عشت في صفورية: مكان لا يموت

عشت في صفورية: مكان لا يموت

عشت في صفورية: مكان لا يموت  | موسوعة القرى الفلسطينية

 

عشت في صفورية: مكان لا يموت

الطريق إلى الخلدية أو الخلديات. القسم الثاني

 

ومع كل الجبروت الاستعماري البريطاني، ومع إمداد اليهود بكل شيء، فقد استطاع الفلسطينيون أن يهزموا اليهود في الميدان في عدة مرات. وكانت بريطانيا في كل مرة ينتصر فيها الفلسطينيون تفرض الهدنة، لتعطي اليهود فرصة للحشد وللمزيد من الحصول على السلاح بينما تمنع أي تسليح من الوصول إلى أيدي الفلسطينيين. الهدنة الأولى والهدنة الثانية ومنع الفلسطينيين من التسليح حتى سقوط فلسطين كانت خدعاً وتآمراً جعلت من حرب1948 حرباً شكلية لا تعبر فعلاً عن قدرات الشعب الفلسطيني، والدعم العربي القليل الذي تلقاه ، لأن الدول العربية آنذاك كانت حديثة العهد بالاستقلال ولا تملك لنفسها الكثير، ولم تستطع كل الدول العربية أن تحشد في كل ما جمعت قوة فرقة عسكرية واحدة، في حين حشد اليهود بمساعدة بريطانيا والغرب عموماً أكثر من ست أضعاف ما حشد العرب مجتمعين. وزيادة على ذلك كانت القوات اليهودية معززة بالسيارات المصفحة والدبابات ومدفعية الميدان وأخيرا الطيران وسلاح البحرية. الكيان الذي يدعى اليوم "إسرائيل" ما زال يتابع نفس النمط من التدريب ثم التدريب ثم التدريب، والمناورات ثم المناورات ثم المناورات، والإعداد للحرب بكل ما تستطيع بدعم من الولايات المتحدة الامريكية والاتحاد الأوروبي. هل نعجب من ذلك؟ لا. فهذا عدو يستعد، ولكن السؤال متى يقوم الفلسطينيون والعرب بما يقوم به اليهود وأكثر؟ ما يسمى إسرائيل ليس معجزة، بل هي مشكلة واجهت مثلها شعوب كثيرة احتُلت بلادها. ولكن علينا أن نتذكر أن القوة بكل معانيها مطلوبة بعد الإيمان والثقة بالله تعالى ثم بأنفسنا وأمتنا ثم بالإعداد الصحيح بأفضل مما يعدون وأكثر مما يعدون.

هل قاتل أهل صفورية جيداً ؟ لا أعرف، وعلى الذين يعرفون أن يقولوا شهادتهم للتاريخ. لكن هنا أستطيع أن أروي ما عشته وسمعته فقط، وسيبقى تاريخ صفورية غير مكتمل حتى يؤرخه من يعلمون ومن شهدوا ومارسوا ودافعوا ثم انسحبوا.

المتداول في صفورية أن الشيخ صالح السليم مختار صفورية كان يتلقى رسائل من اليهود تطلب منه ضمان استسلام صفورية واعتبارها بلداً مفتوحاً. في مقابل سماح اليهود ببقاء أهل صفورية كما هم ومن دون المساس بهم. هل كان هذا ممكناً؟ هل كان يمكن الوثوق باليهود؟ وهل كان يصح من صفورية أن تستسلم من دون قتال؟ القوة العسكرية غير متكافئة، واليهود حاقدون على صفورية، كان اسمها في معركة الهدار في حيفا وفي شفا عمرو وفي الدامون وفي الهوشة والكساير وفي تمرة وفي لوبية وفي الشجرة وهي آخر معاركها خارج صفورية، ودماء اليهود فيها لم تجف بعد، هل يثق أحد بوعود اليهود؟ لا. ثم إن اليهود كانوا وما زالوا يعتقدون أن صفورية كانت مركزاً ثقافياً لهم في يوم ما من التاريخ، وكانوا على الأرجح سيبيدون عوائل معينة فوراً، ويهجرون من يتبقى، لأنهم كانوا متشوقين إلى إعادة صفورية إلى صورتها اليهودية، وكانت أفواج كثيرة من السواح تزور صفورية، من اليهود والمسيحيين، ولكن لهذا الموضوع حديثاً آخر.

جمع الشيخ صالح السليم وجوه صفورية قبل هجوم اليهود بأيام وحضر هذا الاجتماع عمي طه ووالدي. وشاور المختار الناس. وانقسم الناس بخصوص الاستسلام، ولكن الأكثرية الساحقة من أهل صفورية رفضوا الاستسلام، ومالوا إلى القتال بكل ما يملكون، فلم يكن أحد يطيق أن يقول التاريخ إن صفورية التي جاهدت الاحتلال الإنجليزي من أول يوم حتى آخر يوم تستسلم لليهود بلا قتال. أجمعوا على تكليف قوة صفورية ومن يستطيع القتال ويملك السلاح أن يقاتل حتى يستنفد ما معه، وذلك معذرة إلى الله، وحتى يحق له أن يتحيز إلى جماعة أخرى من المسلمين. حدثني أخ كريم أثق بكلامه قال: إنه كان يملك خمس طلقات فقط حين قررت جماعته الانسحاب، وهذه الطلقات الخمس للدفاع المباشر عن النفس، لأن الذين كانوا يلبسون لباس المجاهدين سيكونون مستهدفين أكثر من غيرهم.

وعلى طريق الخلدية في العودة إلى البلد مع مسيرة مئات الدواب ومئات الغنم في القطعان العائدة من المراعي كثيراً ما كانت شَلْيَة من الذئاب تباري الماشين، وكلاب الرعاة تعوي بعنف، والرعاة على خيلهم أحياناً تخب بهم بين القطعان وبين الذئاب، والسوط بأيديهم، والسلاح على أكتافهم. ولكني لم أشاهد أي اشتباك مع الذئاب، لأن الكلاب تعوي والركائب تسير، حتى إذا دخلنا أطراف البلد جاء العديد من الكلاب من البلد يلاقى الغنم، ويعوي مع العائدين، ومن الكلاب التي كانت تأتي لتلاقينا كلبنا الأبيض العجيب، فقد كان يشتم روائحنا قبل أكثر من كيلومتر، ويعود ليبلغ من في الدار أن أهل الخلدية وصلوا منطقة أبو صحن. عند أبو صحن تبدأ البلد وتلاقيك أضواؤها الخافتة الباهتة من بعيد، ولكنها مؤنسة باعثة للسرور بالوصول، وتنتهي رحلة يوم طويل ويؤوي الناس إلى بيوتهم والموعد بينهم طلوع النجمة، واللقاء في صلاة الفجر على الطريق إلى الناصرة.

وفي الضحى العالي من اليوم التالي تكون مئات الدواب عائدة من الناصرة إلى الخلديات، وهي تنزل في طريق منحدرة وبساتين عين القسطل على يمين المتحرك على الطريق، والنظر يمتد في الأفق إلى الجبال المطلة على عكا والبحر في الغرب، والجبال التي ترتفع لتصعد إلى شفا عمرو في الجنوب الغربي، ليرى جنات خضراء ترتفع الأرض فيها من سهل، إلى تل، إلى هضبة أعلى، فهي جنات معلقة يرتفع بعضها فوق بعض. وكم وقف السائرون يملؤون أوعيتهم من ماء القسطل؟ وكم تساءل المتسائلون: يا ترى ما سر هذه العين التي لم تنضب منذ فجر التاريخ؟

والقسطل ليس هو نبع العين وحده بل هو بحر تحت صفورية ومحيطها ونبع العين في القسطل شبه بئر ارتوازية يأخذ من بحر كبير. وهناك عيون كثيرة مهمة للزراعة وللشرب والرعاة. ومنها عين الخلدية وعين المشيرفة وعليهما مثل عين القسطل بساتين ورعي وزراعات سقي وبعل وصيفية وشتوية. ولا ننسى أن هناك آبار كثيرة أشهرها بير بداوية ولكنها ليست وحدها. وفي كل بيت في صفورية بئر للاستخدام اليومي في البيت وبعضها كان نبعاً لا يغور صيفاً ولا شتاء ، وفي كثير من الحواكير كانت هناك آبار لسقي بعض المحاصيل ولسقي الدواب، وكان في حكورتنا بئر تنبع المياه فيه من عمق متر ، وهي بئر فوارة صيفاً وشتاء.

ولكي تتخيلوا ضخامة مصادر المياه التي تنضح منها العين في القسطل وغيرها من عشرات العيون والآبار والقنوات تخيلوا بيكاراً صخماً يرتكز أحد ساقيه على القلعة القائمة في قمة هضبة صفورية التاريخية، والفتحة الثانية للبيكار تنفتح حتى ترتكز على خط تقسيم المياه في الجبال المشرفة على عكا وتتحرك ساق البيكار لتدور في دائرة نصف قطرها 20 كيلومتراً أو أكثر لكي تمر على مرتفعات شفا عمرو وتتحرك إلى الخلديات والمشيرفة ثم قرون حطين وتدور على خط تقسيم المياه في مرتفعات الناصرة ثم تدور حول صفورية لتشمل كل البطوف وتعود إلى خط تقسيم المياه فوق الجبال المشرفة على عكا، هذه الدائرة تستقبل كميات هائلة من مياه الأمطار وكلها تصب في النهاية في البطوف، وتختزن هذه الدائرة تحتها بحراً تأخذ منه العين في القسطل وتأخذ منه عشرات العيون الأخرى، وأرجح أن صورة الأرض وتضاريسها تسمح بالقول إن هذا حوض قديم قدم التاريخ تتجمع فيه مياه الأمطار من الأزمنة الجيولوجية الموغلة في القدم. وكانت القنوات، حسب ما قرأنا، من العصر الحجري ثم الكنعاني تسقي من العين كل القرى المحيطة ثم ازدادت القنوات في العصر الروماني ثم جرى الاهتمام الكبير بها في العصور الإسلامية. كل هذا والقسطل لا ينضب.

وحول صفورية مواقع أثرية كثيرة لعلي أحاول أن أشير إليها في مرات قادمة، وهي من الكثرة والتنوع ما يجعلها كنوزاً أثرية سياحية. كلها شربت من عين القسطل، فكم حضارة قامت على هذه الأرض منذ الإنسان الأول الذي سكنها منذ العصر الحجري وبدايات الحضارات العديدة التي مرت على فلسطين. وكم من الجيوش تقاتلت لتحتل العين ومواقع صفورية العديدة، حتى طهرتها جيوش الإسلام بفتح شرحبيل بن حسنة رضي الله عنه، ثم بعد حطين وعين جالوت، حتى جاء الاستعمار البريطاني عليهم لعائن الله والملائكة والناس أجمعين.

وآخر قصة كان يتداولها أهل صفورية هي قصة الجيش العثماني الذي عبر أرض صفورية في الحرب العالمية الأولى وهو ذاهب ليدافع عن قناة السويس، ثم عن فلسطين أمام غزة، ثم أمام يافا والقدس، ثم أمام بيروت ودمشق، قبل أن تنهار تركيا ويستلم الإنجليز هذه البلاد المقدسة ليسلموها لليهود. وتقول القصة إن الجيش العثماني دخل أراضي صفورية فاستقبله مختار صفورية في ذلك الوقت، وأظن أنه كان من دار سليمان، وحبذا لو يستطيع أحد من هذه العائلة الكريمة أن يقص القصة، وأبلغ المختار قائد الجيش أن الجيش كله بقائده وبضباطه وبرجاله وبخيله ضيف على صفورية، وتعجب القائد، ولكن جاءه الجواب فعلاً وقد استضافت صفورية جيشاً كاملاً بالآلاف، أطعمته، وسقته، وقدمت العلف لخيله. وبعد تلك الحادثة منح السلطان العثماني مختار صفورية أعلى وسام لتكريمه وتكريم صفورية بشخصه. كان الناس يستضيفون قائد الجيش وضباطه ويتفاخرون بذلك، صفورية فقط هي التي استضافت الجيش وقائده وضباطه ولم تر في ذلك شيئاً غريباً عن طبائعها وعاداتها. وفي الحقيقة من الخطأ مقارنة صفورية بأي قرية أخرى، وليس هذا عنجهية واستعلاء ولكن إلقاء نظرة على إحصاءات السكان تبرهن ذلك فوراً حسب إحصاء العام 1912 كان قضاء الناصرة يضم 22 قرية وكان السكان كما يلي:

صفورية: 2767البعينة : 162العزير: 65رمانة: 45كفر مندا: 321كوكب: 246عيلوط: 485جباتا: 84عفولة:172زبويا:489إكسال: 521دبورية: 489

عين ماهل: 372أم اقبي: 90المشهد: 403

وكل هذه القرى من المسلمين، وكان هناك قرى فيها عدد من المسحييين وهي:

الرينة: مسلمون 472ومسيحيون 621، وكفر كنا: مسلمون 548 ومسيحيون 612، وطرعان: مسلمون 486 ومسيحيون 227، ومعلول: مسلمون 296 ومسيحيون 235، ومجيدل: مسلمون 657 ومسيحيون 491 ، ويافا: مسلمون 354 ومسيحيون 491، وجنجار: مسلمون 45 ومسيحيون 18، والفولة كان فيها يهود ولم يذكر لهم إحصاء( عن كتاب تاريخ الناصرة، ص ص 365-366 تأليف القس أسعد منصور في العام 1924). وقد أحببت أن أذكر هذا الإحصاء ليتبين كما سبق لي أن ذكرت إن صفورية أكثر أملاكاً وثراء وعدداً، بل كانت تشهد انفجاراً سكانياً هو الذي جعل أهلها يبنون بيوتاً جديدة في منطقة السدر والمطلة وأماكن أخرى لم يتح لها الوقت الكافي لتبرز. فلا غربة إذاً أن القرى الضئيلة تستضيف قائداً بينما صفورية تستضيف جيشاً.

تمتد جنات عين القسطل وبساتينها على يمين السائر إلى الخلديات وتماشي السائرين حتى ما قبل الخلديات بقليل وبعدها تبدأ غابات الزيتون ومناطق الرعي المخضوضرة دائماً تملؤ العيون نضارة وجمالاً وخضرة. وبالوصول إلى الخلديات تبدأ دورة يوم جديد.

كم كنت جميلة يا صفورية، وكم كانت دورة الحياة فيك شائقة رائقة، رائعة ماتعة. وكم كانت الأعمال تبعث الآمال، ومع أنها كانت متعبة مجهدة تحتاج للصبر والمعاناة والجلد ولكنها كانت تجلب الكرامة السامقة الشامخة، والثراء والعز والرخاء، الرجل يعمل والمرأة تعمل، والفتى يعمل والطفل يعمل. ولكن المرأة كانت أيضاً في أمور كثيرة مخدومة محشومة، ومسيَّدة مؤيدة، وكان العيش في ظلالك يا صفورية كريماً هنيئاً، يشعر فيه الناس بالقوة المادية والمعنوية والقدرة على تنفيذ ما يرغبون، لا يستجدون أحداً فهم الكثرة الكاثرة، ولا يطلبون العون من غريب ، وهذا الاحساس بالاستغناء عن الناس يهز النفس هزاً بالاعتزاز، ويملؤ القلب بالإحساس بالقوة ومحاولة فرض النفوذ بالسخاء والجود وشراء الحمد والثناء بمكارم الأعمال والتنافس في فعل الخيرات والتسابق في تحصيل جلائل الانجازات.

وكان صفوك يا صفورية كالماء النمير في جابية البستان، والماء الغزير في قسطلك، والماء الفوَّار في عشرات العيون المنتشرة في أراضيك ووديانك، والماء الكثير في آبار بيوتك وحواكيرك . وكان الصفوري عزيزاً مهاباً بل أكاد أقول مرهوب الجانب، مقدماً في مجالس الرجال ومجتمعات الكرام، ولرجالات صفورية وعائلاتها وحمايلها أسماء وأيادي بيضاء لا في صفورية وحدها بل لا أبالغ إذا قلت في القرى المحيطة أيضاً ، كانوا يشاركون في مساعدات الفقير ونصرة الضعيف، وحل مشكلات القرى وخلافاتها حول الأراضي والرعي والمياه، صفورية كان اسمها العاصمة. وهي تستحق هذا الاسم وقد أطلق عليه منذ بدء الحركة القسامية، وتعرف ذلك كل القرى المحيطة بصفورية.

يا حفيف الأوراق كنت نغما سحرياً، و يا وشوشات الغصون المتمايلة مع النسمات كنت العزيف المخيف في الليل، وكنت العزف اللطيف الخفيف كأنك رفيف أجنحة طيور الجنات في النهار. أيتها الغابة الرمَّانية من يتَملَّى جمالك اليوم، ويتغزل بزهرك القاني، ويا غابة القراصية من ينام اليوم في ظلالك العميقة في القيلولة. ومن يجني هذه الثروات الكريمة، ويا أيتها البساتين المجاورة ، ويا أيها البستان الغربي الذي كنتَ مذهلاً بجمالك ومذهلاً بأحمالك من يجني خيراتك الحسان من الرمان والتفاح والسفرجل والخوخ والكمثرى والبرابللو والقراصية واللوزيات والأعناب؟ لم ننس أن نزودك بكل ما تحتاج إليه، لقد خزنا للمحرك قطع الغيار، والمازوت والكاز والشحم، سيستمر المحرك بضخ الماء ولن تعطش أشجارك ونباتاتك. ويا غابتنا المطلة من فوق الجبل على البستان الغربي حافظي على صد الرياح لتحمي كل الثمرات، لقد ضاعفنا عدد أشجار البلوط والسنديان والعبهر وكثفنا زراعتها فوق الجبل لتشكل مصداً للرياح لكيلا تقسو على الأزهار والنوار والأثمار.

ويا شجر الرمان لا تقبل الاقتلاع فأنت القيم على الارض والأشجار وأنت نقطة العلام. سنعود وستكون أنت الدليل.

 

فيا شجرَ الرمانِ إنك شاهدٌ * على أننا كنا هناكَ نُـعَـمِّرُ

ويا شجرَ الرمانِ إنَّ وجوهنا * على كلِّ جذعٍ فيكَ رسمٌ مؤطَّرُ

ويا شجرَ الرمانِ زهرُك من دمي * سقيتُ به أرضي وأنتَ المؤَشِّرُ

ويا شجرَ الرمانِ لم نَنْسَ أرضَنا * ولو بعد ألفٍ سوفَ نأتي ونثأرُ

ياصفورية: هذا المرجل الهدَّار الذي يغلي في شراييني، ويتفجر فيها فقاعات من جحيم، ويسفع قلبي بحرارته، ويحرق دمي ليحوله إلى سيال جمري ناري صخابٍ يصرخ حتى تُرَجِّعَ الوديان والجبال أصداء صياحه، أما من سبيل إليك لأطفئ ناري بنظرة إلى بيوتك ودروبك وإلى الخلديات وبساتينك وعيونك ؟

يا صفورية: هذه المرارة التي تكوي حلقي كأنني ابتلع العلقم حنظلةً حنظلةً حتى تجف عروقي فأشرب ماء مِلْحاً أُجاجاً زُعاقاً حُرَّاقاً يحرق جوفي، أما من سبيل إلى حلاوة من رماننا وتيننا وصبرنا، بل أما من سبيل إلى عليقمة يسيرة من جرجير الزيتون الناضج حتى سقط تحت أمه، أو من عروق المرار والعلت من الحكورة ومن تحت زيتون الدوار والبرانس وجورة الزعتر مع شربة ماء من نبع الخلدية أو رأس العين ؟

يا صفورية: في شوارعك وعلى بيادرك وفي الحواكير والبساتين والبراري والمدرسة والمضافة والدكاكين وحيثما كنت فيك كان لي هوية، كانت سحنتي، ومخايلي، وسيمائي، وملامحي تنطق باسمي من غير أن أنطق به. كانوا يتفرسون في وجوهنا فتصدق فراستهم، كانوا يتوسمون بنا وكانوا أروع المتوسمين.

يا صفورية: بعيداً عنك كبرنا، في الهجرة، وتفجرت فينا الطموحات الشخصية بكل نيرانها المستعرة الراغبة بالتخلص من الضياع والفقر واليأس واللاهدف واللاهوية والتواقة إلى الحصول على التعليم والمكانة والمال وتحقيق كل ما تتوق له الذات الفردية بكل فطرتها الطبيعية ونهمها للحياة والزواج والشهرة. ولكن كل ما حولنا من الظروف حاول أن يتركنا هملاً بلا دور في الحياة وتفجرت قوى قاتلة تخمد هذه الطموحات وتحطمها أقلها الفقر وشيخوخة الأهل وفقدان الفرص.

يا صفورية: ما العمل ؟ الخلاص الفردي محرم يا صفورية. بقينا مع الأهل، بقينا مع الآباء والأمهات، والأجداد والجدات، والإخوة والأخوات. بقينا شامخين مثل جبالك، مثمرين مثل أشجارك، كرماء مثل عيون مائك، وصح فينا توسم المتوسمين، وصدقت فينا فراسة المتفرسين، لأن الطموح الفردي،على حسب التضحية بالأهل، وهْمٌ، ولأن الهروب الفردي لن يحل مشكلة الهجرة والاغتراب والضياع واللاهوية، الهروب الفردي نذالة لا نحسنها يا صفورية، هجمنا على الحياة لنا ولأهلنا، هجمنا على الدنيا بصلابة العصب الذي تربى على رمانك وتينك، وبثبات القلب الذي زرعه فينا صبرك، وصلابة الروح التي روتنا بها مياهك، هجمنا على الدنيا تحت وطأة الاضطهاد السياسي فكان صبرنا أقوى منه، وفي غياهب الغربة فكان إيماننا أصلب من حنادس الظلمات، وتحت وطأة اللاإعتراف وربما الإزدراء، وربما الإهانات وكانت معاندتنا أصلد من حدود الكلال، وأشد قسوة من أي انكسار، و لم نَذُب في بوتقة أحد، بل فضلنا أن نمضغ الحرقة التي في قلوبنا على مضض، وأن نبتلع الغصص التي عَلْقَمت ريقنا بكبرياء، واستهدينا بأنوار عزك المشعة في أرواحنا يا صفورية، وتغلبنا على الضياع الذي أحسسناه، وتجاوزنا الظلم الذي ما زال يجتاح أرواحنا ويطرح ألف سؤال وسؤال.

يا صفورية: مازلنا قادرين على حبك حباً رائعاً جماً متعاظماً مشتعلاً اشتعالاً فواراً كالمرجل الهدَّار الذي يغلي في نفوسنا، المرجل الهدَّار المفعم بالمشاعر الحية والنار الموقدة في شراييننا، والشحنات المكهربة التي تتفجر في أعماقنا، والحب اللانهائي المُستَكِن في أرواحنا، والمُسْتَسِر في غيابات نفوسنا .

يا صفورية:أنت النصر أو الشهادة.اللهم أكرمنا بذلك، يا أكرم الأكرمين.