بيت جبرين بلدة الألف كهف
قرية بيت جبرين، إحدى أبرز القرى التي دمّرت عام النكبة، وتعني إلى علماء الآثار إحدى المواقع الأثرية والتاريخية المهمة في فلسطين، واحتفظت البلدة باسمها الكنعاني الذي يعني “بيت الرجال الأقوياء”، وتقع قرية بيت جبرين، في الهضاب الفلسطينية المنخفضة، إلى الشمال الغربي من مدينة الخليل، في موقع إستراتيجي، على الطرق القديمة المؤدية إلى القدس وبيت لحم والبحر المتوسط، وشهدت انتعاشًا في عهد الاسكندر المقدوني، وتحوّلت إلى ما يشبه الدويلة المستقلة، وكانت من بين ما عُرف بتحالف المدن العشر، والتي ضمّت بالإضافة إلى بيت جبرين، مدنًا أخرى مثل جرش، وعكا، وفيلادلفيا عمّان الحالية، وبيسان، ونابلس، ومنذ أن أصبحت تحت السيطرة الإسرائيلية فإن المعاول لم تتوقف عن الحفر فيها، وأهم ما كشف عنه نحو 1000 كهف اعتبرت من الكهوف النادرة والتي تعود لعصور قديمة ومختلفة ويحيط بها آلاف أخرى من الكهوف قد تصل إلى 30 ألف كهف، وأطلق على هذه الكهوف وصف المغر الجرسية، لأنها بنيت بطريقة تشبه شكل الجرس، ولكل منها فتحة من الأعلى، ثم تتوسّع مع النزول إلى الأسفل، حتى تتشكل الكهوف مثل الأجراس تمامًا.
وتضم هذه الكهوف المحفورة في الصخور، قاعات، وممرات، وغرفا، وصهاريج، ومقابر، ومخابئ، وبعضها يشكّل سلسلة من الكهوف وكأنها متاهات متصلة بعضها ببعض عبر ممرات، وبسبب موقعها الإستراتيجي ودورها السياسي، هدمها الفرس عام 40 ق.م، وأُعيد بناؤها لاحقاً، ومن أبرز معالم بيت جبرين الآن، إحدى أهم الكهوف “المغر” المحفورة في الصخر، والتي لا يوجد مثيل لها في فلسطين، وتعود إلى الحقبة الهيلينية “اليونانية”، أي القرنين الثاني والثالث قبل الميلاد.
وتم تعريف هذه المغارة، باعتبارها مقبرة، تحوي بالإضافة إلى أماكن الدفن المحفورة في الصخر، رسومات تعطي فكرة مهمة عن تقاليد الدفن خلال الحقبة اليونانية في فلسطين، وهي المغارة الوحيدة المكتشفة في فلسطين التي تحوي مثل هذه الرسوم الفنية المبهرة، التي تتضمّن حيوانات وأدوات موسيقية وأشخاصًا.
ويُعتقد بأن هذه المغارة، كانت مقبرة لعائلة شخص يدعى ابولوفانيس ابن سيميوس، الذي كان حاكمًا محليًا لمدة 33 عامًا، وتوفي عن عمر 74 عامًا، كما تشير كتابة باليونانية وجدت في المكان، وكان ابولوفانيس، زعيمًا لبلدة مريشة، وهي التلة التي توجد فيها المقبرة، وكلمة مريشة كنعانية تعني القمة، ويُطلق عليها أهالي بيت جبرين اسم “تل صندحنة”، وسبب ذلك يعود لوجود كنيسة من العهد البيزنطي في المكان باسم القديسة حنة، وهذه المغارة عبارة عن مدفن مستطيل حفر كاملاً في الصخر، يحتوي على قاعة، على جانبيها حفرت قبور متجاورة، تعلوها رسومات لحيوانات، ولأشخاص، ومناظر تعبيرية، وفي صدر القاعة يوجد ما يُعرف باسم السرير، وهو عبارة عن مصطبة حجرية يرتقى إليها بعدة درجات، ويبدو أن التقاليد المتعلقة بالموت كانت تقام عليها، ومازال يمكن رؤية آثار الأزاميل التي تم بها الصخر، قبل 2300 عام، واضحة، وكأن العمّال أنهوا عملهم للتو.
ومن بين الرسوم الحيوانية يمكن تمييز بعض الأنواع مثل الأسود، والزرافة، وحيوانات صورت وهي تتناول فرائسها، وغزلان، وفيل، واسماك، وغيرها، ويُعتقد بأن للرسوم الحيوانية في هذه المقبرة، وظيفة رمزية، فمثلا الغربان رُسمت لتخويف الشياطين، أما الكلب الأسطوري ذو الرؤوس الثلاثة الذي يُطلق عليه اسم “سيربيروس”، فيقوم بمهمة حراسة المدخل، وما زال في وقفته هذه منذ تم رسمه في مدخل المدفن.
وبالنسبة إلى رسم النسر المطل على القبور، فهر طائر الفينيق، الذي يولد من جديد، من بين الرماد، وهو جزء من طقوس ترمز إلى النار والحياة، وتمثل الحياة بعد الموت، ويوجد داخل هذه المقبرة كهف صغير يضم قبورًا أخرى، يُطلق عليه كهف الموسيقيين، لوجود رسم لرجل ينفخ في الناي وامرأة تعزف على القيثارة، ويُعتقد أن هذا الرسم، وضع لمرافقة الموسيقى العذبة للميت في طريقه إلى العالم الآخر، وأن ذلك جزء من تقاليد الدفن في تلك الفترة.
وتثير رسوم الحيوانات في هذه المقبرة تساؤلات الباحثين، عن المصدر الذي أوحى بها للفنان الهيليني، خصوصًا وأن بعضها لم يعش في الأراضي الفلسطينية، مثل الفيل مثلا، ويعتقد بعضهم أن ذلك الفنان القديم ربما رأى بعضها في حديقة للحيوانات في مدينة الإسكندرية المصرية التي بنيت في عهد اليونانيون.
وتم ضم كهوف قرية بيت جبرين إلى قائمة التراث العالمي، في مطلع الأسبوع الماضي ووصفت اليونسكو الموقع باسم “مجموعة مختارة من الكهوف من صنع الإنسان” وهي مستخرجة من طبقة سميكة ومتجانسة من الطباشير اللينة، وتتضمّن غرف وشبكات ذات وظائف متنوعة، وتقع تحت مدينتين قديمتين تعرف بـ التوأم هي بيت جبرين وماريشا التي تشهد على تعاقب فترات تاريخية من الحفر والاستخدام تمتد أكثر من 2000 سنة، وترجع إلى العصر الحديدي لتمتد إلى الحروب الصليبية، وسط الإشارة إلى أن الفترة البيزنطية أنعشت بيت جبرين وجعلت منها مركزًا مهمًا للمسيحية يزخر بعدد من الكنائس، وتشتمل المنطقة حسب اليونسكو على مجموعة كبيرة ومتنوعة من أساليب البناء تحت الأرض ما دعا التنظيم العالمي إلى وصف هذه الكهوف على أنها “نموذج مصغر لأرض الكهوف.”