بخطى طليقة.. عن تجربة بيت ليد
في موقع يقع شمال يافا تل أبيب، وجنوب حيفا، على الطريق بين طولكرم ونتانيا المقامة على أراضي قرية أم خالد، داخل ما سيعرف بالخط الأخضر، في منطقة تتواجد فيها قرية فلسطينية يطلق عليها اسم "بيت ليد" أقام الضابط العراقي ورئيس بلاده لاحقًا عبد الكريم قاسم في عام 1948 مقر القوات العراقية القادمة لمواجهة الحركة الصهيونية وإنقاذ فلسطين من السقوط.
في هذا المكان التاريخي والذي احتضن القوات العربية المؤازرة لشعب فلسطين في مواجهة الحركة الصهيونية افتتحت اسرائيل واحدًا من أكثر سجونها قمعًا ووحشية هو سجن بيت ليد أو كما يعرف بالعبرية (كفار يونا).
يؤرخ سجن بيت ليد لمراحل مهمة ومتعددة في تجربة الأسرى الفلسطينيين ما بين افتتاحه لأول مرة بشكل رسمي في عام 1968، وإغلاقه بقرار محكمة إسرائيلية في عام 1976 ومن ثم إعادة افتتاحه في عام 1986 بحيث تتصف كل واحدة من هذه المراحل بمزايا خاصة، أضافت الكثير لتجربة الأسرى المعيشية المشتركة، وكذلك النضالية وتحديدًا النضال القانوني الذي توُّج بإغلاق السجن لرداءة شروط الحياة فيه، كما تعددت أشكال النضال والإضراب حيث شهد هذا السجن أول إضراب جزئي عن الطعام أطلق عليه اسم "إضراب البسكويت".
في بداية تأسيسه، كان السجن يستخدم كمحطة انتقالية مؤقتة تفصل بين مرحلة التحقيق التي يخضع لها الأسير لدى جهاز الأمن "الإسرائيلي" العام- "الشاباك"- ومرحلة الانتقال إلى السجن لقضاء فترة الاعتقال التي حكم عليه بها وسط المعتقلين الآخرين.
كان الأسرى يطلقون على السجن لقب "المنفى" أو "زنزانة التأديب" لرداءة الحياة بداخله، وصغر زنازينه والاكتظاظ الذي كان يعانيه الأسرى مع رطوبة شديدة لا تطاق، وإجراءات قمعية يومية وسوء تغذية.
ارتبطت ذكريات سجن "بيت ليد" باسم واحد من أهم القامات النضالية داخل السجون في تلك الفترة وهو عبد العزيز شاهين- أبو علي شاهين، الذي كان من أوائل الأسرى القادة الذين تم نفيهم إلى هذا السجن بعد أن تعاظم دور بعض القيادات، لتصبح سياسة العزل والتشتيت والنفي إلى السجون البعيدة والقاسية منهجًا معتمدًا لدى مديرية السجون التي سبق لها أن نفت عمر القاسم إلى سجن الرملة وسط البلاد.
أدرك أبو علي شاهين وزملاؤه الأسرى أن الحياة داخل هذا السجن تكاد تكون مستحيلة، وأن أي تحسينات يمكن انتزاعها لن تكون كفيلة ولا كافية لجعله قابلا للحياة، لذا وبعد أن خاضوا عدة خطوات احتجاجية، اهتدوا إلى فكرة خوض نضال قانوني لأول مرة وأن يكون مطلبهم الأساسي هو إغلاق السجن بشكل نهائي.
في منتصف السبعينيات كان الأسرى قد اكتسبوا إلى جانب الخبرة والقدرة على تنظيم أنفسهم ذاتيا، الثقة بالنفس، وعدم التردد في سبر أغوار أي تجربة جديدة والاستفادة من كل ما يحيط بهم، وهذا بالذات هو ما شجعهم على الاقتداء بتجربة الأسرى الجنائيين في التوجه إلى القضاء وإلى المحكمة العليا تحديدًا والتقدم بالتماس يطالب بإغلاق السجن كونه يتنافى حتى مع المعايير التي أقرتها دولة الاحتلال لسجنائها الجنائيين، وهي تجربة أثمرت في عام 1976 عن قرار يقضي بضرورة إخلاء السجن من الأسرى وإغلاقه، ليسدل الستار بعد هذا القرار السابق على فصل من فصول تجربة الحركة الأسيرة.
عززت تجربة بيت ليد دور القائد في توجيه وقيادة المجموعة، وخاصة عندما تجد هذه المجموعة نفسها في معزل عن محيطها وفي حالة عزلة كاملة، كما أنه فتح آفاقًا جديدة في النضال القانوني الذي لا يتصادم فيه الأسرى مع إدارة السجن بل مع المنظومة الأمنية وأجهزة الدولة البيروقراطية.
عودة الأسرى إلى سجن عسقلان ومن ثم انتشارهم في بقية السجون التي بدأت تفتح تباعًا انطلاقًا من بئر السبع ومن ثم نفحة الصحراوي، ليتبعه سجن نابلس وسجن الجنيد في الضفة المحتلة وغيرها من السجون، كان كفيلًا بتحويل التجارب الشخصية إلى وعي ونمط حياة جماعي ومؤسس، ما ساهم في تحويل الحركة الأسيرة إلى حركة منظمة ومنضبطة الإيقاع والحركة والوعي.
عندما أعيد افتتاح السجن بعد عشر سنوات على إغلاقه لم تكن ظروفه قد تغيرت كثيرًا، ولكن الأسرى كان قد قطعوا شوطًا واسعًا في عملية تنظيمهم الذاتي وتمرسوا في النضال وتحولوا إلى جيش حقيقي خاض معارك كبيرة وإضرابات طويلة وسجل في رصيده عشرات الإنجازات التي ساهمت ليس في تحسين مستوى الحياة فحسب، بل وفي بلورتهم وتكريس قيادات لعبت دورا محوريا في هذه المعارك.
حاولت إدارة السجون عند إعادة افتتاح السجن أن تعيد الأسرى إلى المربع الأول، وأن تفرض عليهم شروط حياة لا ترتقي إلى تلك التي انتزعوها في السجون التي قدموا منها، بدأ ذلك منذ أول لحظة، إذ قامت الإدارة بتوزيع ملابس موحدة وبالية على الأسرى، وألزمتهم بارتدائها عند خروجهم إلى ساحة السجن، وتقييد حركتهم وإرغامهم على التأهب والتجهز والاستيقاظ باكرًا مع تنظيف أسرتهم لاستقبال مجيء السجان لإجراء عملية "العدّ الصباحي" وهو ما أعاد إلى أذهانهم السنوات الأولى المرة للاعتقال، وهي التجربة التي دفعوا ثمنًا باهظات من عذاباتهم وحياة بعض أفرادهم من أجل الخلاص منها ومن أجل تحسين ظروف اعتقالهم.
رد الفعل الأولي كان بإعلان الأسرى، وعددهم يناهز 200 أسير، الإضراب عن الطعام وعدم الخروج إلى ساحة السجن، وقد جاءت الخطوة الثانية من أجل عدم تمرير قرار إدارة السجن بفرض الزي الموحد في الساحة.
ردة الفعل السريعة والمتشددة من قبل الأسرى واجهته إدارة السجن بعدم المبالاة وتجاهلهم، ليدرك الأسرى بعد اليوم الثالث أنهم تسرعوا ولم يعدّوا لهذه الخطوة بشكل جيد، وهو ما يمكن اعتباره الثمرة الإيجابية من هذه الخطوة إذ دفعتهم حالة الجمود وتصلب إدارة السجن إلى تشكيل لجنة وطنية عامة لقيادة خطواتهم الاحتجاجية، وهي اللجنة التي كان أول قراراتها وقف الإضراب عن الطعام.
أوقفت اللجنة الوطنية الإضراب بمنتهى الشجاعة عندما أدركت أن الوضع في غير صالحها، وأن القاعدة الاعتقالية غير مهيأة لخوض خطوة استراتيجية، وهنا، وربما من رحم هذه التجربة التي اعتبرت فاشلة، ولد تكتيك الخطوات الاحتجاجية وإرجاع وجبات طعام محددة، وتخويل ممثل واحد عن الأسرى اتخاذ خطوات "تكتيكية" مثل إرجاع وجبة واحدة أو إغلاق ساحة السجن أو أي خطوة شبيهة يراها ضرورية في تلك اللحظة.
إن المرونة والقدرة على الاستدارة والمناورة من الصفات التي تعكس حالة نضج كبيرة ومستوى عاليا من الضبط والانضباط، واستيعابا حقيقيا ليس لواقع الأسير وظروفه الداخلية فقط، بل ظروف وتركيبة عدوه السجان ومن يقف وراءه أيضًا، وهي صفات تكرست في تجربة بيت ليد التي امتدت بعد ذلك وأوجدت تجربتين مهمتين إضافيتين (سنوثق لهما في الحلقتين القادمتين) وهما الإضراب المتقطع، او إضراب البسكويت، وأيضًا "غرف العار" وتجربة مواجهة العملاء وأساليبهم بعد أن نظمتهم إدارة السجون وأجهزة أمن الاحتلال في غرف وأقسام خاصة بهم ووضعتهم تحت خدمتها في مواجهة زملائهم وأبناء جلدتهم الأسرى.
*أسير مُحرّر وروائي فلسطيني. هذا النصّ فصل آخر من محاولة كتابة سيرة اجتماعية ـ ثقافية لتجربة الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال "الإسرائيلي".
موقع ضفة ثالثة 22/11/2022