بحيرة الحولة وما حولها
د. نجلا الخضرا / دمشق
يصف الرحالة ناصر خسرو الحولة فبقول: الحولة معدن الأقطان والازهار وهي أغوار وأنهار[1]
ويقول العلامة محمد كرد علي: أما في جنوب الشام فلسطين فأعظم الأراضي شأنا ما يسمى شمال بحيرة الحولة حيث النهر الحاصباني والبانياس والدان أي أصل الأردن[2].
ويقول الرحالة روبنصون الذي زار المنطقة عام 1838م: في سهل الحولة التربة متناهية الخصب تصلح لزراعة الحبوب وتنتج كميات كبيرة من الغلال والقمح والشعير والذرة الصفراء والبيضاء والسمسم والأرز وغيرها دون جهد ومشقة ...ويربي الغوارنة النحل في كغدان اسطوانية مصنوعة من القضبان المتشابكة المطلية بالطين وتغطي بالقش ورأينا المئات منها في سهل الحولة والنحل يجني من زهره النضر الدائم[3]
سهل الحولة منطقة زراعية تقع شمال فلسطين وهي من أخصب البقاع في فلسطين والعالم وذلك لوفرة مياهها ومحطة لاستراحة الطيور المهاجرة على طول الوادي المتصدع الكبير بين افريقيا وآسيا وأوروبا الحولة منها البحرة ومنها السهل ومنها برك الغاب أو المستنقعات. يقع سهل الحولة في أقصى الشمال الشرقي من فلسطين حيث يحده جبل الشيخ ومرتفعات الجولان السورية ومن الشمال جبال عامل اللبنانية ولهذا كان سهل الحولة معبرا رئيسيا بين الشمال والجنوب من بلاد الشام إلى مصر ولا سيما عبر جسر بنات يعقوب وظل لحقبة طويلة من الزمن معبرا للقوافل والجيوش القادمة من الشمال إلى الجنوب وبالعكس[4]ومن الشرق الجولان السوري ومن الغرب جبال الجليل الفلسطينية ومن الجنوب جسر بنات يعقوب حيث يبدأ نهر الأردن بالانحدار نحو بحيرة طبرية، وتقدر مساحة السهل 115كم مربع، تقع الحولة على خط الغور الأعلى؛ والغور هي الأرض الغائرة بين جبلين وتغور الحولة في كتف الجليل[5].
أما البحيرة فهي صغيرة حلوة المياه محاطة بمستنقعات، تقع شمال بحيرة طبريا على مسار نهر الأردن احتلت مساحة 14كم مربع، وأخذت شكل الكمثرى تتعرج عض سواحلها بزوايا بارزة ولا يخلو وسطها من الجزر الصغيرة تبلغ مساحتها 14كم مربع وامتدت المستنقعات حولها مساحة 60كم مربع وكان عمق البحيرة الأقصى 6أمتار ويقل إلى 2م ولا يتجاوز طولها 6م وغرضها يبلغ4,4كممن طرفها الشمالي و0,8كم من الطرف الجنوبي، لا تشغل البحرة وسط السهل الوادي تماما فهي أقرب إلى الشرق وكانت الاهوار والمستنقعات تحف بشواطئ البحيرة الشمالية وتحتل مساحة أكبر من شواطئ البحيرة ذاتها وتغطي مع البحيرة النصف الجنوبي من الوادي الذييبلغ طوله 25كم أي أن طول البحيرة مع المستنقعات 13كم
قام العدو الصهيوني بتجفيف البحيرة بدأ من عام 1951 وحتى عام 1957م وتحويلها إلى أرض زراعية
سميت بالحولة نسبة إلى حول أو شول أحد أبناء آرام وقد أطلق عليها السكان المحليون أسماء كثيرة منها بحر بانياس وبحر حيط نسبة إلى منطقة حيط المشهورة بزراعة القمح والواقعة جنوبي غرب البحيرة وسميت الملحة أو الملاحة نسبة إلى القشور الملحية في بعض سبخاتها المجاورة للبحيرة[6] ، وذكر ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان: أن سهل الحولةاكتسب اسمه من بحيرة كانت تحتل القسم الجنوبي غرفها اليونان باسم أولاتا وسميت في وثائق رأس شمرا باسم سمخو ويذكر أيضا أنها كورة بين بانياس وصور من أعمال دمشق ذات قرى كثيرة[7].
أطلق على ديار الحولة اسم بلاد الخيط والخيط هو نهر الشريعة ( الأردن) لاستدامته واستقامة مجراه حتى سهل الحولة. ورد ذكر بحيرة الحولة في وثائق رأس شمرا المكتشفة عن زمن الكنعانيين باسم بحيرة سمخو وكرها المسعودي ببحيرة كفرلا نسبة إلى كفرلا القرية التي ذكرها المهلبي في رحلته زمن الفاطميين، وذكر العثماني صاحب مؤلف تاريخ صفد بحيرة الحولة باسم بحيرة قدس لقربها من موقع قرية قدس مما منحها قداسة تاريخية، وكرت الحولة باسم بحيرة المليحة في رحلة ابن الجيعان وفيها الملاحة واطلق عليها بحيرة بانياس نسبة لمدينة بانياس السورية ، واطلق عليها بحيرة سمكون لكثرة السمك فيها وكثرة أنواعه
التقى في سهل الحولة ثلاثة أنهار نهر بانياس ونهر اللدان الذي عرف بنهر تل القاضي ونهر سنير من لبنان ويتم اللقاء في بركة تل الشيخ يوسفالتي قيل عنها مربط الماء بسبب هذا الالتقاء الذي يشكل نهر الشريعة. لم يكن ماء النهر يصب في بحيرة الحولة بقدر ما أنه كان يمر منها حيث يستمر تدفق النهر وجريانه إلى داخل البحيرة (المي بتسبح بالمي) على حد تعبير أهل المنطقة[8]
تكونت بحيرة الجولة نتيجة تجمع مياه الجبال التي جرفت معها كميات من الطين مكونة بحيرة صغيرة في عاية الجمال وما يميز البحيرة أنها كونت في أرضيتها جرنا كبيرا صعب خروج المياه من البحيرة ومع تراكم كميات المجروفات والطين وارتفاع القصب في البحيرة باتجاه نهر الأردن الجبلي تكونت المستنقعات شمالي البحيرة واكتست البحيرة بالاعشاب الكثيفة التي شكلت عامل جذب لطيور نادرة وحيوانات مائية كالجاموس الذي انتشر فيها وكذلك انتشار الملاريا في المنطقة والمناطق المجاورة[9]، وهناك كميات كبيرة جدا من فحم الخث موجودة في رسوبيات البحيرة وهو على ثلاث مستويات مستوى سفلي رقيق 1م تقريبا ومستوى أوسط سميك 54م ومستوى علوي سماكته 13م وهذه الأنواع من الخث لا تستطيع مياه الأنهار تصريفها وهي تحتوي على نسبة عالية من المادة العضوية[10].
انتشرت في محيط الحولة عشرات القرى والعزب الفلسطينية منذ فجر التاريخ وحتى نهاية العهد العثماني وفي عصر الانتداب وبعد معاهدة سايس بيكو بقي منها في منطقة الحولة: آبل القمح، البويزية، بيسمون، التليل، جاحولا، جلبينة، الحسينية، الخالصة، آل عيسى الابراهيم، آلحمادة(الحمايدة)، آل الخطيب (الخطايبة)، آل الدوالي، آل الفريجات، خان الدوير، خربة السمان وعين الزاغة، الخصاص، خيام الوليد، الدرباشية، الدردارة، الدريجات،الدوارة،ديرميماس (الحورة)، الزاوية، الزوق التحتاني والزوق الفوقاني، السنبرية، شوكا التحتا، الصالحية، العبسية، عرب الزبيد، العزيزات، العلمانية، عين التينة، غرابة، القيطية، كراد البقارة،كراد الغنامة، اللزازة، المداحلن المفتخرة، الملاحة، المنصورة، منصورة الخيط، الناعمة، الويزية، يردا، التي اعتمدت في معيشتها على تربية الجواميس والماعز وصناعة الحصر وزراعة الحبوب وصيد الأسماك، وقد عمل العدو الصهيوني على استملاك الأراضي عن طريق الوكالة في فترة الانتداب من اقطاعيين لبنانيين تملكوا الأراضي منذ الفترة العثمانية. وفي عام 1948م قام العدو باحتلال أراضي الحولة وقراها فشهدت تلك المناطق مجزرة ارتكبتها العصابات الصهيونية وقامت بقتل النساء والاطفال والشيوخ واحراق بعضهم أحياء ومن ثم احراق الجثامين أمام عيون من بقي لنقل ما شاهدوه من رعب وخوف ومجازر ليسهل بذلك عملية تفريغ الأرض من سكانها وتهجيرهم ومن ضحايا المجزرة: عدنان توفيق، قاسم ادريس، لطفي زين الدين، بسيم أبو بكر[11]
زراعة في الحولة:
سمي سهل الحولة بجورة الذهب بسبب كثرة الغلال الي كان يغل بها أهل المنطقة والحبوب التي كانت تكفي لاطعام أهالي صفد وبانياس ومرج عيون. زراعة أهل سهل الحولة القمح والشعير والسمسم والرز بالرغم من أنه قلما يزرع في فلسطين وبلاد الشام تلك المحاصيل وسمي السهل بمرج الرز والوز[12]. كانت النباتات المائية كاللوتس والبردي والبوص والحلفاء تغطي سطح البحيرة وأطرافها وكانت الجزر مغطاة بنباتات يصل ارتفاعها إلى 3م أحيانا لذلك كانت أطراف البحيرة خادعة يصعب الاقتراب منها ومياهها صافية رائقة حتى وقت الفيضانات لان النباتات الكثيفة شكلت حول أطرافها الشمالية مصاف تمنع وصول ما كانت تحمله الأنهار من طمي ورسوبات.
نمى في الحولة أشجار السدر والدُلب والسنط والسمار والبردي والكلخ والصفصاف والحلّف والبابير فبرك الماء الراكض كان لها أثر فيتكوين هذه الخميلة الشجرية التي ميزت غابة الحولة عن أي غابة أخرى في فلسطين.
الحيوانات في الحولة:
عاش في البحيرة 260 نوع من الحشرات و95 نوع من القشريات و30 نوعا منالقواقع و21 نوعا من الأسماك وو7 أنواع من البرمائيات والزواحف و131 نوعا من الطيور المهاجرة بين أوروبا وأفريقيا و3 أنواع من الثديات[13].
شكلت منطقة الحولة مرتعا خصبا للمواشي وتربيتها باعتبارها منطقة زراعية مثل الأبقار والاغنام والماعز أماغزارة المياه فقد كانت مناسبة لتربية الجاموس، كما احتوت البحيرة على أنواع مختلفة من الأسماك منها البني وكان بعض سكان القرى في السهل يعملون في صيد الاسماكولا سيما أهالي قرية الملاحة[14]
وقد ذكر المقدسي وجود سمك البنيبفح الباء في بحيرة الحولة منذ زمن الفاطميين وأشار إلى أنه حمل في العصر العباسي إليها من نهر مدينة واسط العراقية.
يهرب سمك البني قبل غروب الشمس من بطن البحيرة إلى كتفها على الشاطئ في تقليد يعرفه أهل الحولة لذلك كان صيده يجري عصرا قبل الغروب ومن هنا جاءت أغنية صيد العصارى.
كان البني نادرا وصيده صعبا والاغرب فيه أنه لم يغادر البحيرة مع النهر إلى طبريةمثل باقي السمك بل بقي في الحولة وارتبط بها، فالبني لم يعرف عنه في أي بيئة مائية في فلسطين سوى الحولة.
ومن الأسماك الأخرى سمك السلور والبريوط وهو الأكبر حجما ارتبط صيده بأكلة الصيادية مطبوخة برز سهلها.
عرف أهل الحولة أيضا سمك المشط الأبيض في بحرتهم ومن سمكها العقّر الذي يشبه المشط لكنه أصغر منه حجما وهو من أجل أسماك البحيرة معروف بلونه الأصفر.
كان صيد السمك يتم بواسطة الجوزوهي الطريقة الأشهر لدى أهل البحرة والجوز هو شبك يربط بفلين من أعلاه وفي أسفله مشبوك بالرصاص، يمد الجوز داخل ماء البحرة لساعات وأحيانا يترك في الماء إلى اليوم الثاني ثم يسحبة الصيادون ويفرغوه من صيده. وفي فترة الانتداب اقتصر الصيد على سمك محتكرا ومشروطا بترخيص من سلطات الانتداب فاقتصر الصيد على سمك النهر في الشريعة فقط وهنا لم تعد البحرة ملكا لسكان الحولة[15]
أما فيما يخص الطيور فيعيش في الحولة الزاغ والزرزور والسمان وبط جرمان ووز البحرة وبجعها كل تلك الطيور كانت تحت مرمى حصى مقالع أهل الحولة ، أما الفري فهو سفير البحرة إلى العالم لأنه غير مستوطن فيها انما يهاجر إليها ويزورها في بداية شتاء كل عام، يشبه الغري الدجاج لونه أسود وعلى رأسه عرف أبيض اللون تعود أهل الحولة على صيده وأطلقوا عليه اسم غورهم في حين اعتقد البعض أنه سمي بهذا الاسم بسبب بياض غرته. كان وجبة لذيذة على موائد أهل الحولة وأغنية تردد في سهراتهم فغنوا مطلع الأغنية: ياطير الغري البري...سلمتك أمري وسري.
ولا ننسى طير أبو سعد وهو طير مقدس بالنسبة لأهالي الحولة حتى أنهم حرموا صيده فحاطبوه: لحمك حلال في شرعنا وصيدك حرام. هكذا بقي أبو سعد شيخا على بحيرة الحولة حتى أصبحت رؤيته مبعثا للطمأنينة والسكينة لدى أهلها.
وعلينا ألا ننسى الجاموس الذي عاش في تلك القعة الفلسطينية دون غيرها ولا تخلو صور البحيرة أيا كان غرضها أو اتجاهها من الجاموس وكأنه هويتها ودليل إشارة لها. عاش الجاموس في بحيرة الحولة لأنه يبحث عن مكان ليهجع به لا ليرتع به فقد عرف عنه أنه يرعى الكلاء قبل شروع الشمس وفي ساعات العصر قبيل غروبها بينما يظل طول النهار باركا في البحيرة أو ببرك الغاب، فكانت الحولة مقصدا لكل سكان قضاء صفد من طالبين لحم الجاموس وحليبه فكان لبن الجاموس حلو وأقل ملوحة من لبن البقر والماعز فتحدث عنه صاحب كتاب أحسن التقاسيم كما لو أنه دواء صاف بياضه رائبا وباردا في مواعيين فخارية.
الحياة الاجتماعية والعادات والتقاليد: أكد الرحالة العرب وغير العرب من أخصب المناطق في بلاد الشام ، وتشير المصادر الرومانية أن منطقة الحولة تنتج نبات البردي الي يستخدم لصناعة الورق وكان يصدر لمختلف أنحاء العالم، وقد اشتهرت المنطقة بصناعة الحصر والسلال بسبب وجود نبات البردي في محيط البحرة والمستنقعات المائية الكثيرة[16]. أطلق عليه أهل الحولة اسم البابير وهو نبات دائم الخضرة، تبقى عروقه خضراء على مدار السنة يصل طوله إلى المترين، يزداد قطفه في فصل الصيف، فبعد قطفه يترك في الغابة لمدة أسبوعين يترك حتى يجف ويميل لونه إلى البياض ثم تصف الأعواد على شكل حزم تنقل عن طريق البحرة إلى حيث البيوت والسكن جنوبا حيث تنتظره النساء من أجل نسجه على الأنوال
إذ يقوم الرجال بقطع وقطف البابير من الغابة بينما تقوم النساء بقشطه وسله خيطان ثم نسجه حصر على النول. فما من بيت من بيوت الحولة إلا وفيه نول مصنوع من خشب سنطالغابة نفسها.
تحمل الحصر إلى صفد ومن هناك بشتريها تجار نابلس لبيعها في كل أنحاء فلسطين وكان سكان الحولة يحملونها على أكتافهم ويتجولون به بين الضياع والقرى في بانياس ومرج عيون لبيعه وهم يصيحون من البابير يا حصير[17]،كما استخدموا نبته الحلفا في صناعة الحبال ولفها
يذبح سكان الحولة في أعراسهم الجواميس ويطبخون بلبنها واستحب منه لحم البطش أي عجل الجاموس لقلة دهنه وطراوة لحمة، أما المجهول وهو فحل القطيع فكان يقدم مهرا للعروس بينما الشمبور هو ذلك الذي يتم خصيه من أجل استخدامه لأغراض الفلاحة وحرث الأرض.
كانت صرخة من العيّاط في الغابة تكفي ليترك الجاموس مرتعه مغادرا الغابة نحو أحواشه عند بيوت أهالي الحولة.
سكن أهالي الحولة بيوت الطين وصنعوا الخيام على نوعين:ةنوع سمي بالعريشة وهو مصنوع من القصب والبابير طويلة ومستورة من جميع أطرافها ومكشوفة فقط من الأمام وكانوا يستحضرون ويصنعون جميع لوازم هذا النوع من القصب أو البابير فتفرش الخيمة بالحصير وعدة جرار وفرشات ومساند ولحف، أما النوع الثاني من الخيام يستخدم في الشتاء ويسمى بيت الشعر الي يصنع من الصوف ويشبه في شكله العريشة لكن لونه أسود ونسيجه قاس.
تكبرالخيمة وتصغر حسب طبقات وأصناف العشاير ومراتبها فتكون ذات أربع غرف او ثلاثة او اثنتين أو واحدة.
فيما يخص لبس المرأة في سهل الحولة فقد كانت تلبس العظة والفه راماليا وتضع على رأسها غطاء أسود من القماش وتضع الصمادة أو نوع من العقال المصنوع من القماش السود المبروم لكنه مربوط من الخلف بصورة مهملةوتسمى بالعصابة.
كانت المرأة تحمل على ظهرها جرتين مملوئتين بالماء وقد ربطتهما بحبل طويل يصل بين ساعديها وهي تقطع المسافة أكثر من مرة في اليوم بين الخيام وبين النبع المسمى عين الذهب[18]
من أشهر عادات أهالي التي تتميز بها المنطقة عندما يحل موسم زيارة النبي يوشع في قرية النبي يوشع التي تقع بين الملاحة وجاحولا بالقرب من بحيرة الحولة وهي واحدة من القرى المهجرة ولك في النصف الثاني من نيسان إذ يبيت الزوار حول المقام ما بين ليلة أو ليلتين وكان الموسم يستمر ثلاثة أيام توفى فيها النذور وتذبح الذبائح وتنشد المدائح وتبتهل الصدور، وكانت دفوف ومزاهر دراويش خيام الوليد تصدح من بحيرة الحولة قادمة مع النهر من السهل. كان زوار المكان يشربون من بئر عند المقام وينشلون منه الماء ليحملونه معهم لأحبابهم والطالبين له[19].
الممارسات الصهيونية على بحيرة الحولة وأهلها:
قامت الجمعية البريطانية بدراسة أراضي فلسطين ومياهها عام 1873م وخلصت إلى أنه بالإمكان ري أراضي فلسطين من مياه الشمال وفي عام1925م تطلع البارون روتشيلد إلى تجفيف بحيرة الحولة ووضع مشروعا سريا لها الغرض، وظل حلم امتلاك مستنقعات الحولة لتجفيفها واستثمارها وانشاء المستعمرات على أراضيها الخصبةيراود الصهاينة إلى أن سنحت الفرصة لتحقيق ذلك بعد أن اغتصبوا معظم فلسطين عام 1948م وكان تجفيف يحيرة الحولة أولى الخطوات التي اتخذها العدو لتنفيذ مشروعه لجر مياه الأردن إلى النقب كما كان ذلك التجفيف عنصرا من عناصر مشروعات المياه التاريخية كمشروع لورد ملك ومشروع هيز ومشروع جونستون[20].
طرد الكثير من السكان سواء كانوا من أهالي القرى المجاورة أو من البدو الرحل الين يعيشون في المنطقة معتمديين على تربية الحيوان مثل عرب زبيد وعرب الغوارنة وتدمير القربى العربية على يد قوات الاحتلال بعد تهجير سكانها[21]، وخسر سكان الحولة مصدرا هاما منمصادر الأسماك وخسرو الكثير من النباتات الطبيعية الصالحة لرعي الحيوانات وفوق كل ذلك حرموا من استخدام موارد بيئتهم الطبيعية بإزالة معالمها وتغيرر طبيعتها وواقعها وحل محلهم الغرباء من الصهاينة، وقد قاوم أصحاب الأراضي أعمال التجفيف وقومها معهم الجيش العربي السوري، بضربه مواقعالعمل ومنشآته والمساهمة في تعطيل أعمال التجفيف وعرقلتها ما أدى إلى إطالة مدة العمل التي كانت مقدرة له إلى ضعفها ومضاعفة تكاليف المشروع هذا بالإضافة للحسائر المادية والجسدية. وقد استند موقف سوريا إلى أن منطقة الحولة منطقة منزوعة السلاح بحسب اتفاقية الهدنة لا يجوز تغير معالمها وطرد سكانها واستثمار أغراضها لأغراض عسكرية تخت ستار أغراض اقتصادية وإدخال قوات مسلحة إليها.
قام العدوالصهيوني فيليلة 6/4/1951 بقصف القرى الواقعة داخل المناطق المجردة من السلاح تمهيدا لاحتلالها وتمكنوا من فرض سيطرتهم عليها وهي المناطق المحاذية لنهر الأردن من الجهة الغربية لبحيرة الحولة شمالا حتى جسر بنات يعقوب جنوبا.
وعندها بدا العمل جديا بتجفيف البحيرة بهدف زيادة مساحة الأراضي الصالحة للزراعة والتقليل من فقد المياة المياه في البحيرة عن طريق التبخر لتخفيف إصابات الملاريا وتحويل البحيرة لمحمية طبيعية [22].
لم يأت المشروع بنتائجه المتوقعة والتي أعلن عنها بل أدى للعديدمن المشاكل البيئية والزراعية الخطيرة مثل حرائق الخث وهبوط التربة وغمرها وفقدان الأنواع الحيوانية النادرة المتوطنة في المنطقة إضافة لزيادة الضغط على بحيرة طبريا التي تعد مخزن الامداد الرئيسي للمياه العذبة في فلسطين والتي أصبحت ملوثة بسبب الرسوبيات التي انتقلت إليها من البحيرة عبر القنوات التي تم فتحها بغرض تجفيف بحيرة الحولة، بينما كانت أرباح المزارعين من الأراضي الجديدة قليلة جدا.
مع تقدم المشروع وبعد ثلاث سنوات بدأت الانتقادات تزداد إذ تجمع المحتجون في منظمة أنشؤوها آنذاك سميت المنظمة الإسرائيلية لحماية الطبيعة وفشلت محاولات المنظمة لايقاف المشروع _لأن للمشروع أهداف احتلالية تخريبية مخفية- لكنها استطاعت اقناع المسؤولين عن التجفيف بالحفاظ على 2‘3كم مربع من مساحة البحيرة كمحمية طبيعية في التسعينات. وبعد أن يئس أغلبية المزارعين من إمكانية استغلال أراضي الحولة.
ففي دراسة حديثة يؤكد البروفسور موشيه غيفن وهو باحث إسرائيلي مختصبشؤون البيئة والأنهار والبحيرات أن عملية تجفيف الحولة في السنوات الأولى بعد النكبة أدى إلى تطورات سلبية رافقتها تغيرات مناخية في المنطقة ويستند غيفن الباحث في معهد معرفة الجليل على خرائط قديمة للحولة وعلى معطيات هطول الامطار في فترة الانتداب البريطاني، ومن هذه الاستنتاجات أن معدل درجات الحرارة في منطقة الحولة قد تعرضت لثلاثة تحولات جوهرية منذ 1946م حتى 2008م وهي فترة تدخل فيها الكيان الصهيوني بالطبيعة مرتينالأولى عندما جففت البحيرة والثانية عندما عادت وغمرت أجزاء منها عام 1995م ما أدى إلىتغيرات كبيرة وسريعة بين التجفيفوالغمر في درجات الحرارة وذلك أن المياه كانت تمتص جزء كبير جدا من الطاقة الحرارية التي تطلقها أشعة الشمس.اضافة إلى نقصفي المساحات الخضراء التي عمل على ترطيب المكان فبقيت تربة السهل مكشوفة بعد تجفيف البحيرة في ظل زراعة غير منتظمة وقد اتضح فيما بعد أن سبب هذا الفشل الزراعي أن أرضية البحيرة مليئة بالاملاح ولا تصلح للزراعة بل شبت فيها العديد من الحرائق لسهولة اشتعال المواد العضوية المتعفنة فيها ما دفع المزارعين لتركها، والامر الذي لم يؤخذ بالحسبان أن تربة الحولة بعد تجفيفها هبطت ثلاثة أمتار عن ارتفاعها الأصلي إضافة إلى تبعثر تربتها في الهواء.
تبين لاحقا أن ما اعتقد أنه سيتحول لمرج زراعي خصيب أنه ورطة كبيرة فالمواد التي يجرفها معه نهر الأردن خلال مروره بمنطقة تجفيف البحيرة تضر بجودتها ولا بد اليوم من تعويض تلك الخسائر وتعويض المزارعين وتوفير كميات من المياه بأسعار منخفضة وتحويل آليات أخرى لتدارك الخسائر والأضرار الناجمة عن فشل المشروع[23].
75سم من سطح البحر
وبعد الخسائر الكبيرة للمزارعين الجدد بسبب التلاعب بالبيئة وتغير قوانينها يحاول الكيان الصهيوني إعادة غمر البحيرة للتمكن من استعادة شيء منها بعد أن أنهى مشروعة الاحتلالي الاستيطاني[24].
وفي عام 1994 غمرت الأمطار جزء من المنطقة بالمياه فتم الإبقاء عليها بهدف استصلاح المنطقة وتم العمل على محاولة غمر العديد من الأجزء الأخرى عن طريق انشاء 95كم من قنوات الفيضانات والصرف الضحلة لرفع متوسط ارتفاع منسوب المياه في المنطقة إلى 75سم فوقسطح البحر.
كان لاعادة الغمر هدفين رئيسيين الأول هو منع أو تقليل التلوث بالنترات من الحث بهدف حماية بحيرة طبريا والثاني هو الحفاظ على تربة الخث بعدما بدأت ذراتها تتطاير في الجو ماجعل المنطقة مغبرة طيلة أيام الصيف.
سمي هذا المشروع مشروع أغمون ويعمل العدو الصهيوني اليوم على استقطاب السياح والزوار سنويا حيث تعد المنطقة وفيرة بالحياة البيئية وموطنا للعديد من الطيور وهي مناسبة لممارسة الأنشطة الرياضية.
باء المشروع بالفشل أيضا لأن الطيور المهاجرة إلى أوروبا وأفريقيا لم تعد وتوقفت طيور اللقلق والبلشون والغاق والرهو التي كانت تطير فوق البحيرة في رحلتها مع بدء الشتاء البارد تمر فوق منطقة الحولة لكونها جزء من الشق الافريقي مستغلة التيارات الهوائية الساخنة المتصاعدة من تبخر مياه البحيرة منها للأعلى في عملية طيرانها الطويل.
نتائج الدراسة:
بلغت أبعاد البحيرة قبل تجفيفها 4‘4كم عرض و 5‘5 كم طول ومساحتها حوالي 21كم مربع في الصيف و60كم مربع شتاء أما الأراضي المحيطة بها فبلغت 3500 هكتار مغطاة بالطحالب الخضراء بشكل كامل في الشتاء بسبب ارتفاع منسوب المياه وبشكل جزئي في الصيف مما أدى إلى صعوبة استغلال المنطقة زراعيا. وهذه كانت حجة العدو الصهيوني إضافة إلى أنها مكان تجمع الحشرات والعوض وسبب انتشار مرض الملاريا.
دافعت الأرض عن نفسها أمام الكيان الصهيوني وواجهتهفكانت عقبات تجفيف البحيرة كبيرة وكأن اللأرض بترابها ومياهها ترفضهموترفض وجودهم وممارساتهم ضدها فقد كانت عملية القضاء على الأعشاب البرية الكثيفة لاستصلاح الأراضي وتهيئتها للزراعة عملية شاقة تطلبت وقتا طويلا، إضافة إلى ارتفاع منسوب الجير في قاع البحيرة المجففة ما أدى إلى صعوبة زراعتها.اضافة إلى الانسداد الدائم في قنوات الجفيف التي حفرت لتصريف مياه البحيرة وتحويلها إلى نهر الأردن بسبب تراكم الوحل والطمي
عمل الكيان المحتل على خرق الاتفاقية مع سورية والتعدي على سيادتها وتعرضه للمنطقة المزوعة السلاح وإقامة المنشآت عليها فتقدمت سوريا بشكوى إلى مجلس الأمن فتوقف العمل فترة من الزمن ثم استؤنف ما دعى الطرف السوري إلى الرد عسكريا لوقف اعمال التجفيف فأخذيضرب المنشآت بقذائف مدفعية من حين لآخر لكن العدو استطاع اكمال مشروع الاحتلال والتعدي على حقوق أصحاب الأرض الأصليين.
يعد مشروع تجفيف البحيرة من المراحل الأولى لمشروع جونستون والمشروع الاسرائلي لجر مياه نهر الأردن للنقب وهما مشروعان يساهمان في تثبيت الكيان الصهيوني وسرقة مياه المنطقة واستجرارها لمصلحة الاحتلال.
كان اتجفيف البحيرة مصالح حفية لم يعلنها الكيان الصهيوني لكنه قام بتنفيذها للوصول لغايته وهي إزالة المعالم الجغرافية الطبيعية للبحيرة والمستنقعات المحيطة بها والذي يعد انتهاكا صارخا لمبادئ حقوق الانسان لأنه تم في ظروف الاحتلال من جهة وبدون الأخذ برأي أصحاب المنطقة الشرعيين والأصليين من جهة أخرى، بل وقد عمد الاحتلال من خلال هذا العمل لطرد أهالي المنطقة وحرمانهم من حقوقهم في استغلال موارد سهلهم. ومن أبرز المقاصد وأهمها بالنسبة للعدو الصهيوني منع رجال المقاومة من الاستفادة من المعالم الطبيعية في التخفي والحركة ومن جهة أخرى أصبح لدى العدو القدرة على الحركة السريعة في استخدام الآليات والدبابات أثناء العدوان على سوريا ولبنان بعد إزالة الحواجز الطبيعية إضافة إلى أن المنطقة أصبحت مكشوفة للمراقبة ولقصف الطيران.
يعد تجفيف البحيرة حلقة من حلقات مسلسل مشاريع الصهيونية لمصادرة الموارد المائية والطبيعية ونهب أكبر كمية ممكنة من المياه وحرمان الفلسطينيين وشعوب الدول المحيطة بها ويشكل هذا العبث في الطبيعة تبعا للأهواء والمطامع الإسرائيلية انتهاكا وجريمة بحق البيئة والتوازن البيئي والتراث الإنساني.
أدت عملية تجفيف البحيرة إلىتغير النظام البيئي والتركيبة الجيولوجية للمنطقة وتغير التنوع الحيوي لها وكانت النتيجة كارثية، فقد قضي على أنواع كثيرة من الكائنات الحية منها طيور البجع والغطاس التي اعتاشت على صيد الأسمكاك والتي وجدت طلبها في برك السمك الزراعية كتعويض عن البحيرة الزائلة مما ألحق الخسائر بالمزارعين، وقد انقرضت أنواع من الأسماك النادرة التي اعتبرت الحولة موطنها الوحيد في العالم أهمها سمكة السيبنيد من فصيلة السردينيات وسمكة من فصيلة سكاليد إضافة إلى ضفدع الحولة الفلسطيني الملون كل ذلك كان مقابل النجاح في القضاء على البعوض
عمل العدوالصهيوني على احتلال وعي الناس بمزاعم حول تحويل المستنقغات لحدائق في سياق مقولة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض ولمتهدف الصهيونية لتحقيق غايات دعائية فحسب بل شرغت بتجنيد التبرعات المالية خلال الخمسينات ولم يجرالحديث في وقتها عن تجفيف بحيرة بل كان الحديث عن تجفيف مستنقعات، وكان رئيس وزراء الكيان ديفيد بن غوريون قد قرر تجفيف بحيرة الحولة واستغلال أراضيها لتكون بيدرا للخضروات والحبوب في ظل تدافع المهاجرين الجدد من الصهاينة إلى فلسطين، لكن منفذوا المشروع والمخططون له لم يستلهمون الاعتبارات الحسابية العلمية بقدر ما كانت اعتباراتهم احتلالية أيديولوجية ترتبط بالمزاعم الصهيونية
طالما زعمت الصهيونية في حملاتها الدعائية لتبرير احتلالها وممارساتها بأنها جففت المستنقعات وحولت القفار والصحاري إلى حدائق خضراء لكن تجربة بحيرة الحولة في شمال البلاد تدلل عكس ذلك ويكشف خبراء الري والزراعة أن المشروع تسبب بمضار كبيرة.
كانت الحولة حالة نادرة بمقاييس عالمية فهي منطقة التقاء المناطق الحارة بالمناطق الباردة ومكان لاستراحة الطيور المهاجرة ومرتع للجاموس ومكانا لراحته وموطنا لما ندر من أسماك وطيور وبرمائيات وثديات لم يجدوا في هذا العالم مكانا لبناء وطن إلا هناك في حولة فلسطين حيث لا بديل إلا الموت والانقراض دونه
فقد هجرت الصهيونية البشر والطير والسمك والماء والحجر وكل ماعاش في الحولة من حيوانات بأنواعها المتعددة ودمرت البيوت والأكواخ والأعشاش وممواطن احتمت فيها المخلوقات وطرق ومسارات على ارض أو في السماء وحتى ماكان في المياه والأنهار واختفت الحشائش والأعشاب والنبات وزهور اللوتس وأعمدة البابير . كانت الحولة شاهدا قويا على الحقد الذي يكنه العدو للطبيعة وأهلها وعلى عنجهيته وحبه للدمار والخراب.
[1] خسرو. ناصر، سفر نامة، ص39
[2] كرد علي. محمد، خطط الشام، الجزء4 دمشق، 1927، ص19994
[3] روبنصون. ادوارد ، ت: شنحافي،يوميات في لبنان،م ج 2، وزارة التربية الوطنية والفنون الجميلة بالترقي،بيروت، 1950،ص3
[4] حسن. محمود، الحولة، سلسلة طريق القدس لاحياء الذاكرة الفلسطينية4، جمعية الصداقة الفلسطينية الإيرانية صفا، دمشق، 2019، ص5
[5] حبيب الله. علي، الحولة... بحرة الغوارنة وبر الغر والبابير، 16 يونيو 2021، متراس، https://metras.com
[6] المعرفة، وادي الحولة، https://m.marefa.org
[7] الحموي. ياقوت، معجم البلدان، الحولة، بيروت، 1957
[8] حبيب الله. علي، المرجع السابق
[9] موسوعة المصطلحات، بحيرة الحولة، مدار،https://www.madarcenter
[10] حسن. محمود، المرجع السابق، ص11
[11] عواودة، وديع، بحيرة الحولة...ضحية الرجل الأبيض الإسرائيلي،11اكتوبر،2014، القدس العربي، https://www.alquds.co.uk
[12] حبيب الله. علي، المرجع السابق
[13] ثوابتهة. شروق،بحيرة الحولة، 8مايو2022، موضوع،https://mawdoo3.com
[14] حسن.محمود، المرجع السابق، ص21
[15][15] حبيب الله، علي المرجع السابق
[16] حسن. محمود، المرجع السابق ص19
[17] حبيب الله. علي، المرجع السابق
[18] حسن. محمود، المرجع السابق، ص110-111
[19] حبيب على، المرجع السابق.
[20] الموسوعة الفلسطينية، الحولة.
[21] المعرفة، وادي الحولة، https://m.marefa.org
[22] ثوابتة. شروق، المرجع السابق.
[23] عواودة. وديع،المرجع السابق
[24] المعرفة، المرجع السابق.