خارطة المدن الفلسطينية
اشترك بالقائمة البريدية
معلومات عامة عن قرية دير رافات / واد الصرار
روايات أهل القرية - دير رافات / واد الصرار - قضاء القدس
رواية الدكتور ياسين عايش خليل
حين خرج اهلونا بنا من قريتنا رافات / او دير رافات / عام 1948 كان عددنا خمسة الوالد والوالدة وعبد الكريم / بكر والدي / وأنا ثم عيد الذي ظل فيما علمت من بعد انه كان طوال ايام الهروب والاختباء محمولا على عنق عبد الكريم لا يكاد يفارق عنقه إلا في لحظات الرضاعة وكانت الوالدة والوالد يتبادلان في جرجرتي مع ما يحملان من أمتعة وزاد قليلين....رحلة قيل لنا انها شاقة جدا مصحوبة بمخاوف القتل من اليهود الذين كانوا يتعقبوننا
...ولا أكاد اذكر شيئا من تلك المشقات فلم أكن قد بلغت الأربع او الخمس سنين من عمري غير السعيد...وغاية ما أذكره ان نساء العيلة واطفالها جميعا زج بهم ذات ليلة في كهف كبير وتولت إحدى النسوة وكانت شخصيتها قوية دور كاتم صوت وكاتم كح حتى لا يفطن اليهود الذين يتعقبوننا إلى وجودنا في ذلك الكهف...أذكر ذلك لأنني كححت فقالت لي : سطح وفجر اللي يسطح كرشك...وكانت هذه العبارة سببا لكراهيتي الشديدة لتلك المرأة في قابل ايام عمري !!
نزل بنا الوالدان في أماكن عدة لا اذكر اسماءها حتى استقررنا في كهف كبير علمت فيما بعد انه من أراضي قرية ارطاس في منطقة بيت لحم وقد اختاروا ذلك المكان لأن في ارطاس مسايل مياه منها كانوا يجلبون لنا الماء الذي منه نشرب وقد يجود عليهم أصحاب بساتين تلك القرية ببعض الخضراوات ...أما الخبز فكان شبه معدوم...وقد ألجأ الجوع والدي ذات يوم الى مغامرة قام بها هو ورفيق أعرابي له ؛ إذا عثرا على خمار هائم على وجهه وقررا ان يعودا ذات ليلة الى قريتنا ليستحضرا طحينا ودجاجا وسمنا وحماما....وبعض الأثاث والملابس ريثما تهدأ الأحوال ونعود جميعا إلى منازلنا.....هكذا كانوا يقولون لنا حين كبرنا .
خرج الصديقان أبي والاعرابي ليلا وكنا نؤمل ان يعودا بخير كثير فمعهما حمار قبرصي يحمل كالبغل وفي صبيحة تلك الليلة دخل والدي المغارة وحيدا لا اعرابي معه ولا حمار ولا شيء مما املنا ان ياتيشنا به من طعام او كساء غير صرة حقيرة ...كان الحزن يلفه وجلس يقص على والدتي قصته ، قال : اكتشفنا اليهود وسلطوا نيران أسلحتهم نحونا فقتل الاعرابي وأصيب الحمار في قوائمه قبل أن نصل القرية ولولا اختبائي بين عرانيس الذرة لقتلت ايضا، وفي أثناء ا ختبائي كنت اسمعهم يتراطنون ، كما سمعت أنين امرأة ، وحين ابتعدوا عني قليلا زحفت صوب المرأة التي كانت تئن ، وكانت مصابة إصابات عميقة ولا تقوى على الحركة ، ولم يكن بوسعي أن اساعدها ، فتركتها وأنا حزين ، ثم سألته والدتي : ما هذا الذي في الصرة؟ فقال : شوية طحين مبرد لقيتهم باقي خابية في قرية....؟؟- مما لا أتذكره. ..سارعت والدتي لأخذ الصرة من يده ، وأقبلت تعجن حبة الطحين هذه ثم تركت العجين وقامت تبحث عن أعواد حطب جاف أشعلت بها النار ثم جعلت العجين اقراصا ووضعتها في النار وما تغير منه اللون فهو ماكول - على ما كان يخالط قتر الخبز من رائحة عفن نفاذة كادت امعاؤنا - على جو عنا الشديد - تتقيؤه ...وما زالت سواة ذلك الخبز في فمي إلى اليوم وأنا ابن السبعين وأكثر !!!
انتقلنا من ذلك الكهف اذ أكلنا الدلم - والدلم دويبة تعيش في الأماكن المعتمة والرطبة ، وقد وجدت هذه الدويبة في أجسامنا على بؤسنا مادة تتغذى بها وهي تحدث في الأجسام حكة شديدة مؤلمة - إلى كهف واسع رحيب سكن معنا فيه خالي ابو عدنان وأسرته وأبو يونس الخراسي وأسرته وأمه الضريرة التي كانت تعرف بالخراسية وقد عمرت وظلت مع ابنها الذي كان بارا بها سنوات طوالا ولا نعرفها إلا بالخراسية .كما جاورنا في ذلك الكهف أسرة زنجية الأصول كانت من سكان قرية رافات أيضا وتعرف بأسرة ابو شريط....اتخذت كل أسرة من هذه الأسر الاربع حيزا كانوا يسمونه مقطاعا تنام فيه على أكوام من شجرة برية ذات اشواك تجلب وهي خضراء لم تصلب اشواكها بعد وتسمى هذه الشجرة البلان في لغة شرق الاردن ، والنتش في لغة اهل رافات ، وتبسط فوقها قطع من الخيش او الحصير وعليها ننام متلاصقين حتى يدفئ أحدنا الآخر ...وكان لهذا النتش استعمالات أخري فهو حين يجف يتخذ للطهي والدفء والتخلص من البراغيث ، ومن حسن حظ الفلسطينيين ان طبيعة ارضهم ملاى به ...ولو ان الأمر بيدي لجعلته رمزا من رموز فلسطين الوطنية ، لأنه صديق أسر الكادحين وطعام دوابهم أيضا. ...أما باب تلك المغارة الضخمة التي غدت مساكن لأربع أسر فكان يوضع عليه جذع شجرة ضخمة ليحمي السكان من خطر الوحوش ومن خطر الجن والأرواح الشريرة التي كانت أمهاتنا يرعبننا بها...ومن سوء الطالع فلم تنجح تلك الغرفة من منع الضبع من دخول مقصوراتنا ....كان ذلك في شتاء قارس هطلت فيه الثلوج بكميات ضخمة حتى سميت تلك السنة بسنة الثلجة الكبيرة وغدت تاريخا يؤرخ بها فيقال ولد فلان سنة الثلجة وتوفي فلان سنة الثلجة وكانت هي سنة1950 ، ويبدو أن الضبع حاولت أن تجد لها ماوى من شدة البرد فدخلت المغارة فاحس بها الخراسي فهو الأقرب إلى جهة الباب فاشعل سراجه فرأى الضبع تشمشم فصرخ بصوت منهدج عال : الظبع الظبع رحنا يا زلام، فاستيقظ والدي وخالي وأبو شريط - بالياءالمشددة - وصرخنا نحن الأطفال والأمهات وكان عددنا يقارب العشرين ، فهربت الضبع وخرجنا من المغارة حفاة اشباه عراة ننظر ونحن بين خوف ورغبة في مشاهدة هذا الكائن الوحشي المرعب الملاى اخيلتنا بتصورات عنه تجمع بين الحقيقة والوهم حتى غدا هذا الحيوان خرافي الصورة بقدرات خارقة ونسجت عن وحشيته قصص فنتازية ، ولم نلبث طويلا خارج المغارة اذ الزمتنا امهاتنا على العودة إلى فرشنا قبل ان ياتينا الجني ابو رجل مسلوخة فيتخطفنا ...
وللضبع في ذاكرتي صور مرعبة فقد كان اباؤنا في الاماسي التي نسهر فيها على ضوء سراح حقير لا يكاد ينير شيئا من وجوه من حولك فلا ترى إلا ملامح باهتة من وجوه كالحة قد اباسها الزمان الغشوم يقصون علينا قصص اعتراض الضبع لهم في اسفارهم الليلية بين قريتنا والقرى القريبة منها كديرابان واشوع وسجد وبيت محسير واللطرون ودير محيسن وخلدا ورأس ابو عمار وبيت نتيف وكفرورية والبريج وبيت اعطاب. ..فقد اعترض مسير أبي ذات ليلة ضبع ضخمة مرت في اثنائها ملامسة اياه ثم كررت ملامستها له ثانية لكي تضبعه - فقدان الوعي فيغدو المضبوع يركض خلف الضبع ويصبح : وقف لي يا يا ... إلى أن تنتهي به إلى موكرتها- بنطق الكاف الفلسطينية والموكرة هي الوكر - فتاكله فيها ، غير ان نباهة يوسف عايش افقدت الضبع صيدها الثمين ، إذ لما انطلقت بعد الملامسة الثانية اياه رشقته ببولها فادرك ان الأمر جد وأن الخطر اشتد فرقي شجرة عالية وحينها عادت الضبع إليه وظلت تحوم حول ساق الشجرة وتصرخ وتضرط ويوسف عايش فوق الشجرة يدخن سجائره الهيشي حتى ادبر الليل وحل الصباح وبزغت الشمس ... وأما غباش صاحب الروايات الطريفة فمما ذكره ان قافلة من المسافرين ليلا التقتهم ضبع شرسة بالت على ذيلها ورشقت به أحد رجال تلك القافلة فأخذ الرجل يصرخ مناديا الضبع : يابا يابا وقف لي والرجال ينادون : ولك هاظ الظبع مش أبوك. ولكنه لم يستجب بل ظل يركض خلف أبيه الضبع وفي الصباح وجدوا بقايا ملابسه ملطخة بالدم ، وأخذوا يتلاومنون : ان ليس فيهم رجل رشيد يعيد للمضبوع وعيه بضربه بحجر في رأسه حتي يسيل دمه لأنه إذا سأل الدم - على ما يعتقدون- فقد اتفرج الهم.
وأما حكاياتهم عن الأشباح والمارد والعلاج وأبو رجل مسلوخة والجن والعفاريت فلا تكاد تنتهي فقد كان فلان مسافرا ذات ليلة على ظهر حمار وإذا بالحمار يتوقف فجأة وعبثا حاول راكبه ان يحثه على المسير فحاول أن يتبين السبب ففوجئ بمخلوق قد تدلت قدماه إلى الأرض ورأسه في السماء يركب خلفه وهو الذي ثبت الحمار في الأرض ومنعه من المشي...او ان جديا اسود ظهر أمامهم وهو يثغو وكلما حاولوا الامساك به توارى عن الأنظار يكرر معهم هذا المشهد ليلة كاملة ودون أن يتمكنوا منه ابدا ....او يسمعون أصوات نساء يزغردن ويرقصن في كهف ليالي الخميس وكلما حاول الشجعان منهم تبين حقيقة ما يسمعون انقطعت الاصوات وقد يسمعون أنينا عيقا يتهادى إلى اذانهم من بعض الكهوف المظلمة او من بعض الاماكن الخربة فيفسر لهم اهل الدراية والنباهة والكبراء ان الأنين الذي تسمعون ان هو الا انين قتيل قتل ظلما هنا ولم يؤخذ بثاره فهو لا ينفك يخرج صوته او شبحه يذكر بماساته...وأما اصوات الزفة والمغنيات والمزغردات ومشهد العروس فهو لعروس فجعت في يوم زفافها فهي لا تنفك تظهر للناس متمردة على ظلم وقع عليها...وأما العلاج فهو مخلوق لا يرى ولكن يسمع له صوت يقلد فيه على نحو ما صوت رجل او امرأة ، والراجح عندي انه رجع صدى صوت راع في برية او رجع صدى صوت في بئر معطلة ...كانت هذه الخرافات زاد ثقافتنا في طفولتنا وظلت مخاوفنا مما كنا نسمع ملازمة لنا فبقينا نخاف من الظلام ومن الأماكن المهجورة ومن الكهوف حتى كدنا نبلغ الخامسة عشرة من أعمارنا .وصارت في تلك السن تتداخلنا أسئلة واستفسارات : لم لم نر نحن شيئا مما كان يروى لنا عن الأشباح في تلك الكهوف والمغاور في أثناء دخولنا فيها نفتش عن اعشاش العصافير ؟ ولم لم نسمع انات نساء في تلك الاحقاف والشقوق الكبيرة ؟ وأين ذلك العلاج وذو الرجل المسلوخة؟ وحين كبرنا اكثر كنا نرى السواح رجالا ونساء يأتون إلى الكهوف ينبشون في تربتها ولم نسمع أحدا منهم أصيب بسوء من جني او جنية ، بل كان ذلك مدعاة لشعورنا الدفين بالدونية امام هؤلاء الشقر والشقراوات الذين لا يعرفون الخوف وتولد فينا أيضا احساس غريب بأننا يجب الا نقل عنهم شجاعة ، فالأرض أرضنا والكهوف كهوفنا....وإذن فقصص الوالدين والوالدات اختراعات عقول معدومة الحظ من التعليم والثقافة أسهم فيها الجهل والركون إلى الموروث المعرفي الضحل وانعدام الأمن وانعدام الإنارة الكافية في بيوت لا إنارة فيها غير السرج بفتائلها النحيلة خوفا من زيادة استهلاك الطاقة من الكاز، فتبدو على جدران البيوت لدى حركة النور صور الأجسام والأشياء كأنها أشباح تتراقص...وأما قصص البطولات الموروثة فلس غير قصة الزير سالم وقصة ابو زيد الهلالي التي كنا مشغوفين جدا بسماعها من القاء خالي عصر كل يوم ونحن متحلقون مع الكبار حوله وهو يقرا النثر ويترنم بالاشعار والصمت مطبق الا من صرخة اعجاب يبديها احد الكبار على عبارة وردت من مثل : فضربه على هامه حط راسه قدامه.
وأما قصص الصحابة والبطولات في الإسلام فلم نحظ بشيء منها
كان لأبي أخوان يكبرانه : علي وسعد، وقد نشأ أبي في رعاية علي لأن جدي وجدتي كانا ميتين منذ بلغ الوالد السنتين من عمره ، ويبدو أن والدي لم يعش طفولة سعيدة ولا مستقرة ، عرفت ذلك من عدم انسجامه مع أخيه سعد طوال حياتهما ..والذي كان يحدب علينا ويشفق هو عمي علي ، إذ كان أحسن حالًا وأصغر أسرة ، فلم ينجب غير ولد واحد وبنت واحدة ، وظل طوال عمره المديد يعاود زيارتنا ويجالسنا ، ونألفه لذلك ويألفنا حتى توفاه الله في أواخر السبعينات من القرن العشرين......سكنا في طفولتنا متنقلين بين الكهوف بعد خروجنا من بلدتنا التي احتلها الصهاينة ، فكنا نهرب من كهف أكلنا فيه الدلم ، إلى كهف غزتنا فيه البراغيث ،زادُنا فيها ما كانت تجود به علينا منظمات الصليب الأحمر والأمم المتحدة ، ثم من بعض كسب أبي من عمله في البحث عن الأنتيكا مع عرب التعامرة في تل الفرديس في منطقة بيت لحم ، ولكنّ عمله هذا ،على حسنه ، كان محفوفاً بخطر غدر أقرانه به في العمل ،إذ علم أنه قد يقتل لو أنه وقع على لقيا ثمينة ، وحاول إخفاءها عن أولئك الأقران الذين لا هم لهم غير الكسب السريع ، ببيع ما يعثرون عليه من لقى إلى بعض الكهنة والرهبان في كنائس بيت لحم وأدْيِرتها ، فترك العمل في حقل البحث عن الآثار ليكون حصّاداً في موسم الحصاد مع أمي ، وجدَّاد زيتون في موسم قطاف الزيتون ، وقد اهتدتْ أسرتنا إلى وجبة طعام نادرة ما أظن أن كل المختصين في كل أنحاء الأرض في شؤون الطبخ اهتدوا ،أّو سيهتدون إلى تركيبتها الفريدة وتصنيعها البديع ....أمي هذه المرأة الأمية الساذجة أرادت أن تملأ بطوننا الفارغة بحساء ساخن يخلّصنا من عنت مضغ قطع الخبز الجاف ، فكانت لذلك تاتي برأس بصل كبير ، فتقطِّعه شرائح في طنجرة كبيرة ، وتسكب فوقه قطرات زيت مما كانت تصنعه هي وأبي من زيتون يجنيانه غصبا ً أو أجرة من شجر ا لتلاحمة - أهل بيت لحم - ثم تدلق فوقه مقداراً غير قليل من الماء ،وحين يغلي الماء فوق موقد الحطب ، تضيف إليه كمية مناسبة من الملح ، ثم يصبّ هذا كله فوق قطع الخبز المعدّ في صحن واسع عميق فنسارع ، لتناول هذا المنسف الفريد ،ونحن سعداء وما عرفنا طوال طفولتنا في الكهوف فاكهة غير ما كنا نحصل عليه من حبات تين كنا نسرقها من أشجار التين المنبثة في براري بيت لحم ،وحين كنا نقطف ما نتمكن من قطفه كنا نشكل فريق استطلاع ومراقبة وفريق هجوم سريع ، هدف الفريق الأول التحقق من خلو البستان من الناس ومتابعة رصد المكان من قادم مفاجئ ، وهدف الفريق الثاني الانقضاض السريع على شجر التين....وقد دفعنا مع حرصنا بألّا نقع في قبضة ملّاك تلك البساتين الثمن غالياً مرتين : كانت المرة الأولى حين جاء الناطور وكان اخي عبد الكريم فوق إحدى الأشجار فصرخنا عليه نحن فريق الاستطلاع ليفرّ ، ومن شدة خوفه سقط على الأرض وانكسرت يده اليسرى ، ومع ذلك لم يمكّن الناطور منه ، ففرّ معنا وهو يصرخ .
وكانت الثانية في موقف مشابه وقعت مع ابن بلدتنا صديقنا يونس الخراسي الذي تعلق ثوبه بجذع شجرة التين التي كان فوقها حين عزم على الفرار من الناطور القادم ، وظل حينا من الزمان يصرخ وهو عالق بجذعها متدلٍّ منه ، وحين دنا الناطور منه سقط بقدرة قادرعن الشجرة فُجاءة ً ، وانكسر ساعده أيضا .
وأما الماء الذي كنا نشربه فهو إما مستحضر من آبار تجميع قديمة ، أو من قيعان يتجمع فيها الماء في فصل الشتاء ، وكانت في تلك المياه عوالق كثيرة من البعر والقشِّ والديدان المختلفة الأشكال والأسماء ، وكنا نتخلص من تلك العوالق بوضع قطعة قماش على وجه الإناء ثم يسكب الماء بما فيه فوقه فتظل العوالق الكبيرة فوق قطعة القماش...وهو ماء آسن في معظمه لوناً وطعماً ومحتويات غير مرئية ، وقد دفعْنا الكثير من صحتنا بسببه ، وبخاصة دودة الإسكارس التي لم يسلم أحد من جيلنا من أذاها.
ولا أذكر أننا شربنا ماء نقياً ونحن في الكهوف غير مرة واحدة ، وكانت حين لم يجد أهلونا ماء منه يشربون . وفي ذات صيف.كنا نسكن في بيت قديم مهجور في منطقة تسمى شعشبونا من أراضي بيت لحم ، وكانت تمر بالقرب من بيت الخراسي المسمى قصر الهوا - وهو بيت مبني من الحجارة لعله من مباني الأتراك القدماء أو من مباني التلاحمة الأولين بنوه ليكون لهم دار إقامة في فصل الصيف ، وجعلوا في ساحته الغربية بئر ماء عميقة - ماسورة ماء ضخمة ممتدة من الخضر غرباً ،أو من العَرّوب ،إلى بيت لحم ،وهي التي تغذي المدينة بالماء. فماذا على والدي وأقرانه أن يفعلوا وحالهم كحال العيس في الصحراء يقتلها الظما والماء فوق ظهورها محمول ؟
في والدي سمة مستحبة هي الجراءة التي كان يسميها بعضهم جنوناً ، ولذلك كثيرا ًما كان ينادى بيوسف المجنون ، فقرر أن ياتي بمفتاح مواسير ضخم ليفكّ خطّ المواسير، وكم حاول أقرانه من الجيران : الخراسي أبو يونس وخالي أبو عدنان وعيسى عبد الهادي ، ابن عمّ والدي ، وأبو شريَّط الزنجيّ الأسود الفاحم ...أن يثنوه عن عزمه على فكّ مربط المواسير ، لكنهم ما نجحوا ففك المربط ، فانطلق الماء هادراً مندفعاً في السماء، وتشكل مسيل ماء جارف غمر ساحة قصر الهوا ، ثم تدفّق في البئر، والناس صغارهم وكبارهم ، يقفون مترقبين ومتلهفين بأن تمتلئ البئر قبل أن تدهمهم الشرطة ، و كان والدي يجلس هناك يدخن ، ويعلن عن سعادته الغامرة بما صنع . وحين أوشكت البئر على الامتلاء سارع ليعيد ربط المواسير، وكان كلما حاول ، يقذف به الماء ، أو يقذف بمفتاحه ، والناس في قلق شديد من بطش الشرطة بهم جميعاً لو جاءوا والماء المنهوب لا يزال يتدفق بقوة ، وبعد محاولات كثيرة نجحوا في مسعاهم ،وعلت البسمة وجوههم ، وزال عنهم الخوف، وبقينا نحن تتلذذ بشرب ماء نقي أشهراً عدة .
كان مسكننا في شعشبونا قد قرَّبنا من مخيم الدهيشة ، وكانت بعض النسوة يفضِّلن الذهاب إلى المخيم ليخبزن في الأفران فيه بدل ، أن يظللن ملطوعات أمام الصاج يخبزن خبزهن، وكانت زوجة خالي من هذا الفريق الذي فضل خبز الفرن على خبز الصاج ، فكانت تحمل عجينها على رأسها ، وتقطع مسافة طويلة حتى تبلغ غايتها ، وتصادف ذات يوم أن طلب والدي مني ،كما طلب خالي من ولده عدنان أن نذهب صبيحة أحد الأيام إلى مدرسة أنشئت في خيمة كبيرة في ذلك المخيم، وحين عرضنا ، نحن الطفلان ، أمرنا على معلم كان يلبس على رأسه كوفية بيضاء ويرتدي قمبازا ًوسروالاً ، رفض تسجيلنا لأننا ما زلنا صغيرين ، فعدنا أدراجنا .
وفي طريق عودتنا استوقفنا ماء كان يسيل بين الخيام ، فأخذنا نلعب فيه ، ومرت بنا زوجة خالي أم عدنان فصرخت بنا : إحنا مودينكم على المدرسة واللا تلعبو في الطين ! فقال لها ابنها : طردنا الأستاز ، لأنا صغار .فقالت لنا : تعالوا وراي. ولما بلغت خيمة الأستاذ أحمد ، أقبل نحوها ، فسارعت بمناولته رغيفاً ساخناً محمراً ، وأقسمت ليأخذنّه . ثم قالت : ليش طردت هلولدين ؟ فقال : هما صغيران - وطبعا كان حكمه علينا بالصغر من نحولة أجسامنا ، ولم نكن في أكبر الظن قد بلغنا السادسة من أعمارنا.،فرجته أن يقبل ابنها ، فهو يكبرني ببضعة أشهر ، كما أنه أطول مني قامة ، فوافق الأستاذ أحمد على تسجيله وانتظامه في المدرسة ، أما أنا فعدت أدراجي ، ومن هذه الحادثة تقدمني عدنان في الترتيب المدرسي .