احتلال القرية - بُرَيْر - قضاء غزة

احتلال القرية وطرد أهلها

في 29 كانون الثاني (يناير) عام 1948، دخلت قوات "يشوف" الصهيونية القرية بخمس عربات مصفحة، لكن تم صدها دون وقوع إصابات، ويشير مصطلح الـ "يشوف" إلى هيئة السكان اليهود في فلسطين قبل قيام الكيان الإسرائيلي، ركزوا جهدهم على تأسيس بنية اقتصادية وسياسية وحضارية في إطار مفاهيم انعزالية تفصلهم عن العرب؛ تمهد لاستقدام الجماعات اليهودية لتستوطن فلسطين. ثم حدث هجوم مماثل في الشهر التالي، بعد ظهر يوم 14 شباط \فبراير. حيث دخلت قافلة صهيونية مكونة من عدد من العربات القرية وتبادلت إطلاق النار مع المدافعين عنها، مما أجبرها على الانسحاب؛ وفي اليوم التالي أقام القرويون في القرية حاجزًا عند مدخلها خوفًا من تكرار عملية الاقتحام الإسرائيلية، فحضرت قوة بريطانية وأزالت الحاجز بالقوة؛ وأصيب على أثر ذلك اثنين من سكان القرية بجروح خلال المناوشات مع القوة البريطانية.

ولكن للأسف فقد كانت الخطوة الأولى من الاحتلال الصهيوني لبرير عبر إقامة مستعمرة عسكرية خارج القرية مباشرة؛ على قمة تل يبعد أقل من ميل عن برير، وذلك في 20 نيسان \ أبريل عام 1948. وأورد مراسل صحيفة (نيورك تايمز) أن سكان القرية قد استيقظوا على وقع نصب اليهود منازل جاهزة، ويبنون حائطاً يتمترسون خلفه، وبرجاً للمراقبة وكان هؤلاء اليهود من قدامى المحاربين في الجيش البريطاني خلال الحرب العالمية الثانية الذين هاجروا إلى فلسطين.

وقد فتح بعض سكان القرية النار عليهم في محاولة لإجبارهم على المغادرة؛ إلا إن المنازل كانت عند الظهر قد ثبتت في مواضعها. وبعد هذا التاريخ بثلاثة أسابيع خلال ليل 12-13 أيار\ مايو 1948 م، هاجم لواء "هنيغف" (النقب) الصهيوني التابع للبلماخ القرية، وهي القوة المتحركة الضاربة التابعة لجيش الـ "هاجاناه"، الجيش غير الرسمي للـ "يشوف" أثناء الانتداب البريطاني على فلسطين بالتنسيق مع لواء غيفعاتي الذي يعد أحد الوية المشاة في جيش الاحتلال الصهيوني.

في شهادتها على النكبة وحادثة احتلال القرية روت الحاجة المرحومة فاطمة حسين الرزاينة في تقرير نُشر عام 2008 أنها كانت تبلغ من عُمرها وقت هجوم العصابات الصهيونية على القرية حوالي 11 عامًا؛ تقول: في أواسط مايو/أيار قبيل الفجر استفقنا على دوي انفجارات المدافع تهز القرية، وكان صوت الصراخ والنداءات في شوارعها، وأخذ كل من في البيت يصرخ للهرب .. حملت يومها يوسف ابن أخي محمود على ظهري وهربنا مع الناس لا نعلم وجهتنا .. لنلحق بالآلاف الذين فروا للنجاة بأرواحهم من قصف العصابات الصهيونية.. كنا نركض وسط حلكة ما قبل الفجر، كانت أقدام الناس تدب على الأرض مثل الخيول، كلٌ يحمل ما خف وزنه وثقل ثمنه، طوابير شيوخ وعجائز وأطفال وفتيات يهربون تاركين خلفهم كل ما يملكون، وكل يُذكر زوجته أو ابنته ما إذا كانوا نسوا أحدًا من الأطفال في الفراش، بعض النسوة عدن تحت القصف ليحملن أطفالهن بعد أن اعتقدن أنه مع أحد من أبناء العائلة! هكذا تصف فاطمة، التي استقر بها المقام في مخيم جباليا شمال قطاع غزة، آخر يوم لها قضته في وطنها وقريتها برير..

وتشير فاطمة إلى أن القرية قبل أن يُهجر أهلها، كانت تتعرض للقصف بشكل متقطع من مستعمرة 'برور حايل'، القريبة المحاذية للقرية، أو من قوافل الإمدادات العسكرية التي كانت تمر من القرية عندما يجابهها الثوار الذين أمروا الأهالي في المنازل المحاذية للطريق الرئيسة بالرحيل داخل القرية، وبعضهم رحل إلى حارات أكثر أمنًا بعيدًا عن الطريق التي تنتابها المناوشات بشكل مستمر.

وقد استمرت المناوشات بين الثوار والعصابات الصهيونية آنذاك أكثر من ستة أشهر .. ويرجع أصل النكتة التي يتم تداولها إلى يومنا هذا، بأن برير قاومت العصابات الصهيونية؛ لكون أهل القرية ولقلة إمكانياتهم وعدم توفر العتاد والسلاح قد عمدوا لوضع "الحرامات" في طريق الدبابات، لعرقلة تقدمها واستخدموا قطعًا حديدية وأخشابًا وجذورًا ضخمة للصبار.

وتذكر المرحومة فاطمة، أن الثوار كانوا يتخذون المنازل غير الآهلة بالسكان مواقع لهم ويعتمدون على أسلوب استهداف الدبابة أو المركبة العسكرية الأولى من الرتل، ما يعني توقف باقي الرتل فيتم استهدافهم بالأسلحة الخفيفة والقنابل اليدوية.

كانت المدافع والرشاشات الثقيلة تدك القرية من كل جانب، ومع كثافة القصف اليومي، وصل القرية عدد من الجنود المصريين، تمركزوا على سطح مدرسة القرية المحاذية لمنازل آل سرحان شرق القرية، قُضي عليهم جميعاً داخل المدرسة في يوم الحسم النهائي.

كان هول المشهد عظيمًا .. عشرات الجثث من البشر والأنعام ملقاة على الأرض والمئات شُردوا، بيوت نُهبت واُضرمت فيها النيران، تحولت القرية إلى كومة من الرماد في ساعات عدة، فالعصابات الصهيونية مارست فنون القتل دون تمييز .. هكذا روى أخو الحاجة فاطمة المشهد صباح اليوم التالي عندما تسلل للقرية ليحضر بعض الأموال التي كان قد نسي إخراجها من داره لحظة القصف بعد أن هرب أهالي برير إلى قرية حليقات المجاورة.

وكون برير كانت تُعد بمثابة عاصمة للقرى المجاورة التي كانت برير أكبرها؛ وكانت مركزًا من مراكز تموضع الثوار، وكان بيت المختار محمد الرزاينة (أبو نمر) مخزنًا للذخيرة؛ إلا أنه وبعد احتلالها وتهجير سكانها خاف أهالي القرى المجاورة، ونزحوا من قراهم فارين بحياتهم ليتمركزوا في مدينة المجدل كمحطة رئيسة في انتظار ما ظنوه بأن 'عودتهم قريبة' .. بعد أن تهدأ الأحداث.

73 عامًا مضت على نكبة الشعب الفلسطيني منذ العام (1948 حتى العام 2021) شارك في صناعتها العصابات الصهيونية والخذلان العربي الذي نجم عنه تدمير زهاء 500 قرية ومدينة، وتشريد مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين تشتتوا في أرجاء العالم وحل محلهم جنسيات مختلفة من شتى أنحاء العالم.

خرج فيما بعد عدد من سكان برير وهاجروا باتجاه الأردن ودول الخليج وليبيا والعراق، وعملوا في قطاعات متعددة في غزة مثل الزراعة والبناء والطوبار، أما في الخليج والأردن فعملوا في التعليم والتجارة والصحة والخدمات، ويعد المرحوم عبد العزيز عفانة وأولاده من كبار تجار اللحوم والمواشي حتى يومنا هذا، وأبناء عطا الله فلفل من كبار تجار مواد البناء، وأبناء سالم عيسى عبيد من كبار تجار الحبوب.