يا صفورية: بعيداً عنك كبرنا، في الهجرة، وتفجرت فينا الطموحات الشخصية بكل نيرانها المستعرة الراغبة بالتخلص من الضياع والفقر واليأس واللاهدف واللاهوية والتواقة إلى الحصول على التعليم والمكانة والمال وتحقيق كل ما تتوق له الذات الفردية بكل فطرتها الطبيعية ونهمها للحياة والزواج والشهرة. ولكن كل ما حولنا من الظروف حاول أن يتركنا هملاً بلا دور في الحياة وتفجرت قوى قاتلة تخمد هذه الطموحات وتحطمها أقلها الفقر وشيخوخة الأهل وفقدان الفرص.

يا صفورية: ما العمل ؟ الخلاص الفردي محرم يا صفورية. بقينا مع الأهل، بقينا مع الآباء والأمهات، والأجداد والجدات، والإخوة والأخوات. بقينا شامخين مثل جبالك، مثمرين مثل أشجارك، كرماء مثل عيون مائك، وصح فينا توسم المتوسمين، وصدقت فينا فراسة المتفرسين، لأن الطموح الفردي،على حسب التضحية بالأهل، وهْمٌ، ولأن الهروب الفردي لن يحل مشكلة الهجرة والاغتراب والضياع واللاهوية، الهروب الفردي نذالة لا نحسنها يا صفورية، هجمنا على الحياة لنا ولأهلنا، هجمنا على الدنيا بصلابة العصب الذي تربى على رمانك وتينك، وبثبات القلب الذي زرعه فينا صبرك، وصلابة الروح التي روتنا بها مياهك، هجمنا على الدنيا تحت وطأة الاضطهاد السياسي فكان صبرنا أقوى منه، وفي غياهب الغربة فكان إيماننا أصلب من حنادس الظلمات، وتحت وطأة اللاإعتراف وربما الإزدراء، وربما الإهانات وكانت معاندتنا أصلد من حدود الكلال، وأشد قسوة من أي انكسار، و لم نَذُب في بوتقة أحد، بل فضلنا أن نمضغ الحرقة التي في قلوبنا على مضض، وأن نبتلع الغصص التي عَلْقَمت ريقنا بكبرياء، واستهدينا بأنوار عزك المشعة في أرواحنا يا صفورية، وتغلبنا على الضياع الذي أحسسناه، وتجاوزنا الظلم الذي ما زال يجتاح أرواحنا ويطرح ألف سؤال وسؤال.

يا صفورية: مازلنا قادرين على حبك حباً رائعاً جماً متعاظماً مشتعلاً اشتعالاً فواراً كالمرجل الهدَّار الذي يغلي في نفوسنا، المرجل الهدَّار المفعم بالمشاعر الحية والنار الموقدة في شراييننا، والشحنات المكهربة التي تتفجر في أعماقنا، والحب اللانهائي المُستَكِن في أرواحنا، والمُسْتَسِر في غيابات نفوسنا .

يا صفورية:أنت النصر أو الشهادة.اللهم أكرمنا بذلك، يا أكرم الأكرمين.