سمخ كما عرفتها الجزء الثالث،، بحيرة طبريا،، بحيرة سمخ
طولها أربعة وعشرون كيلو متراً وعرضها اثنا عشر كيلو متراً أيضاً ... كذلك فإن بحيرات فرنسا وسويسرا وجبال الألب عموماً مثل بحيرات (كومو وغاريا) تفتقر إلى قداسة بحيرة طبريا- ولماذا لا أقول بحيرة سمخ أيضاً؟؟- فقد سار السيد المسيح عليه السلام فوق مياهها وكان يصطاد السمك هو والحواريون أنصاره إلى الله على شواطئها ...
بحيرة (طبريا) هذه كانت محمية عند شاطئ سمخ فقط، بجدار من الإسمنت المسلح، يبدأ من جنوبي البحيرة، وتحت مقبرة البلدة مباشرة بقاعدة متينة من الأسمنت بني عليها مضخة ضخمة، كان أهل القرية يسمونها (البمبة) وهي تسمية صحيحة لأن كلمة pump الإنجليزية تعني المضخة بالعربية، وكانت تلك البمبة في حجم مقدمة القطار القديم التي كانت تملأ بالمياه التي يوقد تحتها الفحم الحجري لكي يتحول الماء إلى بخار تندفع به القاطرة وكان يشرف على تلك المضخة جار لنا من بلدة (كفر كنا) أو بلدة (الرينة) قرب الناصرة هو السيد (أمين الحكيم)، وقد كنت أذهب مع أحد أبنائه وهو جمال إلى البمبة هذه، وأراه يرفع قطعة معدنية صغيرة لكي يعمل أو يشغّل أو بالتعبير السياسي الشائع الآن لكي (يفعّل) هذه البمبة أي المضخة أو يخفض هذه القلعة المعدنية لكي يوقفها عن العمل، بعد أن تمتلأ خزانات محطة القطار الحديدي بالماء الذي يتدفق إلى خزانات القاطرات ... الخ ...
لقد أشرت قبل بضعة سطور إلى أن تلك المضخة كانت تقوم في جوار المقبرة بل لصق المقبرة ولم أشر تلك الإشارة لتعكير مزاج القارئ، بل لأن تلك المقبرة كان يشقها شارع شديد الانحدار يبدأ من محطة القطار حتى تلك المضخة الضخمة، وكنا نرى القبور التي شقها الشارع وقد ظهر منها بعض عظام وجماجم الموتى !!
وكان ذلك الشارع شديد الانحدار، وهو من القار ينتهي بشارع صغير آخر، ولكنه من الخشب يمتد نحو مائتي متراً داخل البحيرة ويدعى (البنط) وهي تحريف لكلمة (بوند) الإنجليزية والتي تعني رباطاً أو (وصلة) أي ربط البحيرة بمحطة القطار وليست تحريفاً لكلمة ( point ) الإنجليزية التي تعني نقطة، ولعل البضائع كانت تنقل من ذلك البنط إلى بعض المواقع شمالي البحيرة وغربيها قبل تعبيد طريق يمتد من سمخ إلى طبريا عند إنشاء ما يشبه الخزان عند شاطئ البحيرة التي يخرج منها نهر الأردن وكان تابعاً لمشروع روتنبرغ لتوليد الكهرباء حيث يلتقي نهرا الأردن واليرموك قرب بلدة جسر المجامع التي كان جسرها يصل فلسطين بشرقي الأردن على أنها شاهدت استخداماً ثورياً إذا جاز التعبير لذلك البنط في أواخر عام 1947، أي فور صدور قرار تقسيم فلسطين الجائر عن الأمم المتحدة، فلقد كانت كتيبة الباراشوت البريطانية تتأهب للرحيل عن فلسطين، وبالتالي كانت تتخلص من الذخائر التي كانت تتسلح بها، وكانت تلك الذخائر معبأة في صناديق معدنية متينة تحتوي أمشاط الرصاص للبواريد، وأشرطة الرصاص للرشاشات وكان الجنود الإنجليز يقذفون بها إلى مياه البحيرة حيث كان أبناء قرية سمخ- وكانوا غواصين بالفطرة أو بالطفولة إذا جاز التعبير أي أننا كنا نتعلم السباحة دون معلم- كانوا يتلقون بأيديهم تلك الصناديق المعدنية الثقيلة الثمينة أي صناديق الذخيرة ويدفعونها إلى الأعلى بأيديهم- تطبيقاً لقاعدة أرخميدس دون أن يعرفوها، بل حتى دون أن يسمعوا بأرخميدس نفسه، والقاعدة طبعاً تنص على أنه (إذا غمر جسم في سائل فإنه يكون مدفوعاً إلى الأعلى بقوة تعادل وزن حجم ذلك السائل من الماء) - ويستلمها منهم أبناء البلدة في الزوارق يعودون بها من البنط إلى الشاطئ وكان جنود المظلات الإنجليز يرون ذلك، ولا يمنعون منه أبناء القرية، ولست أدري لماذا ولكنها كانت الحسنة الوحيدة للاستعمار البريطاني في فلسطين، فقد وفرت لأهل القرية مدداً من الرصاص استخدموه في مواجهة العدو الصهيوني عام 1948 ..
وبعد البمبة أي مضخة مياه الخط الحديدي الحجازي باتجاه الغرب، يمتد السور أو الجدار الإسمنتي للبحيرة، وتقطعه بين مسافة وأخرى ثغرات واسعة مرصوفة بدورها بالإسمنت المسلح تسمى الموارد وأولها مورد (اللوابنة) أي أهل القرية الذين يعودون بأصولهم إلى قرية لوبية التي كانت تقوم بعد قرية (حطين) على طريق (الناصرة)، ثم مورد (التراعنة) نسبة إلى أبناء القرية الذين يعودون بأصولهم إلى قرية (ترعان) أو (طرعان) كما تنطق أحياناً ولست أدري لماذا ؟؟
ثم مورد (الجامع) تحت جامع القرية مباشرة، حيث ينحدر الأرض باتجاه شاطئ البحيرة وفي الربيع كان أطفال القرية ينزلقون بأجسامهم على ذلك المنحدر بسرعة، ثم يغوصون في مياه البحيرة بعد أن يرفعوا رؤوسهم لكيلا ترتطم بسور البحيرة الإسمنتي إنه تزلج الفقراء في قريتي والذي يناظر تزلج الأغنياء على الثلوج في سويسرا وفي لبنان أيضاً!! كذلك كان هناك مورد آخر باسم إحدى نساء القرية التي كان المورد يقوم تحت بيتها، يليه مورد آخر وأخير عند المحجر الصحي القديم، أي الكرنتينا، وكان بدوره يسمى باسم إحدى عائلات القرية، وهي (عائلة أبو صينية) أو (أبو صنية)، كما كان ينطقها أهل القرية، وكان يجاور ذلك المورد يضخان المياه، أحدهما يضخها إلى مدرسة القرية، والثاني يضخها إلى حقول يمتلكها آل يخلف، وهم الأسرة الوحيدة التي كانت تزرع البقول والخضروات بفضل ذلك المحرك، وأما بقية أهل القرية فكانوا يزرعون الحبوب التي ترتوي بماء المطر، ومشكلة أهل القرية كانت في شتاء المحل وانحباس المطر، فعندئذ كان أهل القرية كهولاً وشباباً وأطفالاً، يخرجون في موكب صلاة الاستسقاء وهم ينشدون قبل إقامة تلك الصلاة: (يا الله الغيث يا ربي، تسقي زريعنا الغربي، من غربه لشرقه تا يطالع له شعبتين.
ثم ينتهي السور أو الرصيف، رصيف بحيرة طبريا وليس الرصيف القاري طبعاً، ينتهي عند مورد أبي صينية، كما يلتقي الشاطئ الرملي ليبدأ شاطئ طيني، تسرب الطين إليه من أسفل المرتفع المجاور الذي كان أهل البلدة يسمونه (العراق)، يسرب مياهاً غير مالحة تماماً، وغير عذبة تماماً، وبعدها بأمتار معدودة كان هناك عين ماء عذبة تماماً، وبعدها بأمتار معدودة كان هناك بناء أصفر يدعى بيت اللنش أي الزورق البخاري الذي كان ينقل اليهود من مستعمرة دغانيا إلى مستعمرة النقيب أو عين غيب لكيلا يمروا من بلدة سمخ فيرجمهم أطفال القرية بالحجارة بتوجيه من الكبار، وذلك لأن البوليس البريطاني في فلسطين لا يعتقل الأطفال ... وإن كان فيه بعض الوحوش الذين كانوا يرعبون الأطفال مثل الضابط (وايمارك) وقيل إن زوجته يهودية، أو (الجاويش هكمان) والأمر نفسه شهدته حيناً بين أفراد كتيبة الباراشوت، فكان هناك رقيب لطيف واسمه (روبنسون) يقف بين أكياس الرمل (الاستحكام) وله موهبة أو مهارة إدارة كرة العين، كما رأينا الفنانة (نعيمة عاكف) تفعل في بعض أفلامها، ولكن بالمقابل كان هناك رقيب أول يكره العرب بوضوح، وكان زملاؤوه ينادونه (سايكس)، ولست أدري هل اسم (سايكس) رائج في بريطانيا مثل (جورج) أو (سميث) أم أنه سليل ممثل.
الطرف البريطاني في اتفاقية سايكس بيكو الاستعمارية الشهيرة، وهو (مارك سايكس) ولست أستبعد هذا، وإن لم أكن منه على ثقة، فقد كان المدير الفرنسي لشركة قناة السويس قبل التأميم يدعى (جورج بيكو) أي أنه سليل واضح لممثل الطرف الفرنسي في تلك الاتفاقية المشؤومة (سايكس بيكو)، إذن فبعد مورد أبي صينية، والنبع المالح بأمتار معدودات تنتهي بحيرة طبريا من الجنوب ليخرج منها نهر الأردن ولعله كان خروجاً هادئاً قبل مشروع روتنبرغ، لتوليد الكهرباء، والذي عمقوا من أجله نهر الأردن، تعميقاً شديداً، فكان سطحه هادئاً ولكن الدوامات أو الحوامات كانت تحت ذلك السطح الهادئ الذي طالما غرق فيه بعض أبناء القرية... والغريب أننا كنا نعتبر السباحة في البحيرة سباحة عادية، ولكن السباحة فوق العادية كانت بقطع نهر الأردن أو نهر الشريعة وهكذا كان يسميه أهل سمخ كما تسميه الكتب الدينية المسيحية، وذات مرة كنت أقطع نهر الأردن في تلك المنطقة الخطرة سباحة على ظهري فيسمع والدي صوتي، وأنا أتمازح مع رفاقي، فلم يقل شيئاً حتى عدت ظافراً قاطعاً نهر الشريعة، وهناك تلقيت التأنيب الملائم بل التأديب فقد كانت تلك المنطقة من النهر خطيرة للغاية حتى على الشباب والكهول، فكيف بالأطفال ؟؟! وبعد نهر الأردن وجسر روتنبرغ أو باب الثم أي ثم النهر أي فم النهر أي مخرجه، لم يكن هناك أي عراق مرتفع، أو أي رصيف إسمنتي ولا حتى أي بناء وصولاً، إلى مدينة طبريا التي كانت تشتمل بدورها بالمقبرة ثم الحمام وهو حمام تتدفق فيه المياه المعدنية، أنشأه اليهود ولكنه لم يكن شيئاً مذكوراً، إنها حمامات بلدة الحمة المعدنية، والتي أنشأها المغترب اللبناني في مصر والسودان، (سليمان بك ناصيف) وولداه نصري بك ومراد بك، وفي مطلع مدينة طبريا يبدأ رصيف حجري بقلعة طبريا الشهيرة.
خاص مؤسسة فلسطين للثقافة، رابط المقال الأصلي: https://www.thaqafa.org/site/pages/details.aspx?ItemId=2206