سمخ كما عرفتها الجزء الثامن،، النذير بالرحيل

سمخ كما عرفتها الجزء الثامن،، النذير بالرحيل

سمخ كما عرفتها الجزء الثامن،، النذير بالرحيل  | موسوعة القرى الفلسطينية

و عاش أصحاب دواوين الحماسة الشهيرة الثلاثة وهم ((أبو تمام، والبحتري،و ابن الشجري))، إذن لأَدْرَجوا الشاعر الفارس المناضل المجاهد الشهيد ((عبد الرحيم محمود))،ـ بطل معركة بلدة ((الشجرة)) في قضاء مدينة ((الناصرة)) في دواوينهم وانتخبوا لهذه الدواوين بعض شعره، لا سيما وانه القائل:

سأحمل روحي على راحتي                    وأُلقي بها في مهاوي الردى

فإما حياة تسرّ الصديق                        وإما ممات يغيظ العدى

هذا الشاعر العربي الفلسطيني المجاهد شهد تفاقم المؤامرة الأنغلو أمريكية ـ الصهيونية على وطنه فلسطين العربية خلال الحرب العالمية الثانية، وخصوصاً بعد أن أسست بريطانية ما كان يعرف بـ ((الفيلق اليهودي))، أي عصابات ((الهاغاناه)) ومشتقاتها كعصابات ((الأيرغون زفاي ليومي، وشتيرن)) مع تجريد الاستعمار البريطاني، للشعب العربي الفلسطيني، حتى من السكين والموس، دعك من القنبلة والرصاصة والبندقية وكذلك مع إقطاع بريطانية مساحات واسعة من الأراضي الفلسطينية للصهاينة، فاستبصر عبد الرحيم محمود المستقبل الخطير الذي يتربّص بالشعب العربي الفلسطيني في عام 1946م قبل صدور قرار تقسيم فلسطين الجائر عن الأمم المتحدة بعام واحد،  ففي ذلك العام زار الأمير السعودي فيصل بن عبد العزيز آل سعود القدس وصلّى في المسجد الأقصى المبارك، فألقى الشاعر الفارس عبد الرحيم محمود قصيدة نفخ بها في صور الخطر إذ قال يخاطب الأمير: 

المسجد الأقصى، أجئتَ تزوره                          أم جئت من قبل الرحيل تودّعه؟!

وعندها تعالى نحيب القوم.........

لقد استبصر ـ ولا نقول تنبّأ ـ (عبد الرحيم محمود) بوعيه الوطني، وجهاده الثوري قبل حدسه الشعري الفنّي، فشهد بعين الإلهام نكبة فلسطين التي أدمت الأمة العربية والعالم الإسلامي بعد ذلك بعامين...

في هذا الباب أيضاً ، باب الاستبصار بالرّحيل جاءت رؤيا الكاتب العربي الفلسطيني، أستاذ الأدب العربي في الجامعات العربية والعالمية، الدكتور إسحق موسى الحسيني، والتي سجّلتها رواية صغيرة الحجم خطيرة المضمون في سلسلة (اقرأ)، و التي صدرت عن دار المعارف بالقاهرة عام 1943م، وعنوانها (مذكرات دجاجة).فَتحْتَ هذا العنوان والذي يبدو أقرب إلى حكايات ((كليلة ودمنة)) عند العرب، وأساطير ((لافونتين)) عند الفرنسيين، وحكايات ((كيريلوف)) عند الروس، والتي تُرْوى على ألسنة الحيوانات، استبصر إسحق موسى الحسيني نكبة فلسطين، والهجرة والنزوح واللجوء الفلسطيني قبل حدوثه بخمسة أعوام...

 

الرحيل واللّجوء عند الأوروبيين

 يتناول الساسة وبعض الكتّاب الأوروبيين قضيّة اللاجئين العرب الفلسطينيين الذين اقتلعهم الإرهاب الصهيوني من وطنهم، تناولاً يغلب على معظمه البرودة أو الحياد على أحسن الفروض، دعك من السخرية والتّشفي وإهانة الشعب الفلسطيني ((الذي لم يصمد على أرضه))!! هذا علماً بأن بلدانهم الأوروبية ثمّ الأمريكية الشمالية، التي اصطنعت إسرائيل هي سبب مأساة الشعب العربي الفلسطيني.

إن هذا لا يهمنا الآن بمقدار ما يُهمّنا أن أولئك الساسة والكتّاب الأوروبيين يتناسون أن شعوبهم أو بعضها كان ((لاجئاً)) بل هارباً خلال الحرب العالمية الثانية، وفي ظروف أخفّ وطأة من تلك الظروف التي أحاطت بالنزوح الفلسطيني، فالشعب الفرنسي على سبيل المثال عانى مشكلة اللاجئين، وبصورة أشد مهانة من الرّحيل الفلسطيني، استناداً إلى المصادر الفرنسية نفسها "فلئن قاومت فلسطين الاستعمارين الإنكليزي والصهيوني، ثلاثين عاماً قبل النكبة، فإن "فرنسا" لم تصمد ثلاثين يوماً أمام الغزو النازي الهتلري وهي الدولة العظمى بل الإمبراطورية الممتدة من الهند الصينية وبعض شبه القارة الهندية، إلى سورية ولبنان وشمالي أفريقيا العربي، وأقطار أفريقيا على ساحل الأطلنطي الجنوبي مثل السنغال ومالي وغينيا، بل وحتى إلى ((جيانا)) الفرنسية في أمريكا اللاتينية فضلا عن بعض أرخبيلات المحيط الهاديء ليس هذا وحسب، بل إن فرنسا أفرزت المتعاونين أي الخونة لحساب الغزاة النازيين الألمان الهتلريين، وعلى رأسهم ((بطل فرنسا القومي)) المارشال "بيتان" الذي عيّنه النازيون رئيساً للدولة في حكومة ((فيشي)) الفرنسية الخاضعة للاحتلال الألماني، فعيّن بدوره "بيير لافال" رئيساً للحكومة، وقد أُعدم "لافال" بعد الحرب العالمية الثانية، أما المارشال "بيتان" فقد حكم عليه "بالإقامة الجبرية المؤبّدة في بيته نظراً لبطولته في الحرب العالمية الأولى!!!

إن ما يهمنا في هذا هو أن الشعب الفرنسي، شعب الثورة الفرنسية الذي أنجب" نابليون بونابرت"، كان يهرب بالملايين من شمال فرنسا، ومن منطقة الإيل دو فرانس، أي جزيرة فرنسا، أي منطقة باريس العاصمة" إلى حكومة "فيشي" في الجنوب.

وقد وصف الفيلسوف الروائي الفرنسي "جان بول سارتر" حشود الفرنسيين الهاربين وصفاً حزيناً فقد كانت تكتظ بهم العربات التي تجرّها الخيول، فلم يكن الوقود متاحاً لسيّارات الفرنسيين أو قطاراتهم، بينما كان العديد من الفرنسيين يقطعون مئات الكيلومترات سيراً على الأقدام، والأسوأ في هذا كلّه أن الشعب الفرنسي لم "يكره" الغزاة النازيين!!! على الفور!! إذ أن الجنود الألمان النازيين كما يسجّل "سارتر" في روايته المثلثة الأجزاء وعنوانها"دروب الحرية" أن الجنود الألمان كانوا غير أفظاظ في التعامل مع المواطنين الفرنسيين بل كانوا في غاية التهذيب فكانوا يقفون للسيدات الفرنسيات وللرجال الفرنسيين المسنّين في حافلات" الترامواي"، ويعطونهم مقاعدهم، بحيث سجّل زعماء المقاومة الفرنسية أن مشكلة هذه المقاومة الأولى كانت كيفية جعل الفرنسيين يكرهون جنود الاحتلال الألماني النازي الهتلري!!!!

وإذا كان هذا هو  حال الفرنسيين فإن حال الشعب البريطاني لم يكن أفضل كثيراً، رغم أن الألمان النازيين لم يحتلوا الجزر البريطانية وفي هذا وصف زعيم حزب العمال البريطاني في الأربعينات من القرن العشرين وهو "هارولد لاسكي" في مذكراته بما يشبه "الفخر الحزين" حشود أهالي العاصمة البريطانية "لندن" وهم يغادرونها في الأصيل إلى الريف البريطاني المجاور هرباً من الغارات الجوية الألمانية ثم يعودون إليها في صباح اليوم التال ، أي أنهم كانوا لاجئين في الليل صامدين في النهار، حيث لا غارات جوّية ألمانية!!!وماذا أيضا؟؟ لقد وصل اللاجئون البولونيون أي البولنديين من شمال أوروبة حيث وطنهم "بولندا" حتى إلى فلسطين نفسها، وكانوا مواطنين بولونيين "كاثوليك"لا من اليهود؛ فقد أُسكن العديد منهم في دير "الكازانوفا" بمدينة الناصرة وفي اديرة أخرى "بالقدس" وفي بيوت ببلدة "عين كارم" من ضواحي القدس، وحتى في قريتنا "سمخ" سكنت مجموعة من البولنديين، فقد آثروا الإقامة في بيت من "اللبن" تملكه عائلة العرَّبي أو العَرْبي" المغاربية الأصل، وكان أولئك البولنديون يمضون الوقت في صيد السمك على ضفاف نهر"الشريعة" وهو مخرج نهر الأردن من بحيرة طبرية، بأناقتهم الكاملة، أي بالسترة وبنطال الغولف الذي يُربط "بالإبزيم" تحت الركبة وفوق القدم، ولا ينسى كبيرهم وهو المستر "آدم" ربطة العنق، والصدريّة والكاسكيت، وكانوا يصطادون السمك بسنّارة ـ كنّا نراها عجيبة ـ فهي أشبه ما تكون بدولاب، أي كركر صغير يُدار بذراع صغير عندما تعلق السمكة بالسّنارة. 

الآن أتذكر أن هؤلاء البولنديين كانوا "يوادّون" أهل قريتنا مودّة متحفظة، ولكنهم لم يكونوا يتبادلون كلمة واحدة مع اليهود في مستعمرة "دغانيا" المجاورة لقريتنا حيث كانوا يصطادون السمك، رغم أن صهاينة "دغانيا" جاءوا إلى فلسطين من بولونيا والرّوسيا، أي أنه كان في وسع "مستر آدم" وصحبه البولونيين أن يتفاهموا مع صهاينة "دغانيا"، ولكنهم لم يفعلوا ذلك، وكنا نلاحظ أن صهاينة "دغانيا" بادلوهم سلبيتهم بسلبية مماثلة، إن لم يكن بالكراهية، رغم أن الصهاينة ثرثروا ولا يزالون يثرثرون عن كونهم من ضحايا النازيّة، مثل البولنديين اللاجئين إلى فلسطين وإلى "سمخ".

 ولقد أتيح لي أن أزور بولندا بعد ذلك بربع قرن ونيّف، فأبديت رغبة بمقابلة البولنديين الذين لجأوا إلى فلسطين فخلّفوا وراءهم كلمة "جندوبري" في مدينة الناصرة، وعين كارم، وتعني مرحبا باللغة العربية فوعدت نقابة الصحفيين البولنديين بتوفير ذلك اللقاء، ولكن مسؤولي النقابة قالوا لي بعد أيام إن أولئك "البولنديين الفلسطينيين" إذا جاز التعبير، قد ماتوا جميعاً!! لقد كان الصهاينة يسيطرون إذا ذاك على تلك النقابة، رغم أن بولندا كانت إّذ ذاك بلداً شيوعياً، وعضواً في حلف الكتلة الشرقية، أي حلف "وارسو" الذي حمل اسم عاصمة وطنهم.

وأمّا الكيان الصهيوني الذي تسبب اصطناعه على الأرض الفلسطينية باقتلاع معظم الشعب الفلسطيني، فقد عرف عام 2006م مشكلة اللاجئين، إذ أن مليوني صهيوني على الأقل فرّوا من المستعمرات الصهيونية في شمالي فلسطين المحتلة والمدن العربية الفلسطينية المهوّدة في شمالي فلسطين المحتلة، إلى بلدة "أم الرشراش" الفلسطينية على خليج العقبة التي هوّدتها إسرائيل تحت اسم "إيلات" تحت وطأة صواريخ المجاهدين من حزب الله في لبنان، ولم يعودوا إلى مستعمرات الشمال إلا بعد توقّف العمليات الحربية في شهر آب من العام نفسه، وأمّا الهاربون اليهود "اللاجئون" إلى بلدة عسقلان الفلسطينية المهوّدة، وإلى مستعمرات "روحوبوت ـ وريشون لسيون" في الكيان الصهيوني تحت وطأة صواريخ "حماس"، فقد كفتنا مؤونة الحديث عنه صحافة إسرائيل التي تحدثت عن تشاتم وتلاوم وتلاكم وتلاطم صهاينة اسديروت.. 

إننا نسوق هذه المعلومات وهي قليل من كثير في قضية اللاجئين، بل قضايا اللاجئين من غير الفلسطينيين لكي نقول: إن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين ليست أول مشكلة لاجئين، ويبدوا أنها لن تكون آخر مشكلة لاجئين في هذا العالم.

 

بعد دير ياسين

لا ريب في أنه كان لمجزرة دير ياسين دور خطير في النيل من معنويات الشعب العربي الفلسطيني، الذي لم يعرف في تاريخه وهو جزء من تاريخ الأمة العربية، مذبحة من ذلك الطراز، إلا في الغزوة الفرنجية المعروفة "بالحروب الصليبية" والتي مسحتها انتصارات البطلين التاريخيين "صلاح الدين الأيوبي، والظاهر بيبرس" من ذاكرة الأمة العربية والشعب العربي الفلسطيني..ولكن "اللجان القومية" المنتشرة في كل مدينة وقرية فلسطينية، تصدّت لهذه الآثار السلبية، فحثت الناس على البقاء في مدنهم وقراهم، وكانت "اللجنة القومية في سمخ" إحدى هذه اللجان، ولقد كان هناك أفراد يقومون بهذه المهمة الجليلة..ولست أنسى في هذا المجال سيدة مصريّة اسمها الحاجّة "أمينة"، ولست أعرف ـ وقد كنت على كل حال أصغر سنّاً من أن أفكرّ في هذا ـ أي أن أسأل عن كيفية وصولها إلى قرية في شمالي فلسطين الشرقي، وامتلاكها بيتاً في قريتنا كانت تؤّجر بعض غرفه، كما كانت متزوجة من احد رجال قريتنا واسمه "عبد الله القاضي" وكان يعمل قصاباً.

هذه السيدة أي الحاجة أمينة المصرية كانت أخت رجال، بل أم رجال حقيقة، رغم أنها لم ترزق بابن أو ابنة، وكانت تطوف على بيوت سمخ تشدّ عزائم السيدات اللاتي لم يكنّ ضعيفات على كل حال، رغم مجزرة دير ياسين...

وأما اللجان القومية، فقد كانت تبثُّ بعض المناضلين المجاهدين على الطريق إلى الحمّة لكي تعيد الرّاحلين إلى بلدة الحمّة، ولم تُعِد أحداً فيما أذكر، لأن أحداً لم يرْحل، وأنا أُلحُّّ الآن على هذه المسألة لأنها أحد البراهين الكبرى التي تنسف مزاعم الصهاينة بأن الدول العربية كانت تُحرِّضُ الشعب الفلسطيني على مغادرة أرضه الوطنية على وعد بالعودة بعد التحرير في منتصف أيار 1948م، هذا التحرير الذي لا يزال الشعب العربي الفلسطيني يعمل في سبيله، وفي هذا الباب أيضاً لا أزال أتذكّر نداءات المذيعين الفلسطينيين ، من الإذاعة الفلسطينية رغم أن سلطات الانتداب البريطاني كانت لا تزال تشرف عليها بل تسيطر عليها، وهم يحثون أبناء شعبهم الفلسطيني على التشبّث بأرضهم الوطنية، وحثِّ من رحل كي يعود، ومن بين هؤلاء المذيعين الأساتذة الأعلام "عصام حمّاد، وعلي عصام مراد، وراجي صهيون، وجورج دحبورة".

خاص مؤسسة فلسطين للثقافة، رابط المقال الأصلي

https://www.thaqafa.org/site/pages/details.aspx?ItemId=2176