يوم من عام 1948 .... 24 نيسان ونكبة بلد الشيخ وياجور

يوم من عام 1948 .... 24 نيسان ونكبة بلد الشيخ وياجور

يوم من عام 1948 ....  24 نيسان ونكبة بلد الشيخ وياجور  | موسوعة القرى الفلسطينية

بقلم: أ. رشا السهلي/ دمشق

عادةً ما ارتبط شهر نيسان في ذاكرتنا نحن الفلسطينيين بمشاهد سقوط واحتلال القرى والمدن المهمة في فلسطين، بدءاً من مجزرة دير ياسين مروراً بمعركة القسطل واستشهاد الأمير عبد القادر الحسيني، وصولاً لسقوط مدينة طبرية، ومن ثم مدينة حيفا التي سقطت يوم الثاني والعشرين من الشهر المذكور.

كانت حيفا بالنسبة لأبناء تلك القرى والبلدات التابعة لها مركز الثقل وربما كانوا يعتقدون أن "الجيوش" العربية لن تدع حيفا تسقط بيد العصابات الصهيونية، ولكنْ سقطت حيفا، وفي الأيام القليلة التي تلتها سقط عدد كبير من قراها وقرى المدن القريبة عليها، فيما كانت "الجيوش" العربية تنتظر بكل سذاجة يوم الخامس عشر من أيار حتى تبدأ الحرب، أو حتى ترسل للفلسطينيين دعماً عسكرياً يواجهون به الخطر الصهيوني المتقدم ساعة بساعة.

استعدادات أهالي بلد الشيخ وياجور للحرب

كانت قريتي بلد الشيخ و ياجور على مسافةٍ قريبةٍ بين 5 إلى 7 كم من مركز مدينة حيفا، وكان أبناء هاتين القريتين منذ مطلع العام 1948 وعقب مذبحة الريفاينري نهار 31-12-1947، ومن ثم مجزرة بلد الشيخ وحواسة فجر 1-1-1948، قد بدؤوا بإمكانياتهم المادية البسيطة يقصدون دمشق بين الحين والآخر لشراء بعض البنادق والذخائر، ويذكر كبار السن أن بعضهم كان يقوم بييع مصاغ زوجته وأحياناً أثاث منزله لشراء بندقية عثمانية قديمة بسعر باهظ الثمن، ومنهم من اشترى بعض الأسلحة الألمانية من مخلفات الحرب العالمية أيضاً.

وذكر الحاج "محمود فوزي السهلي" والحاج "يونس السهلي" رحمهما الله أن أبناء بلد الشيخ منذ وقوع المجزرة أعلنوا النفير والاستعداد لأي هجوم صهيوني مباغت، وبالفعل تشكلت دوريات حراسة للقرية من خيرة شبابها ورجالها من جهاتها الأربعة بإمكانيتهم وأسحلتهم المتواضعة، لم يكن الجميع يمتلك السلاح لذا كان كل شخص يمتلك سلاحاً يسلمه لآخر عندما تبدأ فترة مناوبته في الحراسة.

استمر وضع بلد الشيخ على هذا الحال طوال فترة الأربع أشهر اللاحقة، كان أبناء القرية برجالها ونساءها يترقبون خطر اندلاع الحرب، ويشاهدون بأم أعينهم التعزيزات العسكرية التي بات صهاينة مستعمرتي "نيشر" و"يجور" يتلقونها من الجيش البريطاني، بالمقابل لم يصل لياجور وبلد الشيخ أي قيادي عربي  لطمأنتهم، ولا حتى رصاصة واحدة كدعم لأبناء هذه القرى، وقد سمع أبناء القريتين عبر محطات الراديو أن الجيوش العربية تستعد للحرب مع الصهاينة يوم الـ 15 من أيار/ مايو القادم.

اقتراب موعد الحرب وسقوط حيفا


مع احتدام المعارك والهجمات الصهيونية على مختلف أحياء مدينة حيفا، بدأ سكان تجمع حواسة الواقع غربي بلد الشيخ بالعودة إلى مدنهم وبلدانهم الأصلية في فلسطين وسورية ولبنان والعراق حتى خلا الحي بشكل تدريجي من سكانه.

أما عن بلد الشيخ وياجور فقد ارتأى بعض وجهائها ورجالها أن يخرجوا النساء والأطفال من القريتين بشكل مؤقت ريثما تتدخل الجيوش العربية وتنقذ موقف الفلسطينيين الحرج أمام كل ذلك التفوق والدعم العسكري الذي تلقاه الصهاينة، خصوصاً عقب ما سمعوه عن فظائع الصهاينة في دير ياسين، ناهيك عن مذبحة رأس السنة التي وقعت في بلد الشيخ لذا كان أبناء القرية على معرفة مباشرة بحجم وحشية العصابات الصهيونية هذه.

استطاع أبناء بلد الشيخ وياجور ترحيل النساء والأطفال وبعض الشيوخ من القرية نحو الناصرة وجنين، وبقي في القريتين عدة عائلات ومجموعة من الرجال والشبان المدافعين عن هذه القرى.

لم تمضِ سوى أيام قليلة حتى حُصِرَت بلد الشيخ وياجور من جميع الجهات في ظل هجوم صهيوني كبير على مدينة حيفا، وبحلول الساعة 10 صبيحة يوم الثاني والعشرين من نيسان/ أبريل 1948 سقطت حيفا، وكان سقوطها إيذاناً ببدء الحرب فعلياً.

رسالة تهديد من قادة الهاغاناه إلى أبناء ياجور وبلد الشيخ

لم يبقَ أمام أبناء ياجور وبلد الشيخ سوى المقاومة بما لديهم من سلاح فردي متواضع، وفي اليوم التالي أي يوم الثالث والعشرين من نيسان، أرسل قادة الهاغاناه مع مختار مستعمرة نيشر المجاورة رسالة تهديد لرجال بلد الشيخ وياجور، ملخصها أن عليهم تسليم 146 بندقية خلال الـ 24 ساعة القادمة وأن يغادروا قراهم فوراً وإلا سيتم قصف القريتين بالمدافع والطيران، لم يكن في القريتين أساساً هذا العدد من البنادق وربما العدد الفعلي لايتجاوز الـ 100 بندقية في القريتين، تم تسليم 13 بندقية فقط، وكان ردهم "سنبقى في قرانا حتى آخر رصاصة معنا". وبالفعل هذا ماحدث، قاوم رجال القريتين حتى نفذت ذخائرهم، وبدأ جنود الهاغاناه بعدها بالتقدم برياً نحو بلد الشيخ وياجور ترافق مع قصف مدفعي دمر معظم منازل القرييتن، أما رجال القريتين تمكنوا من العبور والتسلل نحو جبل الكرمل وصولاً إلى أراضي الناصرة وجنين.

بقي أبناء بلد الشيخ وياجور كما حال باقي الفلسطينيين بانتظار دخول الجيوش العربية الحرب وإنقاذ الموقف واستعادة ما احتله الصهاينة من مدنِ وقرى آنذاك ولكن كانت الخسائر أضعاف خسارة مدينتي طبرية وحيفا، وجلبت الأشهر التي تلت نيسان خسائر أكبر وهزيمة مدوِيَّة طالت مدن صفد وعكا ويافا والناصرة وبيسان والرملة وبئر السبع بجميع قراها وبلداتها.

لجوء وراثي متكرر

وصل أبناء بلد الشيخ وياجور حالهم حال باقي الفلسطينيين إلى مخيمات لبنان ومنهم من انتقل إلى سورية والأردن لاحقاً وبمرور السنوات ومعاصرتهم الأحداث السياسية والعسكرية في دول الشتات شهدوا نكبات أخرى شتتهم مرةً أخرى إلى دول المغرب العربي ومصر والخليج العربي وأوروبا والأمريكيتين.

أما عن أراضيهم فقد أسست سلطات الاحتلال على أراضي بلد الشيخ مستعمرة أسمتها "تل حنان"، كما وسع الصهاينة مستعمرة نيشر التي بنوها عام 1925 على أراضٍ سرقوها من بلد الشيخ وحي حوَّاسة، وتوسعت مستعمرة "يجور" التي بنيت على أراضٍ سُلِبَت من قرية ياجور ويقيم على أراضي ياجور وبلد الشيخ اليوم أحفاد الصهاينة الذين هاجروا من دول أوروبا الشرقية: بولندا، النمسا والتشيك وغيرهما.

كانت هذه أحداث يوم واحد من أيام عام 1948، وما حمله ذاك اليوم من قهر وألم امتد لـ 77 عاماً وانتقل بشكل وراثي عبر ثلاث وأربع أجيال من أبناء بلد الشيخ وياجور.