سمخ كما عرفتها الجزء الرابع،، هؤلاء علموني في سمخ
ولا بأس بأن أقول إن مدرستنا الابتدائية لم تكن تخلو من المباهج أو المسرات الصغيرة كالذهاب في رحلات مدرسية إلى القرى أو الأماكن الخلوية المجاورة مثل قرية (العبيدية) مثلاً على نهر الأردن بعد خروجه من البحيرة وكان فيها ضريح لأحد أولياء الله الصالحين واسمه (مزيغيت) وكان أهل القرى المجاورة يقسمون أي يحلفون به، وعندما تقدم بي السن وعرفت شيئاً عن اللغة الأمازيغية، في الأقطار المغاربية وهي (لغة الأمازيغ) أي البربر وأحسب كلمة البربر جاءت من اللغة غير المفهومة عند غير أهلها فقد كان الناس يصفون الثرثرة أو الكلام المشوش السريع غير المفهوم، بأنه البربرة كذلك كان الرومان القدماء يصفون شعوب الشمال الجرمانية بالبرابرة، وفي مصر يسمون أهل منطقة النوبة بالبرابرة، ومن هنا جاء لقب الممثل الكوميدي المصري (علي الكسار) الذي كان يقلد لهجة أهل النوبة، لهجتهم العربية وليس لغتهم النوبية بأنه (بربري مصر الوحيد).
على كل حال، عندما عرفت بأمر اللغة الأمازيغية، تذكرت قبر (مزيغيت) في بلدة العبيدية قرب بلدتي أي سمخ فاجتهدت بأن (مزيغيت) لا بد وأن تكون من بقايا الدولة الفاطمية التي جاءت من المغرب إلى المشرق، أي عكس الفتوحات العربية الإسلامية القديمة التي انطلقت من المشرق إلى المغرب والأندلس (كان الأندلس أي إسبانيا العربية يعتبر جزءاً من المغرب) وقد عزز هذا الاجتهاد أو الافتراض عندي، أن (الدولة الفاطمية كانت تدعى الدولة العبيدية أيضاً).
وبالتالي فمن الممكن أن تكون بلدة العبيدية هذه، قد حملت اسماً فاطمياً أو عبيدياً وقد سألت الباحث الفلسطيني الأستاذ (نوح أبو الهيجاء) وكان شديد الاهتمام بهذه الأمور، فوافقني على هذا الاجتهاد، وكذلك كنا نذهب في تلك الرحلات المدرسية إلى بلدة (السمراء) المجاورة على شاطئ البحيرة، والتي هدمتها إسرائيل وأقامت على أرضها مستعمرة (هاؤون) وكذلك إلى قرية (القدسية) على نهر اليرموك وكان جل سكانها، بل كانوا جميعاً من (العجم) أي الفرس، كذلك فقد كانوا جميعاً على (المذهب) أو ربما على (الدين البهائي) ولكنهم كانوا يعرفون العربية جيداً بل يتحدثون بها مع من في جوارهم من العرب بطلاقة، كما كانوا يعتمرون الكوفية والعقال ويرتدون القنباز أيضاً ومن مباهج القرية ومسراتها الصغيرة (السيران) في الربيع، وإن لم تعرف كلمة (السيران) هذه، فكنا نلعب في حقول القمح التي كانت نباتاتها عالية بحيث تخفينا ونحن نختفي بعض من بعض، نبحث بين تلك الأعشاب التي تكاد تشبه منطقة (السافانا) أي مزارع الذرة في جنوبي الولايات المتحدة الأمريكية ولم يكن الأمر يخلو أحياناً من بعض (الأفاعي) التي كنا نطاردها بالحجارة،كما أن نهر الأردن عند مخرج البحيرة، كانت ضفافه لا تخلو من الأفاعي المبرقشة (الحيايا) أو السوداء أي (الحنش) ومن حكايا المدرسة الابتدائية أن معلم التربية الدينية، كان يعدنا بعلامات إضافية إذا ذهبنا إلى المسجد أو الجامع، فلم يكن أهلنا في سمخ يستخدمون كلمة المسجد، وذات مرة وعندما ارتقى خطيب الجامع المنبر ليخطب خطبة الجمعة رأى الأطفال ،أي طلبة المدرسة يغطون الصف الأول من الجامع، فقال لنا: (يا بتنصرفوا من الجامع، يا بتصلوا بآخر الناس) أي إما أن تغادروا الجامع، أو تجلسوا في الصفوف الأخيرة، فصرنا نصلي (في آخر الناس) .. ولقد مرض أستاذنا الطيب في مادة الديانة، وهو الشيخ (أحمد عنبتاوي ) وكان من خريجي الأزهر الشريف، ودخل مستشفى (الإرسالية الاسكتلندية) في مدينة طبريا المجاورة، ويعرف بمستشفى (تورنس) وكان قائماً إلى جوار شاطئ بحيرة طبريا، ومبنياً على غرار المدن الاسكتلندية، كما رأيتها في الصور، أو في أفلام السينما، فذهب طلاب الصف السابع أي الصف النهائي في (مدرسة سمخ الأميرية للبنين) يعودونه وهم يحملون بعض الهدايا البسيطة، وفي ذلك اليوم من الله عليه بالشفاء، وقد تأثر أستاذنا الشيخ بهذه الزيارة وعدنا معاً في الحافلة نفسها إلى البلدة ... وفي نهاية العام الدراسي أقيمت حفلة لتوزيع الشهادات على المتخرجين، أي طلبة الصف السابع، ودعي إليها آباء التلاميذ المخرجين، وأعيان القرية وكبار موظفيها، وكان الوالد رحمه الله إذ ذاك.
قد تعرض لحادث كسرت فيه ساقه ولكنه حضر مستعيناً بعكاز، فصفق له شهود الحفل تصفيقاً مدوياً، ولا حاجة إلى تكرار القول إنني كنت متفوقاً بل الأول على ذلك الصف السابع الابتدائي، صف (الخريجين)، ولكني تذكرت هذا عندما رأيت فيلماً أميريكياً، دارت أحداثه في إحدى قرى أميريكة اللاتينية، وكان بين تلك الأحداث حفلة (تخرج) أقامتها مدرسة القرية الابتدائية، وجاء أحد آباء التلاميذ ومسح من عينه دمعة وهو يقول: ( لسنا نتخرج كل يوم)، قالها بضمير الجمع المتكلم أي (نحن) لا نتخرج كل يوم ولعل الوالد رحمه الله كان يقول في نفسه تلك اللحظة، وبضمير الجمع المتكلم : ( لسنا نتخرج كل يوم) وكأنه هو الذي يتخرج بتخرج ابنه من المدرسة الابتدائية .. ولقد اكتمل فرح والدي ذلك اليوم، لأن شقيقي (سامي قنديل) الصيدلي الكيماوي فيما بعد قد استهل الحفلة بتلاوة آية من الذكر الحكيم، فقد كان صوته جميلاً في طفولته، كما أنني شاركت في تمثيلية عنوانها (إسلام عمر) أي الخليفة الراشد الثاني (عمر بن الخطاب) عليه السلام، وكنت أمثل دور زوج شقيقة عمر، الذي داهم منزل شقيقته قبل أن يهديه الله إلى الإسلام، وأما دور عمر نفسه فقد مثله الزميل (حسن خطار عليان) الذي كان يقيم في (تل القصر) أو (التوافيق) وهو أول مرتفعات الجولان في الأراضي الفلسطينية ... بطبيعة الحال كانت المسرحية بسيطة لم يؤلفها (توفيق الحكيم) مثلاً، أو الشاعر المسرحي الفلسطيني (محي الدين الحاج عيسى الصفدي) مؤلف المسرحية (مصرع كليب) سيد قبيلة ربيعة بن وائل وشقيق (الزير سالم) ولم يؤلفها الشاعر المسرحي الفلسطيني (حسن علاء الدين) من أبناء القدس وعنوانها (امرؤ القيس) هكذا نرى أن شعراء فلسطين زمن الاستعمار البريطاني كانوا يفيضون بالمشاعر القومية العربية وليس الوطنية الفلسطينية وحسب، فقد كانوا يستلهمون التاريخ العربي القديم.
وعلى أية حال، ورغم بساطة تلك المسرحية التي مثلناها في حفلة التخرج، فربما كانت أول عرض (مسرحي) يشهده أهل قريتنا أي قرية سمخ على شاطئ بحيرة طبريا.
خاص مؤسسة فلسطين للثقافة، رابط المقال الأصلي: https://www.thaqafa.org/site/pages/details.aspx?ItemId=2194