رافات ... قرية يقتلها الاستيطان والجدار من كل جانب

رافات ... قرية يقتلها الاستيطان والجدار من كل جانب

رافات ... قرية يقتلها الاستيطان والجدار من كل جانب  | موسوعة القرى الفلسطينية

صبح مساء،  يقف الحاج سعيد جاد الله حمدان (85) عاما على شرفة منزله في قرية رافات شمال القدس المحتلة مستجمعا بعض قواه التي اكل عليها الدهر وشرب متكئا على عصاه لينظر بضعة امتار باتجاه الجنوب،  وما هي إلا لحظات حتى يبدأ ذلك الرجل الطاعن في السن بالبكاء،  فجدار الفصل العنصري فصل بيته المكون من ثلاثة طوابق عن باقي ارضه الممتدة جنوبا والتي اصبحت اليوم خلف الجدار بعد ان صادرتها اسرائيل ".

 الحاج سعيد ( ابو مازن) ذلك الفلاح البسيط يرى ان حياته انتهت بعد ان قسم الجدار ارضه لقسمين صادرت سلطات الاحتلال 22 دونما منها لبناء الجدار الذي يمنع عليه وعلى اي من ابنائه الوصول اليها ولم يتبق  له سوى قطعة ارض صغيرة عليها بيته المكون من ثلاثة طوابق ويقطنه اثنان من ابنائه واحفاده والذين يصل عددهم إلى 23. الحاج سعيد ورث ارضه عن ابيه قبل اكثر من نصف قرن من الزمن،  تعلق بها منذ طفولته واصبحت بالنسبة له الهواء الذي يتنفس من خلاله " ويضيف " منذ كان عمري 12 عاما وانا اعمل في الارض مع ابي واستمررت في ذلك إلى حين صادرت اسرائيل مني ارضي وهو ما اعتبره وضع حد لحياتي،  منذ لك الوقت خارت قواي،  سمعي وبصري اصبحا ضعيفين  وكل ما اتمناه هو ان يستعيد ابنائي واحفادي من بعدي هذه الارض فهي امانة باعناقهم".

 "الاسرة بكاملها كانت تعتاش على فلاحة الارض اما اليوم فقد اصبحنا عاطلين عن العمل ".  يقول مازن (43) عاما الابن الاصغر للحاج حمدان.  ويضيف  "كنا نزرع الارض في الصيف والشتاء وبشتى انواع الخضار إضافة إلى احتوائها على عشرات اشجار الزيتون الروماني،  وكنا ننتج سنوياً ما يقارب 30 (تنكة ) زيت اما اليوم فإننا نضطر احيانا لشراء الزيت من الاخرين".  ويؤكد مازن ان الجدار تسبب له ولعائلته بمسلسل لا ينتهي من المأسي فعلاوة على حرمانهم من مصدر رزقهم اصبحوا محرومين   من الاقتراب من حديقة المنزل الصغيرة المحاذية للجدار والملاصقة للمنزل".

 مشيرا إلى ان قوات الاحتلال اطلقت النار عدة مرات على من كان يقترب من الحديقة رغم انها ملاصقة تماما للبيت وتقع شمالا ضمن المنطقة التي يفترض انه مسموح لهم بالتنقل فيها باعتبارها لم تضم لبناء  الجدار.  ويقطع الحاج سعيد الحديث عن ابنه مازن قائلا بلهجة حادة حزينة " قل له كيف جاءوا عدة مرات واحرقوا الدوالي في الحديقة". مضيفا" والله اني بموت في اليوم الف مرة حسرة على شجرات الزيتون في ارضي خلف الجدار ". 

 ويتساءل" كيف هو شعور انسان يقتل ابناؤه امام ناظريه وهو يرى قاتليه كل ساعة وفي كل لحظة ؟! ".  وتابع" الارض بالنسبة لي بما فيها من زيتون كالولد لا استطيع العيش دونهما ".   ويستذكر مازن كيف كان والده يزرع الارض ويحرثها بالفاس   وكانه شاب في مقتبل العمر  غير ان الحال انقلبت بعد ان صادرت اسرائيل ارضه،  قائلا" حسرته على ارضه هدت حيله ".  

 قصة الحاج سعيد مع الجدار ليست إلا واحدة في مسلسل من النكبات التي خلفها هذا الجسم الغريب عن المكان،  فهنا حياة عُمرها أكثر من 6 آلاف سنة يقتلها الموت من كل جانب. . قلب ينبض ولكن في جسدٍ التهم السرطان السواد الأعظم منه.  المسافة من المركز الاعلامي للضفة الغربية (رام الله) الى هذه البقعة لا تزيد على أربعة كيلو مترات جنوباً،  أي أنك لا تحتاج الى أكثر من خمس دقائق بواسطة السيارة للمجيء الى هذه القرية التي أطلق عليها أجدادنا الكنعانيون اسم "يرفئيل" والذي يعني "الله يشفي".  هي اليوم أحوج الى عمل دؤوب ودواء يشفي من مرض فتاك اسمه السرطان الاستيطاني الذي ينهش جسدها رويداً رويداً حتى أنها باتت على أعتاب الموت. .  فهذه القرية (رافات)،  والتي تعتبر جزءا لا يتجرأ من منطقة شمال غرب القدس المحتلة،  تواجه عملية قتل احتلالية مع سبق الاصرار. . .  فها هو جسم نشاز غريب عن المكان يسمونه السياج الآمن،  ونسميه نحن جدار الموت،  يمر من هُنا،  يقتل الأمن والأمان وحتى الحياة مخلفاً وراءه قصصا وحكايات مأساوية ومعاناة لا يمكن وصفها بقلم!

 سرقة على مراحل

 لا تحتاج الى كثير من الوقت والتجوال في شوارع القرية حتى تشخص الألم من الداخل خاصة اذا صاحبك في جولتك رجل تربوي مثقف كمدير مدرسة رافات الأساسية ورئيس مجلسها القروي السابق محمد خضر أحمد طه (56 عاماً) والمعروف بـ"أبو خضر".

 في هذا المكان حياة،  والشواهد كثيرة. .  مدرسة أساسية مختلطة،  مسجدان،  بيوت قديمة وجديدة،  وأخرى امتزج في تكوينها الحاضر بالماضي،  ناد ثقافي رياضي،  مؤسسات ودوائر،  مواطنون يبلغ عددهم 1600 أو يزيد،  وشجر زيتون روماني منغرس في هذه الأرض منذ آلاف السنين. .  لكن ثمة شيء يقتل المكان ويجعله أقرب الى سجن كبير،  فالشكل الجغرافي للقرية أصبح كحرف U باللغة الانجليزية ليعبر عن طبيعة الحصار والطوق الذي يخنق المكان من كل جانب.  في الشرق مطار القدس،  أو ما يعرف اليوم بقلنديا،  حيث السيطرة الاسرائيلية الكاملة.  من الغرب معتقل "عوفر" والذي أقيم على أراضي القرية عام 1967  من الجنوب جدار الفصل العنصري والذي تقول اسرائيل انها شيدته بدعوى الحفاظ على أمنها ومنع تسلل من تدعوهم "الارهابيين".

 يفصل الجدار القرية عن امتدادها الطبيعي مع مدينة وقرى محافظة القدس،  بل انه يقف حاجزاً أمام تواصل أهالي القرية مع أراضيهم الزراعية في الجنوب.  من الشمال شارع التفافي،  ومن الجنوب شارع التفافي آخر يمر بمحاذاة الجدار.  لم يبق إذن سوى منفذ ضيق للقرية باتجاه رام الله (شمالاً)،  وحتى هذا يكون متاحاً حسب مزاج سلطات الاحتلال،  فكثيراً ما تنصب قواتها حاجزاً طياراً وتمنع الأهالي من المرور.  حقاً انه سجن بكل ما تحمله تلك الكلمة من معنى،  فما بال مساحة القرية تتقلص شيئاً فشيئاً؟ ولِمَ هذه البيوت تتلاصق وتتكدس حتى أصبحت كصناديق للدجاج رغم تلك الأراضي الرحبة شرقاً وغرباً وجنوباً؟

 هذا السؤال يُجيب عليه عام النكسة وما بعد. .  فالمساحة الاجمالية لرافات قبل عام 1967 بلغت 4583 دونماً لم يتبق منها سوى 329 دونماً هي عبارة عن البلدة القديمة التي لم يطرأ عليها أي توسع عمراني من النكسة. .  لماذا؟ لأن الذين اغتصبوا الأرض عام 1967 هُم أنفسهم الذين أخذوا يسرقونها بعد ذلك حيث صادروا معظم أراضي القرية على مراحل،  واتفاقية "أوسلو" التي أبرمت بين اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية عام 1993،  فرضت على الأهالي مسميات لم يكونوا يعرفونها من قبل. .  مناطق (أ) و(ب) و(جـ) وهذه الأخيرة يُحظر على الفلسطينيين البناء فيها أو حتى استثمارها زراعياً الأمر الذي استغلته سلطات الاحتلال لمصادرة أكبر مساحة من أراضي القرية.

 المأساة بدأت مع النكسة حيث صادرت سلطات الاحتلال 800 دونم من أراضي القرية وأقامت عليها معسكراً لجيشها تحول جزء منه فيما بعد الى معتقل يعرف بـ"عوفر" حيث يقبع آلاف المعتقلين.  وبينما كان ابناء شعبنا ينشدون السلام مع بداية التسعينات،  كانت اسرائيل تُخطط لما هو أبعد. .  فها هي تسرع وتيرة مصادرة الأراضي،  ورافات كغيرها من القرى والبلدات لها نصيب في ذلك،  حيث صودر ما يُقارب 300 دونم لإقامة شارع التفافي،  يسلكه المستوطنون وجيش الاحتلال ويقع بين مدينة رام الله وشمال القرية،  ليس ذلك وحسب،  فالأهالي أصبحوا ممنوعين من استغلال الأراضي الواقعة على جانبي الشارع الالتفافي،  بدعوى الحفاظ على الأمن والتي تقدر مساحتها بـ100 دونم.  600 دونم أخرى صنفتها سلطات الاحتلال ضمن المنطقة (C) ومُنع الأهالي من استغلالها زراعياً،  وكل من حاول ذلك كان يتعرض لاطلاق النار.  وفي عام 1995 تمت مصادرة حوالي 300 دونم أخرى لإقامة شارع التفافي في الجنوب بين قريتي رافات والجديرة.  هذا الشارع قطع خطوط الاتصال بين القرى وقرى شمال غرب القدس ومدينة القدس المحتلة حيث كانت القرية ترتبط بهذه المناطق عبر شارع مُعبد.  وفي عام 2002 حفرت قوات الاحتلال خندقاً جنوب الشارع الالتفافي بين رافات والجديرة،  ومُنع الأهالي من المرور الى أراضيهم هناك حتى مشياً على الأقدام.  السطو الأخير تمثل عندما قررت اسرائيل تشييد جدار الفصل العنصري خلال عام 2003 حيث أخطرت سلطات الاحتلال أهالي القرية عن طريق القاء منشورات في أراضيهم أنها تعتزم مصادرة 768 دونما من الأراضي،  وهذا ما كان حيث خصصت 168 دونما لإقامة الجدار و600 دونم بقيت محصورة بين الجدار والشارع الالتفافي الجنوبي ولا يمكن للأهالي الوصول اليها،  وكل من حاول ذلك ربما كان مصيره الموت.

 آثار مدمرة

 كلما اتجهت جنوباً زادت المعاناة،  فالمرور نحو القدس يتوقف عند هذه النقطة،  الجدار الذي نسمع عنه في نشرات الأخبار ولا نراه يُناديك لتعرف عن قُرب ما معنى المعاناة. .  أسلاك شائكة ارتفاعها أمتار لم أستطع قياسها،  وخلفها شارع مُعبد وراءه أسلاك أخرى موازية للأولى،  وبنفس الارتفاع تقريباً قيل لي انها مُكهربة،  وكاميرات للتصوير في كل مكان،  وجيبات عسكرية تروح وتغدو لمراقبة أي شخص يحاول التسلل من خلالها أو حتى الاقتراب منها. 

 يتقاطع الجدار مع شارع التفافي يأتي من الجهة الغربية باتجاه الشرق. .  وبين الجدار والشارع الالتفافي،  تقع مئات الدونمات المزروعة بشجر الزيتون الروماني المثمر أسيرة يُمنع على الأهالي الوصول اليها.  إنها "الحدود" اذن تترك خلفها شمالاً كوارث ونكسات. .  بيوت مهدمة وأخرى مهددة. .  منزل يمنع على قاطنيه أن يسيروا في حديقته،  وآخر يحظر على ربته أن تنشر الغسيل على السطح. .  البطالة بلغت حداً لا يطاق. .  السكان في ازدياد،  والبيوت لم تعد تتسع لأهلها. .  والتوسع العمراني محدود فالأرض مسلوبة.

 هذا بيت يلتصق به الجدار تماماً،  ويعود للمواطنين مصطفى محمود هباس وناظر محمد هباس،  الأول في الخمسينيات والثاني أصغر من ذلك،  كانا يعملان في أعمال البناء،  لكنهما اليوم لا يستطيعان الوصول الى مكان عملهما في قرية الجديرة التي لا تبعد سوى كليومتر واحد. .  والسبب هو الجدار الذي أصبح دخيلاً على بيتهما. .  سلطات الاحتلال تمنع أهل البيت من الوصول الى حديقة المنزل الشمالية وقامت بهدم "بركسات" مخصصة لتربية المواشي والدجاج.

 قمنا بمخاطرة مستغلين لحظة ذهاب دوريات الاحتلال عن المكان،  ودخلنا الى الحديقة التي تزينها أشجار الزيتون واللوز،  طرقنا باب المنزل في محاولة منا لاقتناص رأي صاحبيه حول الحياة الجديدة التي خلقها الجدار لهما ولعائلتيهما،  امرأة أظنها في الأربعينيات من العمر فتحت لنا الباب لتُخبرنا أن الرجلين ليسا في المنزل. .  مصطفى خرج ليفتش عن مصدر رزق،  وناظر سافر الى عمان بصحبة ابنة أخيه مصطفى بهدف علاجها من مرض السرطان.

 المأساة تكتمل،  فالبيت والبنت سيان كلاهما مصاب بسرطان،  على بُعد أمتار قليلة من بيت الأخوين هباس يقع مسجد رافات الجديد الذي لم يمضِ على بنائه سوى خمسة سنوات،  عُمال ثلاثة كانوا يجتهدون في عمل "خلطة باطون" في إطار تشييد سور للمسجد،  أبو خضر انخرط في نقاش مع العمال الثلاثة وهم من أهل القرية،  وأخذ أربعتهم يتحدثون عن مسار الشارع الذي سيمر من أمام المسجد،  في المخطط الهيكلي عرض الشارع هو عشرة أمتار لكن لأبي خضر وجهة نظر أخرى - ستة أمتار يكفي-،  فاذا كان عرض الشارع عشرة أمتار هذا يعني أن الأرض المحاذية للمسجد من الجهة اليمنى لن يستطيع صاحبها البناء،  فيها فنصفها في منطقة (C) ولو كان عرض الشارع عشرة أمتار فهذا يعني خسارة أخرى للأرض.

 هل أصبحت القضية تُقاس بأمتار؟!

 رُبما،  أو يبدو أنها كذلك،  فها هو بيت المواطن راسم سعيد حمدان عبارة عن شقة لا تتجاوز مساحتها 120متراً مربعاً ويؤوي  تحت سقفه ثلاث عائلات،  فبالاضافة الى راسم وزوجته وأولاده هناك أخواه مازن وياسر،  وكلاهما متزوج وعدد أفراد العائلات الثلاث أكثر من 20 فرداً حالتهم "خليها على الله" لا يملكون أرضاً،  ولا حتى مالاً للتوسع في البيت عمودياً،  فمازن عاطل عن العمل،  وياسر يعمل حارساً في إحدى الورش وراسم يبحث عن عمل.  كان لهم أرض بمئات الدونمات،  ولكنها صودرت على مراحل،  جزء لاقامة "معسكر عوفر" وآخر للشوارع الالتفافية وثالث لإقامة الجدار.  اتصلنا برقم هاتف منزل عائلة حمدان لكي نحادث أحدهم،  لكن المكالمة منذ البداية "الاتصالات الفلسطينية مرحباً،  الهاتف لا يعمل مؤقتاً وشكراً"،  لم نجتهد كثيراً لمعرفة السبب!

 حكاية أخرى تتمثل بمنزل المواطن جميل أحمد اسماعيل الذي أصبح عاطلاً عن العمل بعد بناء الجدار،  لكن الظريف أن أهل بيته ممنوعون من نشر غسيلهم على السطح! وزوجته حاولت مراراً أن تصعد الى أعلى،  لكن جنود الاحتلال هددوها باطلاق النار عليها اذا حاولت أن تُعرض أمنهم للخطر بنشر الغسيل!

 الجدار يُدمر حياة الأهالي في كافة المجالات،  فبالاضافة الى توقف التوسع العمراني الطبيعي،  ترك الجدار آثاراً اقتصادية واجتماعية مدمرة،  فرافات التي يعمل مُعظم أهلها في أعمال البناء وكمزارعين،  ارتفعت نسبة البطالة في صفوفهم،  والتي لم تكن تتعدى في السابق 5%،  الى ما يقارب 60%.  فكثير من عمال القرية كانوا يعملون في القرى الجنوبية المجاورة،  وتحديداً في الجديرة والجيب،  وهؤلاء أصبحوا بلا عمل كون الجدار وقف حاجزاً يحول دون وصولهم الى أماكن عملهم.

 ورافات المشهورة بتصدير الخضراوات والحبوب المتنوعة لم تعد اليوم قادرة على التصدير ولا حتى الانتاج.  فالأراضي التي صُودرت على مدى سنوات وسنوات هي من أخصب وأجود الأراضي،  وكثير من الأهالي كانت الزراعة مصدر رزقهم الوحيد،  وها هو الجدار قطعه بعد أن صودرت معظم أرضهم.  يحدثنا أبو خضر بأنه عند بناء الجدار قلعت قوات الاحتلال 623 شجرة زيتون رومي مثمرة،  وقامت بنقل معظمها الى المستوطنات،  عدا عن قلع عدد كبير من أشجار الفاكهة الأخرى.

 ما أصعبه من زمن ذلك الذي تفقد فيه 100 دونم من أرضك الزراعية هي كل ما تملكه ولا تستطيع بعدها أن تُعلم فلذة كبدك،  هذا هو حال المواطن فوزي موسى حمدان (60 عاماً) والذي أنهى ابنه مرحلة الثانوية العامة بنجاح،  لكنه لا يملك المال اللازم لتعليمه في الجامعة.  كان لديه منشار حجر،  وأغلق بسبب الظروف الصعبة خلال انتفاضة الأقصى،  وهو اليوم يفقد الأعز (أرضه كاملة)،  ومصدر رزقه الوحيد أصبح في خبر كان.

 ما أقساها من لحظات عندما يأتي العيد ولا تستطيع أن تزور أقاربك في قريتي الجديرة والجيب،  والمسافة لا تزيد على كيلومتر واحد،  ولكن اذا أردت المغامرة ما عليك سلوك طريق التفافي،  عبر قرى رام الله ثم المرور خلسة بالقدس للوصول الى هدفك،  ولكن تكون عندها قطعت مسافة تزيد على 100 كيلومتر واستغرق الوصول أكثر من ثلاث ساعات. ويقول الحاج سعيد حمدان" في الماضي كنا عندما نريد احدا من قرية الجديرة ان يأتينا ننادي عليه باعلى صوتنا من هنا،  اما اليوم فاننا نحتاج لطائرة كي تقلنا إلى هناك".

 نكبة جديدة

ثلاثة بيوت تسبب الجدار في هدمها وثلاثة أخرى مُعرضة للمصير ذاته.  جنوب القرية كلما تسير عدة أمتار تكون هناك قصة وحكاية. .  فوق هذه الأنقاض التي نسير عليها كان منزل مكون من أربعة طوابق يعود للمواطن حسن طالب الطيراوي،  كانت تسكنه أربع عائلات مع أبنائها،  لكنه اليوم أضحى أثراً بعد عين،  فسلطات الاحتلال هدمته بدعوى الحفاظ على الأمن. 

نحن الآن في بيت آخر مهدد بالهدم،  طرقنا الباب،  لا أحد في المنزل سوى فتاة في مقتبل العمر،. .  حسناً:أنا صحفي،  ألا يوجد رقم هاتف لكي نتصل بأهلك لاحقاً؟ كلا. .  ولا رقم نقال؟ ولا هذا أيضاً. .  أبو خضر يقول لي: يبدو أن الهاتف مقطوع هو الآخر. .   فعرفت أن  الواقع المُر يفرض نفسه مرة اخرى ويُجبرك أن تعيش في عصور خلت.

 هممنا بمغادرة المكان فإذا بامرأة في الخمسينيات من العمر كانت تمشي بخطوات مثقلة،  تعبة،  يبدو أن المرض هد جسدها،  اتجهت نحونا وكانت تمسك بيدها كيسا عرفنا لاحقاً أنه يحتوي على أدوية لأمراض السكري والضغط حيث كانت قادمة لتوها من المستشفى. .  "هذه أم مهند" قال أبو خضر،  وأضاف" بيتها مُهدد بالهدم".

 بمجرد ان عرفت تلك المرأة أنني صحفي حتى بدأت تتكلم بحرقة عن حكايتها مع النكبات،  أم مهند هي زوجة باسم موسى طه (56 عاماً) والمهدد بيته بالهدم،  لأم مهند ستة أبناء أحدهم (معتز) استشهد خلال أحداث هبة النفق عام 1996 عن عمر يناهز (21 عاماً)،  زوجها يعمل كهربائي سيارات،  تعود جذور أم مهند وزوجها الى قرية دانيان قضاء اللد والرملة،  وهي إحدى قرى النكبة،  والتي هُجر أهلها منها بقوة السلاح عام 1948.  استوطنت العائلة قرية رافات،  عندما تزوجت سكنت مع زوجها في بيت مأجور 35 عاماً،  وهي تكد وتعمل وتقاسم زوجها مصاعب الحياة،  حيث عملت على مدى سنوات طوال في رعاية الغنم وحصاد الزيتون وزراعة القمح والخضراوات مقابل دنانير معدودة.  35 عاماً من العمل وبالكاد استطاعت العائلة شراء أرض صغيرة لبناء منزل عليها في رافات،  بعد أن حصلت على ترخيص للبناء.  ما أن شُيد الطابق الأرضي قبل عدة سنوات حتى جاءها إخطار من سلطات الاحتلال حول نيتها هدم المنزل بدعوى أنه يقع ضمن منطقة عسكرية مغلقة،  العائلة رفعت دعوى في المحكمة الاسرائيلية العليا وتمكنت من كسبها،  ولكن بعد أن دفعت 18 ألف دولار كأتعاب للمحامي.

 بعد الانتهاء من بناء الطابق الثاني جاءها إخطار آخر من قبل سلطات الاحتلال،  هذه المرة قوات الاحتلال تريد أن تستولي على البيت بحجة أنه غير مسكون.  فما كان من عائلة أم مهند والعائلة التي لم تنجز الحدود الدنيا المطلوبة للسكن إلا وقامت في احدى الليالي بترحيل كافة الأثاث من البيت المأجور الى البيت الجديد،  تفاجأ الضابط الاحتلالي صباح اليوم التالي بما حدث بين عشية وفجر،  رفعت دعوى في المحكمة الاسرائيلية العليا وكسبتها العائلة للمرة الثانية بعد أن كلفها ذلك آلاف الدولارات كاتعاب للمحامين.

 تقول أم مهند أن العائلة اليوم "تناطح الجدار" حيث جاءها إخطار ثالث في العام 2003،  منحت سلطات الاحتلال بموجبه العائلة 48 ساعة لاخلاء المنزل بهدف هدمه،  رفضت العائلة الاستجابة،  ولجأت مرة ثالثة الى المحكمة الاسرائيلية العليا،  والقضية أصبحت محل مماطلة،  والمحامون يأخذون أتعاباً تفوق قدرة العائلة بكثير ولا أحد يلتفت الى معاناتها،  لا مؤسسات حقوقية ولا إعلامية ولا رسمية. .  "والله لم يلتفت الينا احد غير الله" قالت أم مهند،  وأضافت "نحن لن نتوسل من أي كان،  أنا وأبنائي وزوجي نعمل ليل نهار فقط من أجل دفع أتعاب المحامين،  لم نستطع دفع فواتير الهاتف ولا الكهرباء ولا الماء،  ومع ذلك نرفع رأسنا عالياً وسنبقى هنا وسنموت فوق أرضنا حتى وإن هدموا البيت فوق رؤوسنا".

 


المركز الفلسطيني للإعلام