المساجد والمقامات - كفر سميع / من قرى الجليل الأعلى - قضاء عكا

 الشيخ الفاضل محمد أبو هلال 

هو الشخصية الدينية الثانية، بعد الأمير السيد (ق) منذ تأسيس دعوة التوحيد حتى اليوم.وقد عرفت الطائفة الدرزية شخصيات دينية على مستوى رفيع بعد ذلك، قامت بأعمال وإنجازات كبيرة، وكانت لها شهرة ونفوذ وتقدير واحترام عند الدروز في كل مكان، إلا أن المركز الذي بلغه الشيخ الفاضل (ر) في حياته، وبعد وفاته، ومنذ عصره حتى اليوم، لم يبلغه شيخ آخر.

وقد ولد الشيخ في قرية كوكبا الواقعة على سفح جبل الشيخ سنة 1577 م لعائلة فقيرة، وربما كان في هذا الواقع تأثير على منزلته وكيانه، وقد توفي سنة 1640م ، وبذلك يكون قد عاش وعاصر عهد الأمير الدرزي الكبير فخر الدين المعني الثاني (1590 – 1635)، وربما كان في هذه الحقيقة أيضا مساهمة في المركز الكبير الذي بلغه.

كانت سيرته مشهورة ومعروفة في حياته، وقد زادت شهرة واحتراماً وتبجيلاً بعد مماته، فقد كان المرجع الديني الأول في كل المنطقة، وذلك لتقواه وزهده وسلوكه التوحيدي المميز، فقد كان المرجع الأكبر لكل الفتاوي والأمور والمسائل المذهبية في العصر الذي جاء بعد نشر الأمير السيد قدس الله سره لتعليماته وشروحاته.

ولد الشيخ الفاضل في عهد الأمير قرقماز بن فخر الدين الأول. وأطلق على المولود الصغير اسم محمد، ولا نعرف اسم والده ولا اسم والدته، وقد توفي والده قبل ولادته فتربّى يتيما في قريته الصغيرة، ولا من يهتم به ولا من يرعاه، وكان والده قد ترك له بعض عنزات، فسعت والدته أن يقوم برعايتها وليشغل نفسه بها، وتكسب البيت بعض المؤونة. وكان الولد الصغير يقظا نابها متفتحا، وربما نضج وكبر بسبب الفقر والفاقة التي عاناها، فكان أكبر من جيله وأقوى من طفولته، وربما بتأثير الجو الديني الذي ساد في تلك الفترة، أو بقربه من مدينة حاصبيا التي كانت عاصمة وادي التيم، مهد الدعوة الدرزية في لبنان، شعر الفتى الصغير بميل إلى الدين وإلى مطالعة كتب المقدسة، وإلى الاندماج في الصفوف النيّرة، وكان لا يعرف القراءة والكتابة، لأن أحدا لم يعلمه، ولم تكن هذه مشكلة أمام الفتى الطموح الناضج، فألهمه الله تعالى أن اصطنع لوحا خشبيا مطبقا، كعادة رجال الدين في ذلك الوقت، وطلب من الفاهمين في قريته، أن يعلموه الخط، فكان بعضهم يكتب له الأحرف ويقوم هو بنسخها عشرات المرات وحفظها وتصويرها في عقله، واستغل وجوده في البر، يرعى عنزاته، فحفظ أحرف الهجاء العربية، واستعملها في كلمات، وأتقن بعد فترة، أصول القراءة والكتابة، وأصبح من الشباب القلائل المتنورين في قريته، لمجرد أنه صمم أن يعرف فعرف، وقرر أن يتعلم فتعلم، لذلك فٌتحت أمامه كل الكنوز الثمينة المتوفرة في الكتب المقدسة.

ولما شبّ، ترك عنزاته قرب البيت، ولجأ إلى الشيخ أبي عبادة أبو محمد آل زاكي في راشيا، لقرابة تربطه به، وكان ابو عبادة شيخا متدينا فاضلا، أنعم الله عليه بأرزاق وأملاك، فقبله في مجموعة خدمه، وألقى عليه مهمة حراثة الأرض، وتربية دودة القز. انغمس الشاب محمد في عمله الجديد، وأخلص لسيده، وأتقن كل ما طًُلب منه، وزادت الخيرات بوجوده، وكان كلما انتهى الموسم، يتفرغ إلى الكتب المذهبية التي أصبح يعرف كنهها، ويستطيع قراءتها، وكان الشيخ أبو عبادة يتحاور وإياه في الأمور المذهبية، فاكتشف فيه قدرات كبيرة، جعلته يحب هذا الفتى ويحترمه، ويقدّم له المخطوطات ليقرأها ويحفظها ويتحدثا عنها. وتبحّر الفتى بالعلوم الدينية، فكان إذا انتصف الليل، يترك البيت ويذهب إلى صخرة يتعبد فيها، ويقرأ الفروض ويدعو لتحسين الأوضاع، ويعود إلى المنزل مع اقتراب الفجر، فيقدم الأكل للحيوانات، ويوقظ العمال، ويبدأ الحراثة في يوم جديد. وبعد فترة ناداه الشيخ أبو عبادة، وقال له:" إن قلنا لك يا محمد، نرى ذلك قليلا عليك، وإن قلنا لك يا شيخ محمد، نرى ذلك كثيرا عليك، فنقول لك يا أبا هلال" وصار الشيخ ابو عبادة يحترمه ويضمه إليه، وأصبحا كأخوين ورفيقين، يراجعان المحتويات الدينية ويتعبدان ويقومان بكل الفرائض. لكن هذه النعمة لم تدم، فقد كان الشيخ أبو عبادة يحاول يوما، قطع نهر الليطاني، فغرق في لجة الماء، وحزن أبو هلال لفقده مرشد ورفيق وأب روحي. وعاد إلى قريته كوكبا، متابعا مسلكه التوحيدي، متوغلا في الزهد والتقوى والورع والعفاف، فعلت درجته، وتحدث عنه الناس، وأخذوا يقصدونه. وقد سيّر له الله أخوين جديدين، هما الشيخ أبو صافي محمد أبو ترابي من قرية عين حرشة من منطقة راشيا، والشيخ أبو جابر ناصر الدين كبول من بلدة عرنة في إقليم البلان، فلحقا به، وعاشا وإياه، حياة الزهاد والشيوخ الأتقياء. وقام أبو هلال ورفاقه بانتهاج مسلك الزهاد كطريق لحياتهم وعبادتهم، وقد لحق بهم عدد من الشباب العابدين، فكانوا جميعا يقيمون حلقات الصلاة والذكر بشكل مستمر، إلا أن أبا هلال كان كثيرا ما يترك إخوانه وزملاءه، ليذهب إلى مكان بعيد، يتعبد فيه لوحده، في كهف في موقع يسمى " الشقيف" في أعالي جبل فوق منحدر يشرف على سهل واسع. وتذكر الروايات أن الله، سبحانه وتعالى سخر له خلية نحل، كانت في سقف الكهف كان يتغذى من عسلها كلما ألم به الجوع. وقد سمع الناس في حينه بقصة الكهف والعسل، فتقاطروا إلى المكان، وشاهدوا بأم أعينهم ما يجري واعتبروها كرامة من الكرامات للشيخ.لكن الأمور لم تستتب للشيخ كثيرا، فقد اغتاظ أحد الحاسدين لتعلق الناس بالشيخ، وأشعل النار بالكهف، وقضى على خلية النحل، وحرم الشيخ من صومعته. وقد لقي هذا الحاسد اللوم والتقريع من الناس، واضطر إلى النزوح عن البلدة، إلى مكان بعيد ترافقه لعنة الجماهير. ولم تغلق الأبواب أمام زاهد متقشف كالشيخ الفاضل (ر)، فقد وجد كهوفا أخرى في المنطقة، لجأ إليها وتعبد فيها، وواصل مسيرته التوحيدية. وما زال الكهف الأول الذي تعبد فيه الشيخ قائما حتى اليوم، ويزوره المشايخ للتبارك والصلاة.وقد لجأ الشيخ إلى كهف آخر في موقع يقال له ظهر الزنار وتعبد فيه وتحول هو كذلك إلى مزار فيما بعد

هكذا بنى الشيخ محمد أبو هلال مسيرة حياته، وأصبح علما دينيا لامعا في صفوف الطائفة، يؤخذ برأيه ويستنار به، ويعتمد عليه، وعندما انتقل إلى رحمته تعالى، الشيخ بدر الدين حسن العنداري التنوخي (1562- 1611) الذي كان في منزلة شيخ عقل الطائفة وأطلق عليه لقب شيخ مشايخ العصر، وهو خال الأمير فخر الدين المعني الثاني ومقربا إليه، اجتمع شيوخ الدين واعيان البلاد للتشاور وانتخاب شيخ عقل جديد، فاستقر الرأي على انتخاب الشيخ محمد أبو هلال لهذا المنصب، لما بلغه من مرتبة سامية ومكانة رفيعة وثقة كبيرة. توجه إليه عدد من المشايخ باسم باقي رجال الدين، وطلبوا منه أن يتولى شؤون مشيخة العقل، لأنه أحسن من يدير شؤونها، فرفض رفضا باتا، مفضلا أن يكرس وقته للعبادة والصلاة، ولا يريد أن يشتغل بأمور الدنيا. عاد المشايخ أدراجهم والحسرة تنهش بهم، وأعلموا بقية المشايخ بما حصل، لكن الجميع أصروا أنهم يريدون الشيخ لهذه المهمة ولا يتنازلون عنه بتاتا، وطلبوا من البعثة أن تعود مرة أخرى إلى كهف الشيخ وتحاول إقناعه. عاد المشايخ إلى الكهف واجتمعوا بالشيخ وأبلغوه أن الجماهير كلها تريده، وأن لا يمكن أن يخيب آمالها، فوصل الطرفان إلى حل يرضي الجميع، وهو أن يقوم الشيخ مرة في السنة، في فصل الصيف، ولعدة أيام بالإجتماع بالمشايخ في قرية منعزلة عن بقية قرى المنطقة، وهناك يعرض أمامه المشايخ المشاكل المستعصية ويقوم بحلها.وعندما ينتهي من ذلك، يعود إلى مغارته وصومعته للتعبد والزهد.وهكذا جرت الأمور خلال خمسة وعشرين سنة، وصار المشايخ وإخوان الدين ينتظرون الزيارة في موعدها كل سنة بالشوق العظيم، ويلاقون فضيلة الشيخ، ويسمعون رأيه في المشاكل التي يعرضونها أمامه، لتصبح سنة متبعة بين جميع الموحدين.وقد جرت الإجتماعات في بلدة شويا، تحت شجرة سنديان ما زالت قائمة حتى اليوم.

وفي مرحلة من حياته، قرر الشيخ محمد أبو هلال أن يحذو حذو الأمير السيد (ق)، وان يذهب إلى دمشق ليتلقى الدراسة هناك، بعد حفظ كل ما قرأ وتبحر في العلوم الدينية كما يجب، فنزل وتوفق بشيخ عالم كبير المقام قرأ عليه في النحو والفقه والحديث الشريف . ولحقه إلى هناك عدد من المريدين في طلب العلم وحصلوا هم كذلك على علوم استوعبوها بنهم وشغف. وقضى في دمشق مدة فبلغ في تحصيل تلك العلوم مبلغًا كافيًا فاق فيه أقرانه وجعله موضع احتـرام وتقدير عند معلّمه الشّيخ وقد رغب من شدّة إعجابه بشخصيّته وذكائه أن لا يقتصر في تعليمه على العلوم الدّينية فقط بل أن يزداد من العلم في كلّ شأن، وقال له في ذلك شعرًا ما نصّه

تعلّم العلم تبلغ كــــــــلّ ذي أمــــــل ولا تـكـن بعـلـم واحـد كــــــــسـل

النّحـل لمـا جنى من كـل فاكـهـــــة أتاك بالجوهرين، الشمع والعسل

الشمــــع للناس نور يستضــاء به والشهد يبري من الأسقام والعلل

فأجابه الشّيخ الفاضل مباشرة بأبيات من الشّعر جاءت على نفس الوزن والقافية مبررًا رغبته بالعودة إلى موطنه وذلك لعدم توافقه مع رفاقه الدّارسين معه، رغم محبته لشيخه ومعلّمه، وفي ذلك يقول:

مراحم الله عمّت سائر الملل أهدى رسول الهدى يسمو على الرسل

وأوهب العقل كنزًا للفتى شرفًا يعــــــــلو ارتفاعا بــه عن عالم السّفل

الشّمع يبكي ولا يدري مصيبته خوفًــــا من النّار أم من فرقــة العسل

من لم تجــانسه احذر تجالسه ما أحــــــرق الشّمع إلاّ رفقـة الفتـــلعاد بعدها إلى قرية الشويا وإلى كهفه وإلى متابعة حياته في الزهد والعلم والصلاة.

وفي هذه الأثناء، تغيرت الأحوال، وحلت بالبلاد محنة كبيرة، فقتل الأمير فخر الدين المعني، وقام ربيبه الذي رعاه أحمد كجك، وطارد الموحدين وأعلن أنه يريد أن يحتجز الشيخ الفاضل (ر) لكي يقوم الدروز بافتدائه ويدفعون الأموال الطائلة، لذلك أعلن الشيخ أمام مريديه وإخوانه، أنه في حال قبض عليه أحمد كجك وأسره طلب منهم أن " حرام على من يخسر علي قرشا، أما الروح فمقصر عنها، وأما الجسم فليفعل فيه ما يشاء وخلاصي في ذلك." لكن الحاكم عدل عن ذلك بعد أن فهم أن الشيخ غال جدا على مريديه وهم يستطيعون أن يفدونه بأغلى الأثمان، لكن الشيخ بنفسه حرم ذلك عليهم وهو لن يجني شيئا.

وبسبب رداءة الأحوال وتقلب الزمان، انتقل الشيخ مع رفيقيه ومريديه للسكن في قرية عين عطا.، وهناك قوبل بالترحاب وخصص له بيت مناسب يليق به وبمريديه.وذكر تلميذ الشيخ الفاضل (ر) الشيخ عبد الملك أن الشيخ توجه وزار الأربعة بلدان والقصد هنا في الأربعة بلدان هو: دمشق، فلسطين، الشوف ووادي التيم. وكان فضيلته قد زار قرية عين قني في الشوف واجتمع بأهلهاوذكر الدكتور الشيخ فؤاد أبو زكي في كتابه" شيخ مشايخ الموحدين الدروز الشيخ الفاضل محمد ابو هلال (ر) سيرته وادابه، الصادر عن الدار الوطنية بتص148 أن الشيخ الفاضل (ر) زار قرية كفر سميع، بعد أن سمع بعبادها السبعة ومكث هناك فترة من الزمن، واستشهد المؤلف ببحث الدكتور سلمان بهذا الخصوص. وقام بعد ذلك الشيخ بزيارة قرية عرنة في الطريق إلى دمشق ثم بزيارة مدينة دمشق نفسها.وعاد الشيخ إلى قرية عين عطا واستمر في حياته هناك، وزاد إقبال الناس عليه وقام بزيارته وفد من مشايخ الحلبية في الجبل الأعلى، وحصلت بينهم بعد ذلك مراسلات.

ومع مرور الأيام اعتلت صحة الشيخ وكابد المرض ولحق به إعياء شديد، وظل حوالي السنتين يعاني من أوجاع أليمة، لكنه ظل صابرا يتحمل الألم، وكله إيمان وتقوى.وتدهورت صحته وكان قد أوصي أن يدفنه بعد موته في حقل يحرث لئلا يظل له أثر، لكن مريديه أبوا ذلك .واتفق أن يدفن في مقبرة القرية، وأن لا يقوم أحد برثائه، وأن لا يجري له مأتم، وإنما يعزي الناس بعضهم بعضا وهم في بلادهم وهكذا كان.

وبعد وفاة الشيخ الفاضل (ر) أقيمت له عدة مزارات، منها مزار في قريته الأصلية كوكبا، ومزار آخر في عين عطا، وهذا هو المزار الثالث يقام في قرية كفر سميع. وقد بادرنا الى اقامة مقام تخليدا لذكرى المرحوم الشيخ الفاضل بعد ان تأكدنا من صحة المعلومات المتناقلة ودعونا الشيخ موفق طريف ورجال الدين في القرية للاجتماع عندنا وعرضنا الفكرة ونالت استحسان الجميع وبارك الشيخ الفكرة ودعمها وهكذا قرر المجتمعون وسائر المشايخ في القرية وغيرها بناء المقام.

وقام بعض المشايخ والشباب النشيطين في القرية، بمبادرة لجمع التبرعات والمباشرة بالبناء، وكانت التبرعات سخية والاستجابة عارمة وتم بعونه تعالى إتمام المبنى حسب التخطيط، وتدشينه برعاية فضيلة الشيخ موفق مع مشايخ البلاد في 5 تموز 2008.