أعلام من القرية - البصة - قضاء عكا

معالم وأعلام من فلسطين: البصّة عروس الجليل ومدرستها الأسقفية الوطنية تاجها الذهبي

نتورط أحيانا في التركيز المفرط على النكبة وما شهدته من مجازر وجرائم وتهجير الخ ..على حساب ذاكرة فلسطين قبل 1948 بمدنها وأريافها: ثقافة ومجتمع واقتصاد وغيره. لذا هنا زاوية جديدة (حكاية عن بلدي).. هي جولة بين البحر والنهر بحثا عن ملامح وطن.. اعتلته طبقات من غبار الأيام ولا تزال الصهيونية تسعى بمنهجية لطمسها، وتشويه سمعتها بمزاعم « القفار والصحارى والمستنقعات».. ونحن أحيانا نساهم في هذا الغياب والتغييب، ولذا فالزاوية مفتوحة لمقترحات ولمن يرغب في المساهمة بصور وكلمات قليلة مجددة تنعش الذاكرة وتثريها.

في الطريق إلى رأس الناقورة في أقصى الجليل الغربي يستقبلك بكامل وقاره وشموخه جبل يفصل جغرافيا بين فلسطين ولبنان، هو جبل «المّشقح» الممتد من الشرق نحو الغرب- الشمالي ويلتقي البحر الأبيض بلقاء مدهش، لقاء البحار والجبال أو لقاء العمالقة.
على واحد من سفوح «المّشقح» قامت البّصة، القرية المميزة بأهلها وعلمها واقتصادها وطبيعتها. المفارقة أن البصّة، أغنى أرياف فلسطين وأكثرها ازدهارا صارت تدعى مستوطنة «بيتست»، وعلى الكثير من أراضيها قامت بلدة شلومي التي تصدرت قائمة البلدات الإسرائيلية الأكثر فقرا طيلة سنوات كثيرة، وهذا مثال حيّ على اختلال مزاعم « الصحارى والمستنقعات».
 ضربت البصة مثالا بالتآخي واللحمة الوطنية بين أهاليها المسلمين والمسيحيين وتميزت بازدهار ثقافتها، كما نرى في وفرة مدارسها ونواديها ومقاهيها ومطاعمها وفندقها في منطقة المشيرفة المدهشة بإطلالتها على البحر وعلى الطريق المارة من قبالة القرية بين حيفا وعكا.

المطران حجار

من أجمل تجليات ازدهار البصة المدرسة الوطنية الأسقفية، وهي واحدة من أهم المدارس الوطنية التي اعتبرها مفتي فلسطين الراحل أمين الحسيني «أساس كيان الأمة ونواة وحدتها واستقلالها». وكان في القرية مدرسة ابتدائية رسمية للبنين شيدتها الدولة العثمانية في سنة 1882، ومدرسة ابتدائية حكومية للبنات، ومدرسة شاملة خاصة هي مدرسة المطران أو المدرسة الأسقفية الوطنية (من البستان للثاني عشر مع قسم داخلية درس فيها تلاميذ من كافة أرجاء فلسطين) ولاحقا عرفت بكلية الرابطة الوطنية، ومدرسة ابتدائية تابعة للإرسالية الإنجيلية الألمانية (مدرسة السيدات الألمانيات). ويرتبط اسم الأسقفية الوطنية، هذه المنارة التعليمية البارزة صاحبة الفضل على مثقفين فلسطينيين كثر نهلوا من مواردها، بسيادة المطران الوطني بشارة غريغوريوس حجار الملقب تقديرا لنصرته قضية فلسطين بـ «مطران العرب» صاحب المدرسة ومؤسسها الذي توفي  في حادثة سير في حيفا عام 1940 وهو عائد من زيارة للحرم القدسي الشريف في القدس.
ولد بشارة حجّار في قرية روم جنوب لبنان عام 1875، وتتلمذ في دير المخلص في صيدا ثم في القاهرة. ولما بلغ الـ22 من عمره سمي شماساً في كاتدرائية نيقولا بصيدا. «والمطران حجار الذي نقل مقر كرسي أبرشيته من عكا إلى حيفا عام 1926 وحافظ على اسمها وهو «أبرشية عكا وحيفا والناصرة وسائر الجليل»، قرن نشاطه الديني بالعمل الاجتماعي لتعزيز اللحمة بين المسيحيين والمسلمين في وجه المخاطر الصهيونية المحدقة بالبلاد.
 ويشمل كتاب «رؤية معاصرة لحياة وأعمال المطران حجّار»  للمؤرخ دكتور جوني منصور تفاصيل كثيرة حول مسيرة هذا الأب اللبناني المولد والفلسطيني الهوا والهوية. ويوضح الكتاب الذي يستند في دراسته إلى أرشيف الكنيسة والروايات الشفوية، أن بشارة حجار عيّن رغم صغر سنه أسقفاً على أبرشية عكا عام 1899 بناء على طلب أهلها، وما لبث أن عُيِّن مطراناً لها. كما تجلت غيرته على فلسطين في مذكرة بعثها إلى الجالية العربية في الولايات المتحدة عام 1938 يحثهم فيها على مناصرة الفلسطينيين وفلسطين التي تتعرض لما سماه «التخريب والتدمير». ويؤكد الكاتب إلياس جبور ابن شفا عمرو على تميز المطران الراحل الذي تجلى في جمعه بين الدين والدنيا عبر التشديد على النصرانية والعروبة والتدين الصادق. وردا على سؤال «القدس العربي» يشير جبور إلى الدور المهم لحجار في نشر الثقافة وحماية اللغة العربية، ويقول إنه «أجاد لغة الضاد وأحبها وتغنى بها، وكان كثيرون ممن سمعوه يبلغونه: أنت أخطب من سمعت».

أحمد الشقيري وخليل السكاكيني

استقطبت الأسقفية الوطنية التلاميذ من مختلف المناطق الفلسطينية والأردنية واللبنانية بفضل مستوى التعليم العالي فيها. في واحدة من سجلاتها تجد طلابا من: طبريا، وعكا، والقدس ونابلس والحصن، وكفر شيما، وبيروت، وحيفا. ومن أبرز القائمين على هذه المدرسة المربي الراحل سليم عطا الله دياب من  قرية عين إبل اللبنانية، وهو أستاذ العربية والفرنسية في المدرسة والتاريخ قبل تسلمه إدارتها في نهاية ثلاثينيات القرن الماضي.
ويستذكر المربي حنا مخول ( والد الإخوة عصام وأمير وكميل مخول) أستاذ العربية (حتى 1948) ازدهار العلم والتعليم في القرية. ويوضح نجله دكتور كميل مخول أنه لطالما سمع والده يلفت لاهتمام المدرسة باللغة العربية بشكل خاص ولدور خليل السكاكيني مفتش موضوع لغة الضاد وقتها. وردا على ملاحظة «القدس العربي» يستعيد كميل ما سمعه من والده يوم توجه الأخير بعد عطلة عيد الفصح عام 1948 للمدرسة في البصة لاستئناف التدريس فيها فلم يجد أحدا من أهل البلدة والبيوت قد سرقت حتى نوافذها.
لم تكن الأسقفية منارة للعلم فحسب بل دفئية وطنية ترعرعت فيها أجيال من المثقفين الوطنيين وهكذا أساتذتهم، وهذا ما يبرر قول الأستاذ حبيب أفندي خوري في مقالة عنوانها «المدارس الوطنية» (نشرت في رسالة صدرت بشكل دوري عن المدرسة الأسقفية الوطنية ودأب على نشر مقالات فيها مثقفون ورجال تربية أمثال خليل السكاكيني وأحمد الشقيري الذي حل ضيفا عليها في فعالياتها اللامنهجية)»: إن حق لي أن أشير إلى طابع للحركة الفكرية في فلسطين، قلت غير متردد إن طابعها للمدارس والتهذيب، ففلسطين الآن في طريقها إلى المدرسة..إن لم تكن قد أصبحت فيها».
يقول المربي الراحل نعيم يوسف مخول في «ملحق مصور لبيان المدرسة» (-19391940
) إن الأسقفية الوطنية في البصة تميزت بكونها مدرسة وطنية تعنى عناية خاصة باللغة العربية وبنشر المبادئ الطيبة بين تلامذتها وتقويم أخلاقهم وتهذيب نفوسهم وتربيتهم تربية وطنية صحيحة علاوة على عنايتها بصحتهم وترويض أجسامهم بتشجيع الرياضة البدنية والحركة الكشفية وكذلك بالرسوم الزهيدة التي تتقاضاها مقارنة بمدارس تماثلها». كما جاء في دستور المدرسة عن أهداف المدرسة: «وغاية المدرسة الرئيسية تربية التلامذة تربية صالحة وطنية تكفل لهم أن يكونوا في الحياة رجالًا يعتمد عليهم في كل الأعمال». ومن بين ما يدلل على رقي المدرسة توثيقها لذاتها سنويا مما يتيح الإحاطة بكل ما كان يدور فيها من شكل ومضمون.
 في الملحق المذكور يصف الراحل نعيم مخول كل شيء فيها ومنها ما يتعلق بالرؤية الإدارية والتربوية وكثير منها ما زال صالحا لليوم. يقول على سبيل المثال «يلتزم الطالب الجديد بتقديم امتحان مرضٍ أمام إدارة المدرسة لتعيينه في صفه وهذا لا يتوقف على استحسان ذويه بل على أهليته كما يظهر للإدارة والامتحان يكون خطّا وشفاهاّ». كذلك يشير هنا «يجري امتحان اختباري في منتصف شهر اكتوبر/تشرين أول لتحقيق أهلية كل تلميذ في صفه. فمن ظهر من التلامذة الجدد أهلا لصف أعلى يرقى إليه ومن وجد عاجزا عن السير في صفه ينزل. ليس هذا فحسب: «من يرسب في درسين أو أقل عليه تقديم امتحان إكمالي في افتتاح السنة المدرسية فإذا جازه يرقى لصف أعلى أما الراسب في أكثر من فرعين مهمين لا يقبل امتحانه قطعا وعليه أن يراجع صفه حتما مع أن علاوة الاجتياز ستون».

العفو عند المقدرة

وهكذا تتجلى نظرية «أمر مبكياتك لا مضحكاتك» في أنظمة المدرسة فـ»إذا تغيب طالب عن المدرسة بدون عذر شرعي ينال صفرا في موضوع الدرس أو الامتحان الذي يتغيب فيه». وعلى مستوى التربية بادرت المدرسة لتأسيس بعض الجمعيات من تلامذتها وغايتها أن تنمي فيهم روح الإخوة وترابطهم برابطة المحبة فيتمرنون على أفضل  طرق الحياة الاجتماعية. كما تم تأسيس الجمعية الانكليزية وغايتها التمرن على التكلم باللغة الانكليزية مع بعضهم البعض تحت مراقبة أستاذها. كذلك جمعية التمثيل وغايتها القيام بتمثيل الروايات الأدبية على مسرحها نظرا لما لهذا الفن من التأثير في نهضة الشعوب (من هذه المسرحيات: العفو عند المقدرة، والخليفة المأمون وعمه إبراهيم بن المهدي للأب الأديب اللبناني (بلدة أم الشوف) نقولا أبو هنا المخلصي الذي كان من المقرر أن يحضر تمثيل روايته لولا شواغل حالت دون قدومه كما يستدل من رسالة بعث بها الى مدير المدرسة الأستاذ الأديب سليم عطا الله دياب. قال نقولا أبو هنا في رسالته الجوابية: «تلقيت رسالتكم بكل عاطفة طيبة … وقد طلبتم إلي إجازة  بتمثيل روايتي (العفو عند المقدرة) في الحفلة التي تقيمونها كالمألوف في ختام السنة المدرسية…ولا شك أنكم قرأتم في سريرة نفسي فأطلعتم على حبي للبصة ولمدرستها العزيزة… حبا وكرامة للبصة المحبوبة ومدرستها العزيزة ولعمدة هذا المعهد الأدبي الفضلاء….».

تنمية الخطابة

كما اهتمت المدرسة بتنمية الخطابة ونشر قائمة بأسماء «الممتازين في الخطابة» إضافة لـ «الممتازين في الدروس» و «الممتازين في التربية».
في ختام كل سنة دأبت المدرسة كما تبين وثائقها على إرسال رسالة وافية لكل الأهالي وأولياء أمور تلامذتها عن الأعمال والمشاريع الأدبية والعلمية فيها. كذلك أنشأت مكتبة المطالعة لتشجيع القراءة في أوقات معينة زاد عدد كتبها يوميا بفضل تبرعات الأهالي وخريجيها. وهذا ما يؤكده لنا رئيس مجلس فسوطة الأسبق شوقي خوري (88 عاما) الذي درس في الصفوف الدنيا فيها، منوها لدور مديرها في الثلاثينات الراحل سليم عطا الله دياب الذي أدارها بكفاءة رغم أنه أنهى الصف الرابع ابتدائي فحسب، فما لبث أن طورّها وحولها لثانوية وبني قسما داخليا فيها. ويستذكر بعض من علموه ومنهم عازف العود ومعلم الموسيقى إبراهيم بركات من بلدة علما اللبنانية، وذيب سعيد من أبو سنان وإبراهيم خوري من البصة ونجيب نقولا من كفر ياسيف.
 وكانت البصة تقع على طرف سهل وتحيط بها بساتين الزيتون والرمان والتين والتفاح. وبحلول سنة 1948، كان عددهم حوالى 4000 نسمة وعدد منازلهم يفوق 700 منزل. كما يعبّر عن الحنين المتقد للبصّة الفنان البصّي جمال الياس بأغنية حزينة مطلعها «أنا فلسطيني العنوان، ودمي وروحي فدا الأوطان» وجاء فيها: باب نايم ومخزق .. من قلبه طل الزنبق… دايره مكسور وريحته بخور.. ومن قلبه شع النور.. وبتراب الأرض تعلق». وفي أغنية ثانية يقول جمال الياس «خدني على البصة مشوار واحكيلي شو بأهلك صار.. لمن أدور على الحارة.. وغطتها الحجارة.. سمع الجامع يبكي محوّط سياج يشكي.. مع تكبير وصوت جراس».

من الأعلام في قرية البصة 

 مدير المدرسة الوطنيه الاسقفيه الثانويه في البصّه ، المرحوم سليم عطالله ذياب من قرية عين ابل  

من الأعلام في الشتات

الأستاذ المدرب حسن يوسف يقيم في لبنان، وفي مدينة صيدا تحديدا، خبير في التخطيط الاستراتي وفي التنمية المستدامة، ومدرب في العديد من المجالات وصاحب كتاب قيم تم تداوله بكثرة بعنوان: كيف تختار تخصصك الجامعي