سمخ كما عرفتها الجزء الأول، أكبر من قرية وأصغر من مدينة
يقال إن في وسع إي إنسان، أن يكتب كتاباً واحداً. ولعلَّ هذا الكتاب هو سيرة حياة ذلك الإنسان سواء أكان من الأعلام المشاهير الذين كانوا يوصفون (بالخاصة) أو (علية القوم) ، ويوصفون الآن (بالنخبة أو النخب) علماً بأن الكثير من هذه (النخب) إنما هي (حثالات) طغت فوق سطح السائل بدل أن (تتحول) أي تستقر في قراراته بل في قعره.
وأنا فكرت مراراً بأن أكتب ما يشبه المذكرات أو الذكريات أو حسناً سيرة حياتي الشخصية لا (قصة حياتي) على غرار (قصص الحياة) تلك التي يرويها (بعضهم لبعضهن آخر الليل في بعض علب الليل) علماً بأن سيرة حياتي إذا جاز وصفها كذلك، ليست تلك السيرة الملحمية ولا هي أيضاً سيرة رجل مجهول على غرار رواية (أنطون تشيخوف) الشهيرة أي قصة رجل مجهول ولكن فيها وقائع وأحداثاً عشتها وربما كانت تستحق أن تروى ... نعم لقد فكرت في كتابة هذه السيرة مراراً، وكنت أرجئ هذه الكتابة إلى أن أتخفف من بعض أعبائي المهنية في الصحافة المكتوبة، والمسموعة، أي الإذاعية .... ولكن متى ؟؟ نعم متى ؟؟ فقد (وهن العظم مني) أو يوشك أن يهن، (واشتعل الرأس شيباً) وإن لم يشتعل إلى درجة الحريق ...
وإذن فإن هذه فرصة لأكتب إما سيرة حياتي، أو في أقل الأقل نواة لهذه السيرة .. قد أضيف إليها بعد ذلك ما أراه يستحق الإضافة وإذن، فلأبدأ: لقد ولدت في 18/12/1933 في بلدة صغيرة في فلسطين تدعى (سمخ) وهي قريبة جداً من الحدود الفلسطينية السورية، وكذلك من الحدود الفلسطينية الأردنية، وتقوم على شرف، أي مرتفع ينحدر انحداراً سريعاً إلى شاطئ بحيرة (طبريا) أي أنها تقوم جنوبي هذا الشاطئ، وأما بحيرة طبريا هذه فقد أسميت باسم المدينة التي تقوم غربي هذا الشاطئ ونسبت إلى الإمبراطور الروماني الذي بناها وهو (طيباريوس قيصر) كما أنها تعرف أيضاً ببحيرة (الجليل).
وبلدة (سمخ) هذه تقوم تحت سطح البحر (بمائة وثمانية أمتار)، حسب اللوحة المرفوعة في محطة القطار على الخط الحديدي الحجازي، الذي أنجزته الدولة العثمانية في عام 1909 بواسطة شركة ألمانية .. ولولا أعجلتني (سيرة حياتي) هذه، لحاولت معرفة أصل تسمية بلدتي هذه، فهل كان أصلها (سمح) من السماحة أي الجمال الطبيعي، وكيف لا تكون كذلك وهي بلدة مشمسة ذات سماء زرقاء صافية معظم العام، إلا إذا اعتراها (الآن) ما يعتري العالم في عصر التلوث، وهل جاء اسمها من (السمك) الذي أصبح (سمخا) وبهذا السمك تفيض بحيرة طبريا أو بحيرة الجليل، وخصوصاً سمك (المشط) الذي يروي أمين الريحاني إنه لا يوجد إلا فيها، وفي البحرين وإن كان (مشط سمخ) نهرياً أو بحيرياً، وكان مشط (البحرين) بحرياً وعلى أية حال سوف أعمد إلى مثل هذا (التقصي) لأصل تسمية سمخ بعد أن أتخفف من بعض أعبائي المهنية أيضاً لكن متى ؟؟!!
لكنني ألاحظ أن حروف السين والميم والحاء والخاء تشكل أسماء بعض القرى السورية الأردنية المجاورة لبلدة (سمخ) فهناك (سحم الجولان)، و(سما) و(الشمرة) و(سحم الكفارات) في الأردن. فلربما كان ثمة رابط، بين هذه الأسماء وإن كنت لا أجزم الآن بذلك، فالأمر يتطلب التدقيق والتمحيص ولا أقول الغوص في مؤلفات أجدادنا القدماء من المؤرخين والجغرافيين والرحالة بل العودة إلى أقرب الموارد. وهو موسوعة العلامة الفلسطيني الكبير الأستاذ (مصطفى مراد الدباغ) وهي (بلادنا فلسطين) أما بلدتي (سمخ) فهي قرية إذا كانت القرية حسب الجغرافيا البشرية هي المكان الذي يستمد أهله حياتهم من الأرض مباشرة، لأن أهل (سمخ) كانوا- وما أصعب كلمة كانوا- يستمدون حياتهم من الأرض مباشرة أي الزراعة، زراعة الحبوب تحديداً، وإن كانوا يستمدونها من البحيرة أيضاً، أي صيد السمك، كما أن قريتي هذه أي (سمخ) كانت شبه مدينة لأن فيها مرافق عديدة. فهناك محطة السكك الحديدية، ولعلها بين محطة حيفا في فلسطين ودرعا والقدم في سورية أهم هذه المحطات ... فقد كان فيها الريو depot وهو مرآب القطارات إذا جاز التعبير وإلى جانبه جوسق أي فيلا مبنية من الحجارة السوداء لئلا تتأثر بدخان القاطرات المخزنة إلى جانبها ويلحق بهذا المرآب أرضية مستديرة حديدية ضخمة لها عجلات يدفعها العمال من أجل تشحيم القاطرات أو غسلها .. وبعدها إلى القرب يقوم العنبر وهو مخزن البضائع القادمة من سورية إلى فلسطين أو الذاهبة من فلسطين إلى سورية وأكثرها من الحمضيات، وإلى جانبه بيت لمدير العنبر، ثم مبنى الحركة وبيع التذاكر ويتألف من قسمين قسم سوري من أجل المسافرين إلى سورية، وقسم فلسطيني من أجل الذاهبين إلى المدن الفلسطينية وخصوصاً بيسان وحيفا وعكا، وفي الطابق العلوي بيت ناظر المحطة وهذا المبنى مشيد بالحجر الأبيض، يليه دارة صغيرة لمسؤول إصلاح الخطوط الحديدية، إن كانت تحتاج إلى إصلاح أو صيانة وكانت مبنية بالحجر الأسود، تليه دارة بالحجر الأبيض للمدير السوري لمحطة القطار تتاخم وتجاور بيتنا أو دارتنا التي لا علاقة لها بالخط الحديدي الحجازي، بل بدائرة التلفونات (الهاتف) الفلسطينية ، انظر إلى الوراء في حنين لأتذكر أن مدير محطة الحجاز الفلسطينية كان سورياً دمشقياً هو المرحوم خيري شحادة آغا، وأن مدير صيانة الخطوط كان مصرياً، وقال إنه من بلد في مصر يدعى (القناطر الهريدية) وليست القناطر الخيرية، وأما مدير محطة الحجاز السورية، فكان من بقايا الترك الطيبين في دمشق، وهو المرحوم جميل شريف إبراهيم .. ، وكان مع أفراد أسرته يتحدثون العربية في طلاقة، وأما الكبار منهم فكانوا يتحدثون أيضاً بالتركية، وأما أبناؤه من جيلي فلم يعرفوا إلا اللغة العربية ولا يزال حبل الود موصولاً بيننا في دمشق، وإذن فقد كانت منشأة محطة الحجاز إما من حجارة سوداء، أو بيضاء على التوالي في تراتب بديع وتعلوها سطوح القرميد تبرز منها المداخن.
خاص مؤسسة فلسطين للثقافة، رابط المقال الأصلي: https://www.thaqafa.org/site/pages/details.aspx?ItemId=2193