روايات أهل القرية - عِرِاقْ المَنْشِيَّة/ جِتْ الكنعانية - قضاء غزة

بدأت المناوشات في القرى المحيطة بعراق المنشية بشكل عام وفي عراق المنشية بشكل خاص في أواخر آذار عام 1948 م ولكن المعارك الحقيقية بدأت في آواخر شهر حزيران، وإزدادت حدة وشراسة المعارك وتضييق الحصار الخانق عليها من قبل اليهود بعد سقوط بيت جبرين والتي احتلت من قبل العصابات الصهيونية يوم 27/10/1948 م وفي ذلك الوقت سقطت قرية قبية بني عواد وانسحب جزء من الجيش المصري إلى الخليل وبدأ أهالي القريتين أي بيت جبرين والقبية بالرحيل عنهما شرقاً إلى الدوايمة وقرى أخرى. وتبع ذلك سقوط عراق سويدان في أيدي اليهود بعد أن قاموا بهجوم ناجح على مفترق الطرق عند عراق سويدان وبذلك تم عزل القوات المصرية في عراق المنشية والفالوجة عن قيادتها في المجدل وغزة.

وسقوط كل من بيت جبرين شرقاً وعراق سويدان غرباً ضيق الخناق على الجيش المصري وأهالي القرية التي كانت حينها تعج وتغص بمئات اللاجئين الذي لجأوا إليها من القرى المجاورة، وفي هذا الحصار لم يبق اتصال يصل القرية بباقي أرجاء الوطن إلا من شريان واحد يصل شرق الفالوجة بغربي عراق المنشية، فلم يكن خيار للجيش المصري والأهالي إلا الاستبسال والاستماتة للدفاع عن شرفهم ولأن الإستسلام لليهود كان يعتبر بمثابة انتحار جماعي، فأقسم الجميع أي من كان قادراً على حمل السلاح من الجيش المصري والأهالي على خوض معركة الشرف تلك، فإما الموت وإما الشهادة (وعلي وعلى أعدائي). وقد تعاون الجميع على تجاوز تلك المحنة وامتزج الدم المصري والسوداني بدماء المتطوعين من أهلي القرية وسال زكياً على تراب عراق المنشية الطاهر، كان سكان القرية فلاحين تتوفر عندهم الحبوب في الخوابي والمخازن وكذلك يتوفر لديهم الكثير من الأبقار والأغنام والطيور الداجنة في حظائرهم فقد كان هذا عاملاً مهماً في رفد الحصار وإطالة أمد الصمود وخصوصاً اتخذت هذه المواد الغذائية كإمدادات للجيش المصري الذي انطعت سبل اتصاله بقيادته وبطرق إمدادته وتعاون الأهالي والجيش المصري الذي تعداده 1300 جندي في القرية في القيادة العليا إلى القيادة المصرية ولكن كان يقودههم على المستويات الأقل ضابطان سودانيان، وهم المللازم (عبد الله) و المللازم (بشير) الذي استشهد في إحدى المعارك غربي البلد.

دور السكان في تقديم المأكل للجيش المصري

  1. اللحوم : تقدم وجبة واحدة أسبوعياً يوم الجمعة على حسب السكان في القرية، يوم على عشيرة الطيطي وتوابعها، ويوم على عشيرة الجوابرة وتوابعها... الخ، وقد كانت تشمل هذه اللحوم كلاً من الأبقار والأغنام والدجاج. (وكان يتم تنظيم هذه الأمر بالتعاون بين الحاج المختار خالد حمدان الطيطي عن عشيرة الطيطي والمختار عبد الفتاح أحمد يوسف مختار الجوابرة، ومعهم شخص مصري يدعى الصاغ عمر وبإشراف مباشر من البكباشي جمال عبد الناصر.)
  2. أما الخبز وإمداداته من القمح وكانت تقسم حسب ممتلكات الفلاحين وسعة أراضيهم فكان يفرض على كل شخص حصة ونصيب حسب طاقته وإمكانياته.

تدمير بابور الطحين

كانت الحبوب أول الأمر تطحن في بابور طحين تابع للقرية كان يمتلكه الشيخ محمود أبو محيسن فعرف اليهود مدى أهميته وحيويته بالنسبة للقرية فركزوا عليه قصفهم حتى دمروه تدميراً كاملاً فأصبحت هناك مشكلة كيفيه طحن الحبوب.

المطاحن اليدوية

وجدت هذه المشكلة حلها وذلك بتوزيع الحبوب على نساء القرية لكي يتم طحنها بواسطة الطواحين الحجرية اليدوية (الرحى) حيث كانت كل امرأة تتسلم مقداراً معيناً من الحبوب سواء القمح أو الشعير يجب عليها أن تطحنها على جاروشتها وتعيده طحيناً. وكانت امرأة قوية اسمها عزيزة كلفت من قبل المختار الحاج خالد الطيطي بتوزيع الحبوب على النساء وبعد فترة تعود لتجمعه طحيناً وقد لقبت بالشاويش. أما أشهرؤ النساء اللواتي عرفن بمهارتهم في نجاعة طحنهن للقمح والشعير على جواريشهن :

  1. شايقة أدعيس امرأة عطا الله قنديل الطيطي.
  2. الشهيدة فاطمة ظاهر عبد الله.
  3. فاطمة العبد عياش.
  4. لطيفة إسماعيل أبوهشهش امرأة يونس خليل.
  5. صبحة ظاهر عبد الله.
  6. سعيدة أم محمد حسين نمر.
  7. ساره محسن الجابري زوجة محمود جاد الله أبو محيسن.
  8. لبقة نمر زوجة جبرين خليل.
  9. شايقة امرأة محمد حسين نوفل البدوي.

وغيرهن من الحرائر بطلات ملحمة صمود عراق المنشية.

وجبات الأكل

أما وجبات الأكل فهي عبارة عن عجوة التمر تمرس (تنقع في الماء) ووجبات من الخبز والعدس ووجبات من جريشة القمح مع اللحم والبندورة المجففة والطبيعة وكذلك الفول والحمص.

طريقة الخبز

أما طريقة الخبز : فقد كان يوجد في البلد فرن لشخص اسمه (عبد الكريم عثمان أبو سل) يشعل بواسطة الأخشاب وضعه صاحبه تحت تصرف المقاتلين وعندما نفدت الأخشاب اضطر المواطنون لهدم بعض المنازل وتقديم أخشابها وقوداً للفرن وقد دمر الفرن من قبل العصابات الصهيونية أيضا، واضطر المواطنون لخبز الخبز المقدم للجيش المصري في الطوابين وأحياناً على الصاج.

بداية المعارك

في أحد الهجمات بعد سقوط المجدل وكرتيا غرب البلد استطاعت العصابات الصهيونية دخول المنازل الغربية فتصدت لهم الوحدة السودانية والمتطوعين من أبناء البلدة الذين بلغ عددهم 200 متطوع بالإضافة إلى الجيش المصري. وبتضافر جميع الجهود والعناية الإلهية قبل كل شيء وبتخطيط من البيك (طه) الذي خطط لاستعمال الهنابر وهو نوع من المركبات كالدبابات والمدرعات تحمل نوعاً من أنواع المدفعية، وقد تم صد العدو وقد خلف مئات القتلى والجرحى وقد دفنت الجث التابعة للعدو في مقابر جماعية (تقول الرواية التاريخية الشفوية ان دفن جثث اليهود في المقابر الجماعية كان كبير جداً حتى ان اهل القرية دفنوهم وبين كل جثة وجثه مقدار لوح صبر)

استدراج اليهود

أما الهجوم الثاني المشهور فقد جاء من الشمال وقد استعمل جمال عبد الناصر حيلة لاستدراج اليهود في فخ نصبه لهم وقد كان حينها مفاوضات بين جمال عبد الناصر والقائد اليهودي (سايل سكرمان) أصبح عام 1949 م متصرفاً للواء المجدل، وقد استدعوا وقتها جمال عبد الناصر ليمثل الجيش المصري إلى المستعمرة (جات) شمال البلد واتفقوا معه على أن يسلم الجيش المصري بلا قتال مقابل عدم الانتقام من الجيش والأهالي بعد الكارثة التي حلت باليهود في هجومهم الأول والذي فقدوا فيه المئات من جنودهم، واتفقوا معه تحت شروط وضعها جمال عبد الناصر (أن يدخل جنود العصابات الصهيونية بلا أسلحة وكان يريد أن يستدرجهم إلى حتفهم الذي ينتظرهم وقال لهم بأن هذا هو شرطه خوفاً على سكان القرية أن يروعوا ). حينها رجع جمال عبد الناصر من مقابلة اليهود، وطاف على مواقع الجيش المصري وعلى مواقع المتطوعين من السودانيين والأهالي وأخبرهم بأن اليهود قادمون بدون أسلحتهم الثقيلة فلا تطلقوا النار حتى أعطي الإشارة بواسطة طلقة حمراء، وحينما وصل اليهود ويقال أنهم وصلوا بأفرادهم مجندين ومجندات وضباطاً يرقصون ويغنون ظناً منهم أنهم حصلوا أخيراً على عراق المنشية وبكل سهولة. وعندما أصبحوا على بعد 100 متر تقريباً أطلقت طلقة الإشارة وأخذ الجيش المصري يقذف بحممه وبكثافة ولم ينج منهم إلا من كان متأخر في القدوم إلى البلد عندئذ فقد اليهود صوابهم وفقدوا ثقتهم بعبد الناصر وأصبحوا لا يأمنون له جانباً وقد خلفوا وقتها قتلى كثيرين (تقول الرواية التاريخية الشفوية ان دفن جثث اليهود في المقابر الجماعية كان كبير جداً حتى ان اهل القرية دفنوهم وبين كل جثة وجثه مقدار لوح صبر).

رواية البكباشي جمال عبد الناصر في عراق المنشية (عن مذكراته)

قال الرئيس عبد الناصر في 3 آذار/ مايس/1955: [إني أذكر يوم 16 أكتوبر (تشرين الأوّل) من عام 1948م. وكانت الهدنة قائمة وهجم اليهود هجوماً غادراً على موقع الكتيبة السادسة في عراق المنشية، ولكنهم هزموا شر هزيمة.

ولستُ أنسى معركة 16 أكتوبر عام 1948 في عراق المنشية حين واجهنا اليهود وهم متفوقون في القوة والعدد وكنا نحن في موقع منعزل محاصر، وتمسكنا بالشرف، وتمسكنا بالواجب، وتمسكنا بالوطن. فهزمنا المعتدين. فرأيت العسكري اليهـودي وهو يفر مذعوراً لمجرد رؤيتنا. رأيتهم يُهزمون رغم دباباتهم ومدرعاتهم التي تركوا بعضها في الميدان].

وقال الرئيـس بتاريخ 22 يونيو (حزيران) 1962: [وفي سنة 1948م. حاربنا وحوصر جزء من الجيش المصـري في الفالوجة وعراق المنشية. ولقد رأيت الفلسطينيين في عراق المنشية. وكان معنا الشيخ خالد(خالد الطيطي والذي منحة الرئيس جمال عبد الناصر فيما بعد وسام الاستحقاق من الدرجة الاولى) مختار في عراق المنشية، وقد أستشـــهد أبناؤه أمامي ولم يكن يلتفت لأحد من أبنائه، وقد أُريق في هذا اليوم الدم الفلسطيني والدم المصري، وقد بلغ عدد الذين أستشهدوا 150 شهيداً من الكتيبة المصرية وقتل أيضاً عدد كبير من الفلسـطينيين المناضلين ودخل اليهود وأستولوا على ثلثي عراق المشية ولكن لم يتمكنوا من الصمود وأســتطعنا أن نعيد الأستيلاء على مواقعنا وتكبد اليهود في هذا اليوم يوم 28 ديسـمبر (كانون الأوّل) سنة 1948 خسـائر بلغت حوالي 400 قتيل. وقمنا بدفنهم. وأنا ذهبت بعد انتهاء الحرب وبعد الهدنة إلى عراق المنشية في يناير (كانون الثاني) سـنة 1950 ودخلت بواسطة رجال الهدنة لأطلع اليهود على مقابر هؤلاء الجنود لأنهم لم يستطيعوا معرفتها وطلبوا من رجال الهدنة أن يرسلوا أحد المصريين ليريهم هذه المقابر… وقد أوفدني الجيش المصري لأعّين لهم المقابر لأننا كنا نتبادل الجثث].

دفتر يوميات جمال عبد الناصر الشخصية في حرب فلسطين وتحديداً في عراق المنشية

دفتر يوميات جمال عبد الناصر الشخصية في حرب فلسطين التي أفرج عنها الصحفي محمد حسنين هيكل بعد 55 عاماً   

مقدمة قبل أن تقرأ اليوميات بقلم عبد الله السناوي

فجأة.. توقف رجل يوليو القوي “جمال عبد الناصر” عن الاستطراد في حديثه المستفيض مع الصحافي الشاب -وقتها- “محمد حسنين هيكل” عن تجربته في حرب فلسطين وشهادته على ما جرى فيها. طلب “جمال عبد الناصر” من ضيفه الانتظار قليلاً، وغادر حجرة الاستقبال في بيته المتواضع بشارع الجلالي في الوايلي، ليعود بعد قليل ومعه صور ومتعلقات شخصية ورزمة خطابات، بعضها تلقاها بعد العودة من الحرب من “أهالي الفالوجة”، وبعضها من زوجته تحية ووالده وعمه، وبرطمان مملوء بتراب المنطقة التي حارب فيها، معتقداً أنه سوف يعود إليها، لتستكمل القوات المصرية المهمة التي لم تقم بها، وأن مصر لم تخض حرباً حقيقية في عام،1948 فالحرب تشترط أن تكون واعياً بأهدافها ومستعداً لمقتضياتها، والنظام السياسي -وقتها- بدا غير مدرك أنه قد دخل حرباً فعلاً، أو ماذا يفعل بالضبط في فلسطين. غير أن أخطر ما أحضره معه “جمال عبد الناصر” دفتر مذكرات شخصية على غلافه الخارجي بقعة من دمه.. وقال ل”هيكل” : “يمكنك أن تأخذ معك هذا الدفتر، وأن تقرأ فيه، وأن تكتشف بنفسك ما جال بخاطري تحت وهج النيران في حرب فلسطين، وما كتبته يوماً بيوم في خنادق القتال على ضوء لمبة جاز”. في ذلك اليوم البعيد من مطلع عام،1953 عندما أخذ “هيكل” يتصفح دفتر المذكرات، وعلى غلافه الخارجي بقعة من دم “جمال عبد الناصر” سأله : “هل هذه إصابة حرب..؟”.. فأجاب على الفور : “لا”.. وأخذ يروي “جمال عبد الناصر” قصة بقعة الدم على غلاف دفتر مذكرات، فأثناء كتابته اليومية مسجلا