سمخ كما عرفتها الجزء الثاني،، في ظلال العطر
ولدت إذن في (بلدة سمخ) وأما والدي المرحوم عبد الله أحمد قنديل ووالدتي المرحومة آمنة حسين الشلبي، فقد ولدا في قرية من قرى مرج بني عامر في وسط فلسطين تدعى (سولم) ولنا أقارب هناك كنا نزورهم في العطلة الصيفية حيث الكروم والبساتين وفيها أشجار الجوز والتين والرمان التي تسيجها أشجار الصبارة أو الصبر، كما كان يسمى في فلسطين، وكانوا يبادلوننا زياراتنا لهم في (سولم) بزياراتهم لنا في (سمخ) وبمناسبة الحديث عن هذه الزيارات أقول أيضاً إننا كنا نتزاور مع أقارب لنا في مدن حيفا وأصدقاء في عكا سواء في المدينة القديمة داخل الأسوار أم خارج الأسوار حين أنشأت بلدة جديدة دعيت مثل غيرها من البلدان الجديدة بالمنشأة ولكن التسمية العامية غلبت على الفصيحة فهي (المنشية).
وأعود إلى سمخ بالذاكرة لأقول إنني ولدت في (جوسق) أي فيلا صغيرة وهنا أسارع إلى القول إن ذلك الجوسق كان بناءاً حكومياً شغلناه لأن والدي كان مديراً لدائرة التلفونات أي الهاتف، وكان إذ ذاك هاتفاً يدوياً غير آلي تطلب فيه الأرقام عن طريق السنترال، ولم يتجاوز عدد الموظفين الذين أدارهم والدي أربعة موظفين ... وأما دائرة البريد فكان يديرها السيد راغب عمرو والذي ينتمي إلى أسرة عمرو المعروفة في مدينة الخليل ويكنى بأبي عجاج وكنا نزوره في الخليل والزيارة كانت تعني إقامة وضيافة، لقلة الفنادق إذ ذاك، ولأن الناس كانوا يتبادلون الزيارة والاستضافة فيما بينهم، وقد خلفه في إدارة بريد سمخ السيد صلاح جراح، من عكا، والسيد نايف عودة، من رام الله، وأعود إلى فيلا الطفولة الجميلة، أي دارنا في بلدة سمخ فقد كانت مسيجة بسور من الأسلاك يليه أمام الشارع العام صف من أشجار السرو يصون حديقة كان الوالد يعني بإروائها بصورة منتظمة، وفيها شجيرات الورد الأبيض والأحمر، كما غرس أمام كل نافذة شجيرة من الحناء، وأما الفل فكان في صفائح معدنية مملوءة بالتراب وتصطف على جدار الشرفة الأرضية، فقد كانت تلك الفيلا من طابق واحد يعلوه سطح يشكل مع السقف مثلثاً أي جملون تغطى بصفائح الاسبتس الذي قيل مؤخراً أو قرأت أنه مادة مسرطنة وأما بقية أشجار ذلك الجوسق أي تلك الفيلا فكانت من أشجار الأكاسيا والفيلكوس، أي الصنوبر غير المثمر، ولكن أوراقه التي تشبه الإبرة في استطالتها ودقتها، لا في خدشها للبشرة، كانت تفرش بساطاً ناعماً ليناً للغاية، ويمكن المشي عليه بلاحذاء. وكذلك الجلوس بلا حصيرة أو بساط، كما كان من أشجار بيتنا ذاك، شجيرات الفلفل، وشجيرات النخيل الذكر، ذات الأغصان التي تنتهي بما يشبه المراوح اليدوية، ولكنها مراوح واسعة، والخلاصة أن بيتنا ذاك الحكومي كان غارقاً في الأشجار والظلال والأزهار وما أعظمها نعمة في منطقة الأغوار، ولا يفوتني أن أضيف أن بيتنا كان لايبعد إلا أمتاراً قليلة عن حرم القطار، قطار الخط الحديدي الحجازي الذي تفصله عن بيتنا تلة ترابية منخفضة نرتقيها عندما نسمع صفير القطار من بعيد كما يقف أطفال الحي ملوحين بأيديهم للقادمين إلى محطة سمخ وهنا أتذكر أيضاً خصوصاً خلال سنوات الحرب العالمية الثانية أن قد كان هناك قطارات تنقل الجنود الذين كانوا يبادلوننا تلويح الأيدي وإن كان الحزن العميق يكسو وجوههم، والآن أفترض أن الحزن العميق، والرقيق أيضاً كان يكسو وجوههم لأنهم أو لأن بعضهم ترك وراءه أطفالاً صغاراً مثلنا ومنذ تلك الأيام وأنا أحب صفير القطار، والسفر بالقطار كذلك أذكر أن قد كان في سمخ رجل يمر من الشارع أمام بيتنا، وكنا نحن الأطفال نلاحظ أن الناس يحيونه ويصافحونه باحترام بالغ، وكان يعتمر الكوفية والعقال، ويرتدي طقماً بنياً، سرواله أي بنطاله من ذلك النوع المنفوخ من الجانبين، مما كان يرتديه راكبو الخيول، أو الجنود الفرسان أو الصواري، سواء في جيش الاحتلال البريطاني، أم في قوة عربية محلية تابعة له، وتدعى قوة حدود شرقي الأردن، التي يتمنطق جنودها بحزام عريض من القماش أو الصوف الأحمر فوق الحزام الجلدي، وينتهي بقطعة عريضة وطويلة، لكنها لا تمس الأرض، وكان الناس يسمونه أبو زنار أحمر ذلك الرجل المحترم الذي كان أهل بلدتنا يصافحونه باحترام بالغ كل مساء هو أحمد الشقيري، نعم إنه المحامي المناضل المجاهد المفترى عليه الأستاذ أحمد الشقيري. الذي كان منفياً في (سمخ) والذي تشرفت بالعمل معه، بل تحت إشرافه بعد ذلك بثلاثين عاماً، عندما كنت المعلق السياسي لإذاعة صوت فلسطين صوت منظمة التحرير الفلسطينية، من القاهرة، وكذلك تحت أشراف المناضل المجاهد الفلسطيني المعروف، الأستاذ خالد الفاهوم، عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية رحمهما الله.
وبعد أن سمع الأستاذ الشقيري بعض تعليقاتي وبرامجي طلب أن يراني، واستقبلني بحفاوة أبوية محببة غير مسيطرة، وقال: من أين أنت من فلسطين يا أستاذ (فايز)؟؟ فقلت له: من (سمخ) لقد فوجئ الأستاذ الشقيري الذي لا ريب أن شريط الذكريات، دار في عقله، فبادرته بالقول: أنا أعرف أيها الأستاذ، كنت منفياً في قريتنا، فأبتسم الأستاذ الشقيري وقال: كلا، بلدكم ليست منفى فهي من فلسطين كما أنها تشبه مدينة عكا إلى حد ما أي أن عكا تنهض على ساحل البحر المتوسط، كما أن سمخ تنخفض على شاطئ بحيرة طبريا- مدينة عكا، هي مدينة الشقيري- وإذن فقد كان أحمد الشقيري يخترق الشارع الرئيسي بل الشارع الوحيد في بلدتنا قبل غروب كل يوم (ليثبت وجوده) في مركز البوليس غربي المدينة .. وهذا المركز أتذكر أنه كان متاخماً لمدرستنا الابتدائية غربي البلدة، وكنا نشهد عملية بنائه التي نفذتها شركة البناء الصهيونية المعروفة بـ ( سوليل بونيه) وكنا نسمع العمال اليهود ينادون بعضهم (شلومو .. روكيا .. سوليك أو زوليخ .. جاكوب الخ الخ) .. هكذا شاء القدر لبلدة هادئة وادعة أن يبدأ طرفها الغربي بقلعة عسكرية وصفت بأنها مركز للبوليس وأن ينتهي طرفها الشرقي بمعسكر لقوة حدود شرقي الأردن (ترانسجوردان فرونتير فورسز) وكان قائدها تحت إمرة القادة الإنجليز طبعاً ضابط متقدم في العمر من عائلة التهمّوني وآخر شركسي هو المقدم (رشيد شابصوغ) وكان ابنه زميلاً لي في المدرسة الإبتدائية، ثم نقلت قوة الحدود هذه إلى شرقي الأردن، وحل محلها في أعقاب الحرب العالمية الثانية كتيبة من المظليين الإنجليز تدعى (الباراشوت باتاليون Para chate Battalion وما دمت أتحدث عن هذا المعسكر، فلا يفوتني أن أشير إلى أنه كان إلى جانبه طاحون للحبوب ومعمل للثلج أصحابه بدورهم من الشراكة، من آل الشامي والذي درس أحدهم الطب في الجامعة الأمريكية في بيروت وقبل أن يتخرج ويعود إلى سمخ بأشهر قليلة هيأ له أهل سمخ عيادة، فارتاح المرضى من الذهاب إلى مدينة طبريا المجاورة، أو الناصرة وحيفا البعيدتين نسبياً دعك من تجشم عناء المواصلات إذ ذاك وللأمانة أسجل أن أبناء أولئك الشراكة الطيبين كانوا متفوقين في المدرسة وفي كل المواد بل وفي اللغة العربية نفسها، فقد كنت أتنافس على المرتبة الأولى في الصف مع زميل شركسي أشرت إليه قبل قليل وهو(عبد الحميد رشيد شابصوغ) وعندما ذهب إلى الأردن مع أبيه في (قوة الحدود التي أشرت إليها) أخذت أتنافس على المرتبة الأولى مع طالب شركسي آخر هو (صفوان على هارون) والذي كان يذهب مساء كل خميس إلى قرية فلسطينية مجاورة يسكنها الشراكسة هي قرية(كفر كما) وأما الطلبة الذين سبقوني إلى المدرسة، فكان المتفوق فيهم طالب شركسي هو (عبد الرحمن أسعد زكريا) وأما الذين دخلوا المدرسة بعدي، فقد تفوق فيهم طالبان شركسيان من أسرة واحدة هما بدر الدين وفوز الدين إدريس، طبعاً كان بين زملائنا الشراكسة طلبة عاديون أي غير متفوقين، كذلك كان بينهم قلة قليلة جداً من الكسالى أو (التنابل) كذلك كان أستاذنا في اللغة العربية في الصف الرابع الإبتدائي أستاذاً شركسياً اسمه (أنس) ولا أعرف بقية اسمه وهذا الأستاذ كان أحد طلبة مدرستنا، ولكنه عين بعد ذلك أستاذاً في المدرسة، فكنا نناديه (أنس) بدون لقب الأستاذ، فاستشاط غضباً وقال: (لقد مات أنس،وأنا الآن الأستاذ أنس) فصرنا بعد ذلك نخاطبه بلقب الأستاذ.
ما دمت أتحدث عن مدرستي الإبتدائية فلا بد من القول إن أساتذتها الأفاضل، كانوا من العائلات الفلسطينية المعروفة كالأستاذ (فلاح الماضي) مدير المدرسة والذي سبقه في الإدارة، الأستاذ (فائق عنبتاوي)، وأما أستاذ الديانة فكان الشيخ (محمد السعدي) أو سعد الدين، من صفد، وخلفه الأستاذ (أحمد عنبتاوي) من نابلس، وكذلك علمني فيها الأساتذة (محمد علي الفاهوم)، و(عبد اللطيف الفاهوم) من الناصرة، وأيضاً الأستاذ(رائف الزعبي) من الناصرة أيضاً وأما في الزراعة فقد علمنا الأستاذ (أمين سليمان) وهو من عكا، والأستاذ (محمد علي خليل)، وكان أبوه مختاراً لبلدة لوبية، ومن أبناء لوبية أيضاً الأستاذ (محمد لافي كرزون) الذي استقر في حلب والأستاذ (حسن زكاري) من صفد والأستاذ (نادر شخشير) من نابلس، وتطوع في الجيش السوري بعد عام 1948 وصار أيضاً آمراً للشرطة العسكرية في دمشق، وكنت أزوره مراراً عندما كنت طالباً في كلية الآداب، التي كان مقر الشرطة العسكرية يواجهها، كذلك أنجبت القرية معلماً من (آل أبي عفّار) هو السيد (محي الدين) وكان يعلم في قرية مجاورة تدعى العبيدية .