بلد الشيخ… قرية فلسطينية مأهولة بالسكان وعامرة بالخيرات كان مصيرها التهجير والاقتلاع
بعد المؤتمر الصهيوني الأول، الذي عقد في العام 1897 في بازل في سويسرا، قرر حاخام العاصمة النمساوية فيينا أن يستقصي أفكار هرتسل المبثوثة في كتابه “دولة اليهود”، فأرسل مندوبين عنه إلى فلسطين في مهمة وصفت بأنها لـ “تقصّي الحقائق”. وقد وجّه هذان المندوبان برقية من فلسطين يقولان فيها: “العروس (أي فلسطين) جميلة، لكنها متزوجة من رجل آخر”. ومعنى هذا الكلام أن الأرض جميلة لكنها مسكونة بشعب تنتمي له وينتمي لها. ولم تكن فلسطين أرضًا فارغة كما ادعى هرتسل وكما صورتها آلة الإعلام الصهيونية للترويج للوطن القادم الذي صدّر صورته الفارغة بعض المصورين الأوروبيين.
قرية بلد الشيخ الفلسطينية التي تقع في قضاء حيفا على بعد 5 كم في جنوب شرق مدينة حيفا، والتي أطلق عليها بعد احتلالها وتطهيرها من سكانها الأصليين من قبل العصابات الصهيونية اسم “تل حنان”، وهي جزء من مستعمرة “نيشر”. كان في بلد الشيخ 407 نسمات من العرب في عام 1922، وارتفع عددهم إلى 747 نسمة في عام 1931 ويشمل هذا العدد عرب القُلّيطات، وعرب الصويطات، وعرب الطوفية، وعرب السمنية. وفي عام 1945 ارتفع العدد إلى 4.120 نسمة فأصبحت بلدة الشيخ الثانية بين قرى قضاء حيفا من حيث عدد سكانها الذين كانوا جميعهم من المسلمين. وكان للقرية شكل مستطيل، ومنازلها متقاربة ومبنية بالحجارة والاسمنت. وكان في القرية عدد من المقاهي، ومحطتان للوقود تقعان على طريق حيفا-جنين العام.
سميت بذلك نسبة إلى الشيخ السهلي الصوفي الذي أقطعه إياها السلطان العثماني سليم الأول. وأنشئت القرية في أدنى السفح الشمالي لجبل الكرمل قرب حافة مرج ابن عامر على ارتفاع 100م عن سطح البحر ويمر نهر المقطع بشرق وشمال شرق القرية على بعد يقل عن الكيلومترين، وهو الحد الشمالي الشرقي لأراضيها. وتبدأ أو تمر بأراضيها عدة أودية صغيرة تنتهي في مرج ابن عامر. وتكثر الآبار في أراضيها على طول حافة جبل الكرمل الدنيا، ويوجد خزان للماء على بعد 1.25 كم من شمالها الغربي.
وكان في القرية مدرسة ابتدائية افتتحت منذ العهد العثماني، ومعصرة زيتون غير آلية. وكان اقتصاد القرية يعتمد، في الغالب، على الزراعة وتربية المواشي. وكان الزيتون والحبوب والفاكهة أهم المحاصيل الزراعية. وبعد الحصاد، كان سكان القرية يستخرجون الزيت من الزيتون، مستخدمين معصرة يدوية. وفي 1944/1945 كان ما مجموعه 4410 من الدونمات مخصصا للحبوب، و368 دونماً مرويا أو مستخدماً للبساتين. وكان ثمة مصدر آخر للرزق هو التوظيف، فقد كان عدد من سكان القرية يعمل في حيفا. وفي فترة الانتداب، استأجر بعض المستثمرين الصهيونيين قسماً من الأرض بنوا عليه معملاً للأسمنت، وسوى ذلك من الأبنية التي أصبحت فيما بعد مستعمرة “نيشر”. وإلى الشمال من القرية كان مقام الشيخ عبد الله السهلي، وإلى جواره خان (يعود في أرجح الظن إلى الفترة المملوكية). وقد عثر على معصرة حجرية للعنب، وعلى بعض الأحواض التي يقال إنها تعود إلى العصر البيزنطي.
في عام النكبة 1948 ظلت القرية تقاوم وتدافع عن المدينة حتى الربيع، ولم تستطيع القوات الصهيونية احتلالها، وبعد سقوط حيفا في أبريل 1948 وبمساعدة القوات البريطانية التي أعلنت هدنة في المدينة وإخلاء القرية من سكانها الذين اتجهوا صوب عكا.
وفي عام 1949 قام المستوطنون الصهاينة بالسكن في بلد الشيخ وأطلقوا عليها اسم “تل حنان”، وهي جزء من مستعمرة “نيشر” حاليا، نسبة إلى مصنع الاسمِنت القائم على أراضيها أيام الاحتلال الإنجليزي. وما زال الكثير من المنازل والمتاجر العربية موجودا ويشغله سكان المستعمرة، ومقبرة القرية ما زالت موجودة وهي تضم جثمان الشيخ عز الدين القسام المجاهد الذي قاتل القوات البريطانية عام 1935 وأدى مقتله إلى اندلاع ثورة 1936 ضد الاحتلال البريطاني.
وهنا، يذكر المؤرخ الإسرائيلي ايلان بابيه في كتابه (التطهير العرقي في فلسطين)، أن القيادة العليا للهاغاناه، كجزء من الهيئة الاستشارية، كانت تواقة إلى اختبار، بين أمور أخرى، درجة يقظة البريطانيين تجاه أعمالها، ومن ثم قررت أن تنهب بكاملها وتقتل عدداً كبيراً من سكانها. وكانت السلطات البريطانية آنذاك لا تزال مسؤولة عن المحافظة على القانون والنظام، وكانت لا تزال حاضرة بقوة في فلسطين. كانت القرية التي اختارتها القيادة العليا هي بلد الشيخ، حيث يوجد قبر عز الدين القسّام، أحد قادة فلسطين الكاريزماتيين والمحترمين جداً في الثلاثينيات، والذي قتله البريطانيون في سنة 1935. وما زال القبر موجوداً إلى الآن، وهو واحد من الآثار القليلة المتبقية من هذه القرية.
تفاصيل المجزرة
ارتكبت الهاغاناه مجزرة في بلد الشيخ، في 31 كانون الأول/ ديسمبر 1947. وجاء في تاريخ الهاغاناه “أن قوة قوامها 170 رجلا من البلماح أمرت بتطويق القرية، وإلحاق الأذى بأكبر عدد ممكن من الرجال، وتخريب الممتلكات، والإحجام عن التعرض للنساء والأولاد”. وقد خلف المهاجمون أكثر من 60 شهيداً، وعلى الرغم من الجملة الواردة في الأوامر فقد كان بين الضحايا نساء وأطفال. وجاء في تقرير وضعته القوة المهاجمة بعد تلك “العملية” أنه “بسبب نيران أطلقت من داخل الغرف، كان من المستحيل تجنب الحاق الأذى أيضاً بالنساء والأطفال. وقد دمر في أثناء هذا الهجوم عشرات المنازل. وكانت هذه المجزرة ثأراً لمقتل عمال يهود في مصفاة النفط اليوم الساب، وقيل حينها أن عمالاً فلسطينيين من القرية قاموا بذلك رداً على القاء قنبلة فجرتها عصابة الأرغون عند أبواب مصفاة النفط في حيفا، قتل من جرائها 6 عمال فلسطينيين وجرح 42.
وجاء في صحيفة فلسطين الصادرة في تاريخ (31/12/1947)، أن الضحايا الفلسطينيين سقطوا نتيجة القاء قنبلة من سيارة كانت تمر بالمكان مسرعة، بينما كان العمال يقفون في صف الاستخدام خارج المصفاة. وبفعل الغضب الجارف بعد ذلك الهجوم، انقض العمال الفلسطينيون على العمال اليهود فقتلوا منهم 41. وكانت الهاغاناه قد وصفت هجوم الأرغون الأول بأنه “غير مسؤول” وفق ما ذكر المؤرخ بني موريس.
بعد هذه المجزرة، احتلت القرية جزئياً في 7 كانون الثاني/يناير 1948، ولم تحتلها القوات الصهيونية إلا في نهاية شهر 4/1948، في عملية احتلال حيفا ذاتها. وبسقوط حيفا في 22 نيسان/أبريل، أجلي عدد من نساء القرية وأطفالها إلى أماكن آمنة، تحسباً لهجوم قد يُشن.
عند فجر 24 نيسان/أبريل، حاصرت وحدات من الهاغاناه القرية وطلبت من السكان تسليم أسلحتهم (وذلك استناداً إلى صحيفة “نيويورك تايمز” وإلى بني موريس معاً). فقد جاء في الروايتين أن سكان القرية سلّموا “22 بندقية قديمة” وطلبوا هدنة، غير أن الهاغاناه رفضت ذلك الطلب وهددت بالهجوم إذا لم يُسلم باقي الأسلحة. وعند الساعة الخامسة صباحاً، فتحت الهاغاناه النار من مدافع الهاون والمدافع الرشاشة. وجاء في تقرير لوحدة بريطانية وصلت إلى المكان في الساعة السادسة صباحاً، أنه لم يصدر عن القرية “أي رد تقريبا” على إطلاق النار. ثم رتّب البريطانيون هدنة تقضي بإخلاء القرية من سكانها، وفي جملتهم النساء والأطفال، وذلك تحت حماية بريطانية. ويبدو، بحسب قول موريس، أن بعض السكان اتجه صوب عكا، ثم فرّ منها بعد أيام قليلة، عندما انتاب الذعر المدينة تحسباً لهجوم جديد. استوطن المهاجرون الصهاينة القرية في سنة 1949، وأطلقوا عليها اسم حنان، وهي الآن من مستعمرة نيشر.
شهادات من المذبحة
كتب أرييه يتسحاق، الموظف في شعبة التاريخ في الجيش الإسرائيلي عن المجزرة في عدد 14 نيسان/1972 في صحيفة “يديعوت أحرنوت” ما يلي: ((في الشهر الأولى من 1948 قامت الهاغاناه والبلماح بعشرات العمليات التي تتمثل في مهاجمة قرى عربية، ونسف أكبر عدد من المنازل بالديناميت، وكان عدد كبير من الشيوخ والنساء والأطفال يلقون مصرعهم في هذه الهجمات، خصوصاً عندما كان يبدي السكان أقل مقاومة، وهناك العديد من هذه العمليات التي قام بها متطوعو البلماخ، الذين كانوا يدربون على أساس شعار (نقاوة السلاح اليهودي).
وكمثال على تلك المجزرة التي حدثت في بلد الشيخ (تل حنان). ففي ليل 31/كانون الأول قام لواء “كرملي” بقيادة حاييم افينوعم بالهجوم على بلد الشيخ. وفي أثناء هذه العملية قتل ما يزيد على ستين من السكان في منازلهم، أغلبهم من غير المحاربين. وحسب ما ورد في تقرير قائد العملية: قد أسكتت قواتنا النيران ودخلت إلى القرية وبدأت العمل في البيوت، حيث جعلت كثافة النيران من المتعذر عليهم أن يتفادوا النساء والأطفال)).
الشاهد يوسف الحاج عبد الخالق سباعنه يستذكر في مقابلة شخصية معه تلك الأيام فيقول: ((كانت العلاقة مع اليهود “خوش بوش” نبيع ونشتري حتى صارت طوشة الفينري عندما ضرب اليهود قنبلة وهم مارون في باص على عمال عرب كانوا يسجلون للمصنع. بعدها دشع العمال العرب وقتلوهم بالكريكات والعصي وقتل من اليهود الكثر ومن العرب قليل. وبعدها انا جيت إلى المصطنع لأني توقعت الانتقام. وبعدها هجموا على بلد الشيخ وهاجموها بالليل وهجموا على البيوت بالأسحلة والرشاشات والقنابل والسلاح الأبيض. وحدث أن محمد أحمد علي كان مختبئاً وراء شوالات الرمل للحراسة وهدوها عليه، وأصيب بجروح ونواف سباعنه كان متزوجاً جديداً لما دخلوا على منزله اختبأ وزوجته تحت لوح زينكو ولم يروهما وخبطوا عليهما وتحملا ثقلهم. وعبد المجيد أبو رزق غزاوي قتلوا زوجته وأولاده وبعدها لحق بهم بالبارودة لينتقم فقتلوه ولحق بزوجته وأولاده، وعدت إلى حيفا وسحبت 10 دنانير كانت في حسابي في بنك باركيز)).
أما بهية حمد إسماعيل جرادات: من مواليد 1915 تقول عن المذبحة “دخل اليهود القرية بأسلحة حديثة رشاشة إضافة إلى السلاح الأبيض وأخذوا يلقون القنابل على البيوت ويذبحون الناس بالسكاكين والبلطات، وقد أبيدت عدة عائلات مثل: دار أبو الشريف، ودار أبو رزق، وقد أبيدوا بالكامل”.
ويقول سلمان عبد الله اللبدي أنه كان يمتلك بارودة ويسكن معه ابنه محمد، وعندما بدأ الهجوم، أغلق الأبواب والشبابيك ووضع خلفها أثاث البيت، حتى لا يستطيع المهاجمون فتح الأبواب أو الشبابيك لكن اليهود هجموا على البيت بالقنابل، ودخلوا الدار ودارت معركة حامية داخل البيت ولكنه دافع ببسالة عن نفسه حتى انسحب اليهود.
أما عوض جرادات وعائلته فيقول إنه تعرض لهجوم بالقنابل على بيته وألقيت داخله القنابل، وجرح جراء ذلك جميع أفراد العائلة وصعدت زوجة ابنه على سطح المنزل لتستغيث وتطلب العون وتصيح من مخيم الجيش الأردني الذي لم يكن بعيداً، لكن لا مجيب.
المقال نقلاً عن: