سمخ كما عرفتها الجزء السادس،، في رحاب زهرة المدائن

سمخ كما عرفتها الجزء السادس،، في رحاب زهرة المدائن

سمخ كما عرفتها الجزء السادس،، في رحاب زهرة المدائن  | موسوعة القرى الفلسطينية

تلقينا في القدس كتاباً أو رسالة من الأستاذ (أحمد سامح الخالدي) عميد الكلية العربية في القدس تفيد تسجيلي في الكلية، وقد أرفق بالكتاب قائمة بالملابس والأدوات التي علي أن أتزود بها، ومنها أدوات الحلاقة من فرشاة وصابون وشفرات، وكانت هذه فكاهة لأنني لم أكن قد أتممت الثالثة عشرة من عمري إذ ذاك، ولكن أدوات الحلاقة هذه كانت من مستلزمات الصفوف العليا، أي الثانوية العامة والتي كانت تسمى بالعربية شهادة الاجتياز إلى التعليم العالي الفلسطيني أي إلى شهادة الإنترميديت التي كان حاملوها يوفدون إلى بريطانيا لمدة عام واحد يحرزون بعده درجة البكالوريوس ( b.a ) إما من جامعة أوكسفورد أو كامبريدج في دبلن ثم يعودون بعدها إلى فلسطين .. ولقد تزودت بالثياب من مدينة حيفا من متجر كان يمتلكه تاجر دمشقي من آل عصاصة في كبرى ساحات حيفا التي كانت تعرف بساحة الخمرة نسبة إلى إحدى شخصيات المدينة، ولكن اسمها الشائع كان ساحة الحناطير حيث تصطف تلك العربات الجميلة التي تجرها الخيول، فتنقل الراكب إلى المكان الذي يريده تماماً كما كانت الحناطير تصطف في شارع النصر بدمشق في أوائل خمسينيات القرن العشرين ،إلى أن انقرضت هذه الحناطير، علماً بأنها من وسائل النقل الصديقة للبيئة، لا تصدر ضجيجاً، ولا تلوث الهواء بالبترول ومشتقاته وبعد أن تزودت بما أحتاجه في الكلية العربية من متاع عدنا إلى سمخ لننطلق منها إلى القدس في حافلة ركاب لشركة جرجورة أو شركة العفيفي، أو في سيارة صغيرة تتبع شركة (المعلمين) أيها   توفر لنا فيه مكان، لتغادر سمخ إلى طبريا، ثم نصعد في الجبل المجاور إلى حطين صلاح الدين الأيوبي، ومنها إلى قرى الشجرة وترعان، ولوبيا والرينة، وكفر كنا ،فمدينة الناصرة، حيث تتوقف السيارة في ساحة صغيرة تحفها كنيسة البشارة وضريح شهاب الدين وهو من الأمراء الأيوبيين وكذلك بعض المطاعم التي هيأت الشواء والشطائر مقدماً للمسافرين كذلك كان هناك متجر كبير تديره أسرة أبو النعاج وهم من بلدة صفورية قرب الناصرة وكان عميد الأسرة المرحوم المقدم (نمر أبو النعاج) قائداً للثوار الفلسطينيين في الناصرة وجوارها في ثورتي 36و48، وأما رتبة المقدم أو الميجر بالإنجليزية فقد حملها من قوة حدود شرقي الأردن، وبعد النكبة صار من كبار موظفي وكالة الغوث الدولية بدعم من مؤسسة اللاجئين الفلسطينيين طبعاً، ولكن عمله كموظف كبير في الوكالة، لم يمنعه من الاعتصام معنا نحن الطلبة ضد بعض تصرفات الوكالة، وفي مقر الوكالة نفسها، أمام مبنى البرلمان السوري، عندما كنا طلبة في الجامعة السورية، أي جامعة دمشق فيما بعد ... وبعد هذه الاستراحة القصيرة في الناصرة كانت السيارة تنحدر إلى قرية معلول في سفوح الناصرة إلى مرج بني عامر حيث بلدة العفولة التي اقتلع الاستعمار البريطاني أهلها العرب، لتصبح بعد ذلك كبرى المستعمرات الصهيونية المقحمة على مرج بني عامر وبالقرب منها كانت مستعمرة جنجار ومستعمرة نهلال التي كان يقيم فيها مجرم الحرب وزير الجيش الإسرائيلي موسى ديّان ثم مدينة جنين وهي أول المثلث الخطر وجبل النار أي الضفة الغربية حالياً حيث تتوقف السيارة في استراحة أخرى أمام بعض الحوانيت التي كانت تفيض بخيرات فلسطين من الفواكه والأعناب والموز المجلوب من الأغوار الفلسطينية المجاورة، وبعد ذلك تصعد السيارة نحو قرى أبوسنان وسيلة الظهر وصولاً إلى نابلس، فتمعن صعوداً في الجبل نحو بلده سلوان وخان اللبن، وخلايل سبخل حيث كانت دورية دائمة من الجيش البريطاني تُنزل الركاب وتدقق في هوياتهم، لأن الإرهاب الصهيوني كان يضرب المؤسسات الحكومية، وعندما أردت النزول مع النازلين، وأبرزت بطاقة هويتي ابتسم لي الضابط البريطاني، وطلب إلي البقاء في الحافلة فقد كنت دون السن التي كانت تخضع للإجراءات الأمنية إذ ذاك وبعد تصعيد في الجبل نصل إلى مدينة رام الله حيث دار المعلمات وتوأمها مدينة البيرة حيث كلية الغرندز الأمريكية أي كلية الأصدقاء ومن هناك تنحدر السيارة إلى القدس، ومن هناك يرى الركاب أجمل وأبهى مشهد لبهية المساكن زهرة المدائن، ذلك المشهد الذي وصفه الأديب الفلسطيني الكبير جبرا إبراهيم جبرا في مجلة حوار التي كانت تصدر في أوائل ستينيات القرن العشرين ... ولم يكن يشوه ذلك المشهد، إلا بناءان من الإسمنت المسلح الدخيل على بيئة القدس المعمارية وهما: مبنى الجامعة العبرية ومستشفى هداسا وكذلك بضعة بيوت سميت مستعمرة بني يقعوب وبعد ذلك تتوالى قرى القدس ومنها شعفاط وصولاً إلى حي الشيخ جراح، ثم إلى قلب القدس الجديدة خارج الأسوار حيث المحطة الأخيرة ... ومن هناك انتقلنا أنا والوالد بسيارة أجرة إلى مبنى الكلية العربية على جبل المليك هناك استقبلنا موظف الإدارة الأستاذ إميل حاماتي ولعله لبناني فقد كان في المدارس الفلسطينية بعض من خيرة المربين اللبنانين كالأستاذ لبيب علميه مدير مدرسة النهضة الثانوية والمجاورة للكلية العربية، والأستاذ لويس زيتون في الكلية الرشيدية بباب الساهرة ولقد سعد الوالد رحمه الله، عندما شاهد مباني الكلية العربية وملاعبها الرياضية وحراج الصنوبر التي تحيطها وحدائقها الفواحة البديعة، وسعد أيضاً بمفروشات غرف الصفوف والمهاجع ومطعم الكلية فقد كانت مؤثثة تأثيثاً فخماً بمقاييس تلك الأيام بل وبمقاييس هذه الأيام أيضاً.

 لقد تسلمتني الكلية العربية، إذن وعاد الوالد فخوراً سعيداً بولده الذي دخل أرقى مدارس فلسطين ، بل يمكن القول أنها إحدى أرقى المدارس في العالم، كما سوف نرى بعد قليل ... فهذه الكلية العربية تتألف من مبنى رئيسي في طابقه الأول قاعات الدراسة لما يعادل الصف العاشر في سورية وشهادة الثانوية العامة بفرعيها الأدبي والعلمي

 

ثم الصف الخامس الثانوي، وبعده السادس الذي يمنح الناجح درجة (الإنترميديت) التي تطلب صفاً أو سنة إضافية تمنح بها درحة البكالوريس، التي أسست فعلاً ولكن عام 1947، أي عام قرار التقسيم الجائر، الذي تقرر فيه تحويل الكلية العربية إلى كليتين جامعتين للعلوم والآداب، ولكن نكبة فلسطين حالت دون ذلك، وبين حراج الصنوبر البري (المزروع طبعاً) كانت تنتشر أربعة ملاعب للتنس وملعبان لكرة السلة، وملعبان لكرة القدم، وفي أحد حراجها (أي أحراشها) كوخ فيه كرة الطاولة وهذا يعني أن كل طالب في الكلية العربية بصفوفها الستة وطلابها (المائة والعشرين) فقط ليس غير، كان يجد مكاناً للعب في أي ملعب يريد في أوقات الفراغ.

 

لقد كان كل شيء جديداً عليّ في هذه السن المبكرة وخصوصاً الحياة بعيداً عن الأهل والأسرة ولكن هذه الحياة الجديدة، شغلتنا بتقاليدها الجديدة علينا، عن الأهل فلقد كان الجرس يقرع في توقيت معين لليقظة، فالذهاب إلى المغاسل، ثم النزول إلى قاعة الطعام. (( وهنا الأمر الأكثر جدة)) فقد كان يتعين علينا، ونحن في هذه السن الصغيرة، بل في سن الطفولة أن ندخل إلى قاعة الطعام باللباس الكامل أي بالسترة وربطة العنق، وأن نقف أمام الموائد، إلى أن يدخل الأساتذة فيجلسون إلى مائدتهم الخاصة في القاعة نفسها، وعنذئذ يقول (العريف) وكان من طلاب (الإنترميديت): تفضلوا ... عنذئذ نجلس إلى المائدة لنأكل، وبعدها نهرع إلى الحافلة نحن طلاب الصفين الأول والثاني الثانوي لكي تهبط بنا إلى الكلية الرشيدية في حي وادي الجوز خارج الأسوار أمام باب الساهرة ... وعلى الهامش أستذكر أنه عرض علينا شريط (سينمائي) يصور الحياة في إحدى الجامعات البريطانية العريقة ،فكانت (طقوس) وجبة الغداء في تلك الجامعة، كتلك الطقوس في الكلية العربية، وما دمت قد أشرت إلى الأساتذة، ومائدة الطعام المخصصة لهم في القاعة التي يأكل فيها الطلاب، فقد يشوق القارئ أن يعلم أن بين أولئك الأساتذة نائب العميد الأستاذ (عبد الرحمن بشناق) الذي صار بعد النكبة مديراً للبنك العربي في عمان، وأصل هذا الأستاذ من (البوسنة) في البلقان، ولكن العثمانيين أحلوا هؤلاء البشناق في بلدة قيصرية أو قيسارية في فلسطين، ومن أساتذة الكلية الأستاذ (فتحي قدورة) وكان أستاذاً للفيزياء وهو من صفد والأستاذ جميل علي، أستاذ الرياضيات، وهو بدوره من صفد وقد درسا بعد النكبة في كلية العلوم في جامعة دمشق، والمؤرخ العربي الفلسطيني الكبير الأستاذ الدكتور نقولا زيادة وكذلك الأستاذ محمود معقول وهو من بلدة سلوان قرب القدس وكان يدرّس اللغة العربية، والدكتور (سيسيل حوراني) وكان يدرّس اللغة اللاتينية وصار بعد ذلك مستشاراً للرئيس التونسي الراحل (الحبيب بورفيبه) وكذلك الأستاذ الدكتور إسحق موسى الحسيني أستاذ اللغة العربية، وأستاذ إنجليزي اسمه (بنفورد) وكان يدرّس الأدب الإنجليزي وخصوصاً ملحمة (الفردوس المفقود) من أعمال الشاعر البريطاني (ميلتون) وقد كان يحمل هذا الكتاب في طبعة ضخمة فاخرة التجليد، فاخرة الطباعة، مزدانة بصور الرسامين الكبار، لقد أشرت إلى (مائدة الأساتذة) دون أن أشير إلى عميد الكلية، والسبب هو أن الكلية العربية كانت تضم إلى جانب مبنى الطلبة الضخم، فيلا كان يسكن فيها العميد الأستاذ (أحمد سامح الخالدي)، أما بقية الأساتذة فكانت بيوتهم في مدينة القدس، وقد يحسن ما دمت أتحدث عن المربي الكبير أحمد سامح الخالدي أن نشير إلى أنه درس الصيدلة في جامعة بيروت الأمريكية، ثم هجر مهنة الصيدلة إلى مهنة التربية والتعليم ،وله مؤلفات مترجمات في علم النفس، وهو والد الباحث والسياسي الفلسطيني المعروف الأستاذ وليد الخالدي، ووالد الأستاذ المتخصص في (علم البحث العلمي) إذا جاز التعبير، أي في التخطيط للبحث العلمي، وهو الدكتور (أسامة الخالدي) الذي كان يتقدمني بصف واحد، وكذلك الأستاذ الدكتور طريف الخالدي ،رئيس دائرة التاريخ في جامعة بيروت الأمريكية، والذي يصغرني بعام واحد، يجب أن أقول هنا، إن أبناء الأستاذ (الخالدي) لم يُميّزوا عن طلبة الكلية، فكان (أسامة الخالدي) مثال الطالب المنضبط الملتزم بأوامر الأساتذة وثوابتهم، إن وجدت فضلاً عن تهذيبه الرائع، هذا عن الأساتذة فماذا عن طلبة الكلية العربية؟؟

 

خاص مؤسسة فلسطين للثقافة، رابط المقال الأصلي

https://www.thaqafa.org/site/pages/details.aspx?ItemId=2158