روايات أهل القرية - عين حوض/ من قرى الهيجاء - قضاء حيفا

من كتاب الى فلسطين - سمير ابو الهيجاء

ذاكرة منكوبة 

الحاجة أمينة دراوشه " ام عوض" 80 سنة، تسكن في قرية الفريديس تقول: انا اسمي الاول امينة ابو الهيجاء واصلي من قرية عين حوض،واليوم انا اتبع لزوجي من عائلة دراوشة المهجرة من قرية إجزم، ام عوض لا تفارق البسمة ثغرها رغم انها تحدث عن نكبة شعب وهي تتحدث دون أن تفقد الامل بحق العودة المقدس ولو بعد حين 

استهلت ام عوض حديثها عن اهالي عين حوض فقالت: كانوا يحبون بعضهم البعض، فاذا اراد احدهم ان يزوج ابنه ، يتجند اهل البلد للمهمة فهذا ياتي بالحطب وذاك بالماء وآخر بالطحين او المونة ويكون العرس بمساعدة الجميع، كذلك اذا توفي لاي انسان شخص من عائلته فكل القرية في حداد لا تنتهي فترته حتى ينهيها صاحب المصيبة ، اما في العيد كانت هناك عادة مشرفة كل الرجال يطوفون في البلد لزيارة الولايا " الأرحام" فانا كنت اشاهدهم ياتون لزيارة والدتي آمنه الحسن 

تضيف الحاجة ام عوض فتقول: كان هناك شيء جميل ان كل البلد شركاء في قطف المحصول ولا يكون قسسمة الا عند جني الثمر فمثلا في موسم الزيتون كل البلد تقطف الزيتون ولا شخص ياخذ زيتون لكنه يأخذ كل حصته زيت في المعصرة وكان في القرية معصرتي زيتون وكذلك في موسم الخروب وكل المحاصيل المبدأ يكون شراكه وكان اذا عائلة انهت جني محصولها لا تعود الى البيت وتتفرج على غيرها من العائلات بل تذهب لمساعدة من بحاجة لمساعدة فكنت تشبه البلد كخلية نحل الكل يعمل،  ومما يضيف على ذلك متعة ان النساء تصنع الطعام بالدور كل يوم تصنع الطعام امرأة اخرى وتحضره للعمال فيأكل الجميع بهناء

فترة الحرب

جاء مختار عتليت الى مختار عين حوض وكان يومها أحمد ابو الهيجاء (ابو محمود)  وطلب منه ان تسلم البلد لكن لم يتفق على ذلك ودخل اليهود على البلد، ونحن خرجنا الى منطقة "حجله" ووالدي كان نايم في البلد وكان شاب اسمه عطا النجيب طخوا اليهود في صدره ومات على الفور وكمان اليهود طخوا العجوز "حفيظة" كانت ضريرة .

وتضيف الحاجة ام عوض فتحدث عن حياتها بعد خروجهم من عين حوض فقالت كنا نعيش في حجله وكانت احدى قريباتي تقلي البامية للطبخ فطارت شرارة على الفراش واشتعلت النار بكل شيء بما في ذلك الفستان الذي كنت ارتدي فالنار اشتعلت في عنقي ولولا عمي ساعدني لاحترقت، وأذكر أن والدتي كانت قد خبأت نقود في احد فساتينها وأوصتني ان انتبه للفستان وادير بالي على اخوتي فاحترق الفستان والنقود، بعدها انتقلنا الى دالية الكرمل، وفي تلك الايام لم يكن معنا اموال لنعتاش فيها فطلب والدي من صديقه الذي استقبلنا في بيته ان يرافقه الى عين حوض ليحضرا ما خبأه والدي في بئر مهجورة وكان قد اسقط فراش وجالونات زيتون وامتعة كثيرة فاحضروها خلال يومين كما وكأننا سرقنا متاعنا .  تنهي ام عوض حديثه بأمنية حيث تمنت ان تعود الى عين حوض لتسكن في عريش وأوصت اولادها " ديروا بالكو على بعض وعلى الوطن "

من ذاكرة التاريخ ... قرية عين حوض على الكرمل نهضت من الموت بفضل شيخها أبو حلمي

 عين حوض قرية فلسطينية صغيرة على الكرمل جنوب مدينة حيفا لكن صمود أهلها وبقاءهم رغم التهجير والطرد والملاحقات تجسد قصة كبيرة وملحمية ويعود الفضل الأساس لبقاء المئات من سكانها وهم كافتهم من عائلة أبو الهيجاء للشيخ الراحل أبو حلمي الذي رحل عام 1982 لكن ذكراه بقيت وتخلدت مساهماته الكبيرة بفضل أحد أحفاده الكاتب سمير أبو الهيجاء الذي خصه ببعض كتبه وأبرزها “الشيخ الصامد”.

وقرية عين حوض احتلتها إسرائيل كالمئات من القرى الفلسطينية في النكبة، سيطرت عليها وورثت أراضيها وبيوتها وحتى اسمها (صارت تسمى عين هود) وهي اليوم مسكونة بفنانين يهود حولوا مسجدها وبعض منازلها لمعارض ومطاعم ومتاحف وملاه. غير أن بعض أهلها آثروا البقاء قريبا منها رغم القتل والترهيب وقبضوا على الجراح وبنوا بالتدريج قرية صغيرة مجاورة تحمل ذات الاسم وبقيت دون ماء ولا كهرباء معزولة ومقطوعة عن بيئتها حنى انتزع أهلها اعترافا بها بعد عقود وثبتوا بقاءهم. وعين حوض واحدة من الأجوبة الكثيرة والمتنوعة بل المركبة على السؤال الذي لم يجد جوابا شاملا كاملا لماذا بقي فلسطينيو الداخل رغم النكبة ولماذا هجرت اللد والرملة وبقيت الناصرة ولماذا بقيت سخنين وهجرت جاراتها نمرين وحطين؟

ورغم الأحداث التاريخية وحسب دراسات الكاتب أبو الهيجاء الذي اعتمد بالأساس على الرواية الشفوية كمصدر للكتابة التاريخية فقد نجح شباب قرية عين حوض بصد هجومين عليها خلال نيسان/أبريل 1948 وفي استرداد قريتهم بعد احتلالها من قبل العصابات الصهيونية لكن أهلها في المرة الأخيرة اضطروا للنزوح تحت قصف مكثف عن بعد فاستقر كثيرون منهم في بلدة دالية الكرمل المجاورة ووجدوا الترحاب لدى عائلات عربية معروفية لكنهم غادروها بعد حين إلى بلدات أخرى في الداخل وإلى الضفة الغربية.

الشيخ أبو حلمي

وبعد تهجير قرية عين حوض المشرفة على البحر المتوسط ومحاطة بغابات ومشاهد سويسرية بقي الشيخ الراحل محمد محمود أبو الهيجاء (أبو حلمي) في دالية الكرمل التي ربطته علاقات محبة واحترام مع أهاليها فأقام في بيت صديقه توفيق الناطور لكنه لم يبرح أراضيه في منطقة “الوسطاني” الممتدة على بضع مئات من الدونمات داخل الغابات شرقي قريته عين حوض فواصل رعاية كرومه فيها وفلاحتها هو وأبناؤه وأشقاؤه وأحيانا باتوا في بعض ليالي الأسبوع داخل كهوفها فيما بقيت النساء والأطفال (نحو 20 نفرا) في دالية الكرمل. وفي العام 1952 انتقل وكافة أفراد عائلته واستقر للعيش معه في “الوسطاني” التي صارت قطعة من روحه بحكم حبه للأرض وتحويلها لحديقة خضراء فيها كل أنواع الفواكه بالإضافة لكروم الزيتون. ويؤكد عدد من أبنائه وأحفاده أنه بفضل تصميمه على البقاء نجحوا في بناء قرية جديدة هناك وهي مجاورة لقريتهم الأصلية.

 تحت قيادة وحكمة الشيخ محمد محمود أبو الهيجاء (أبو حلمي) المولود عام 1903 استقرت العائلة الصغيرة في منطقة “الوسطاني” حيث سكنوا الكهوف والعرش والخشش والبراكيات وعاشوا على الزراعة والرعاية وإنتاج الألبان والأجبان وسط نمط حياة اشتراكي تشارك فيه أفراد الأسرة الرغيف والحلوة والمرة كما يؤكد الأبناء والأحفاد. وأبو حلمي والد لـ14 ولدا وبنتا من سيدتين، رجل صلب وجهه متوهج البياض طويل القامة عيناه زرقاوان ولحيته كثيفة قرر منذ اليوم الأول اختراق حدود اليأس والمستحيل ليثبت نفسه وأقاربه في المكان الأقرب لمسقط الرأس وهكذا ولدت من جديد قرية عين حوض.

 الشيخ الصامد

كابد أهالي عين حوض ما لا يطاق من تضييق الخناق ومصادرة أراضيهم في منطقة “الوسطاني” وحرمانهم من مزارعهم وتضييق الخناق عليهم ومحاولة مساومتهم على البقاء من قبل السلطات الإسرائيلية مقابل التنازل عن ملكيتهم في قريتهم الأم ناهيك عن اعتقاله وأبنائه الثلاثة عقب احتلال 1948 بعد اتهامه بنقل ودفن جثتي ضابط صهيوني (موشيه لازروفيتش) وزوجته برورية بعدما اتهم القيادي في الثورة الفلسطينية الكبرى يوسف أبو درة خلال مهاجمته سجن عتليت عام 1938. وصمد الباقون من عائلة أبو الهيجاء بقيادة ورعاية أبو حلمي في عين حوض الجديدة رغم الجوع والبرد والحر والحرمان من الماء والكهرباء وحبة الدواء طيلة عقود فبنوا بيوتهم من طين ثم الأسمنت وبنوا مدرسة وجامعا وثبتوا أقدامهم في المكان بالخطوة خطوة.

النهوض من الرماد

ومن ضمن عمليات توثيق الحياة اليومية في جبل الكرمل يروي سمير أبو الهيجاء أن حسين عبد الرحيم سمارة من طيبة بني صعب لعين عوض وصل عام 1962 موفدا كمعلم من وزارة المعارف الإسرائيلية التي استجابت أخيرا لطلب الأهالي بعد مداولات ومراجعات حثيثة بفتح مدرسة لأطفالهم ممن اضطر بعضهم السير على الأقدام بضع كيلومترات يوميا وسط الغابة لمدرسة دالية الكرمل.

ووفقا لهذه الرواية وفي خطوة كريمة منه أخلى الشيخ أبو حلمي غرفته ومنحها للمعلم حسين سمارة ليستقر فيها معلما وحيدا في “مدرسة” القرية أما هو فأقام داخل براكية. يستذكر ابن عين حوض سمير أبو الهيجاء ذاك اليوم بالقول “كنت طفلا برفقة جدي الذي هرع لاستقبال المعلم الجديد حسين سمارة وصاح الأولاد: “صار عنا مدرسة”. ركضنا إلى أمهاتنا نريد تحضير الحقائب لصباح اليوم التالي فأخذت كل أم تخيط لابنها “ربعة” وهي عبارة عن قطعة قماش تعلق في كتف التلميذ وفيها كتبه وقرطاسيته. في شهادة تاريخية مفصلة يعكس المعلم الأول حسين سمارة ملحمة صمود أهالي عين حوض أمام مصاعب ثقيلة مشيرا لدور الشيخ أبو حلمي بذلك بالقول: “قامت السلطات الإسرائيلية بمصادرة الجبل الذي يقيم فيه أبو حلمي وعائلته ووضعت حائلا من الأسلاك الشائكة لتحيط بيوت القرية وتمنع انتشارها ثم غرسوا الجبل بالأشجار الحرجية وكل ذلك لم يفت من عضد الشيخ ولم تضعف عزيمته وكان يظهر كالطود الشامخ.

 كنت شاهدا

 ويمضي سمارة في استرجاع هذه الضغوط ضمن سرد مطول: “كانت الضغوط على الشيخ لا تنقطع والمداهمات لا تتوقف، وفي أحد الأيام في ستينيات القرن الماضي حضرت سيارتا شرطة قبيل المساء إلى القرية ونزل أشخاص يحملون أوراقا وطلبوا من الشيخ أبو حلمي التوقيع عليها فبادرهم بالسؤال تريدونني التوقيع مصفيا أرضي؟ في هذه اللحظة انفجر متحدثا بصوت عال: هذه أرضي إذا لم آخذها أنا سيأخذها ابني وابن ابني، أنا لا أوقع على أوراق. فقال أحدهم: أنت تصرخ على قضاة محكمة مركزية. فرد الشيخ بصوت مرتفع: حتى لو كنتم قضاة محكمة عليا. بعدما غادروا المكان قال لي وهو يقسم: لو يطير رأسي عن جسدي لن أتنازل عن 500 دونم أملكها في قرية عين حوض المحتلة ويضيف “كنت شاهدا على قصص المقاومة والبقاء لدى هذا الشيخ المحب للأرض حبا متميزا”.

المعركة على الرواية

رغم حيازة الأهالي أوراقا ثبوتية لأراضيهم في “الوسطاني” صادرتها السلطات الإسرائيلية بذرائع مختلفة في ثمانينيات القرن الماضي واضطروا للتنازل عن الزراعة والانتقال لمصادر عمل أخرى. ورغم الاعتراف بها في تسعينات القرن المنصرم كقرية رسميا لا زالت عين حوض بلا مدرسة ثانوية ولذا يضطر طلابها للبحث عن فرصة للتعلم خارجها حتى اليوم لكن تجربة من تعلموا في العقود السابقة كانت تجربة مرة.

في واحدة من زيارات كاتب هذه السطور لعين حوض قبيل الاعتراف بها كان ولدا رئيس لجنة جمعية “الأربعين” محمد أبو الهيجاء (حفيد الشيخ أبو حلمي) عمار وياسمين يضطران كل يوم أن يستيقظا مبكرا جدا في الصباح من أجل السير مشيا على الأقدام من قريتهم عين حوض حتى كيبوتس “نير عتسيون” المجاور ومنه ينتظران توصيلة للشارع الرئيسي تل أبيب- حيفا وفي المحطة المركزية للحافلات في حيفا استقلا باصا داخل المدينة أقلهم لمدرستهم وهكذا في الإياب.

وبسبب قصر النهار في أيام الخريف والشتاء كان بيتهم الصغير يشهد “معركة على الضوء” بينهما فكل منهما يريد القنديل كي يعد واجباته المدرسية ولم يكن سوى قنديلين واحد لهما والثاني لبقية الأسرة في ظل عدم وجود تيار كهربائي. كبر وتخرج عمار وياسمين وصارا اليوم أخصائي حاسوب ومحاسبة وكون كل منهما أسرة.

لم يكن البقاء بمجرد التصميم على عدم الرحيل في وجه احتلال مارس الترهيب عام 1948 بل هو الاستمرار في البقاء والتطور رغم تضييق الخناق وممارسة صنوف الظلم والترحيل الصامت طيلة سنوات كثيرة بعد احتلال 1948. وبمثابرتهم المؤمنة بعدالة قضيتهم انتزع أهالي عين حوض عام 1992 اعتراف السلطات الإسرائيلية بها واليوم بات أهلها بأجيالهم الأربعة يعدون اليوم نحو 300 نسمة (كانت عين حوض الأصلية قبيل تهجيرها تعد نحو 850 نسمة) تضاف لهم بعض العائلات التي غادرت إلى قرية الفريديس ومدينة طمرة بحثا عن سكن في السنوات الماضية، بعدما كان تعداد عائلة أبو حلمي في نهاية 1948 لا يتعدى العشرين نفرا.

قصة ملحمية

وفيما سطر الشيخ الراحل أبو حلمي ملحمة كبيرة على أرض الواقع فإن حفيده الكاتب سمير أبو الهيجاء يكرس الكثير من طاقاته وأوقاته وعلى حساب احتياجات أسرته من أجل توثيق هذه التجربة الإنسانية الملهمة وحتى الآن صدرت عنه تسعة كتب آخرهما “حراس الذاكرة” و”الشيخ الصامد”، سبعة منها لتوثيق تاريخ البلدة والمنطقة والبلاد واثنان منها عن الأسرى (شموخ الأحرار وحكايات صمود).

ويوضح أبو الهيجاء أنه مستمر في إنجاز الدراسات التاريخية رغم أعبائها الثقيلة ويضيف: “يسري هذا التوثيق في عروقي وكلما أسمع أو أقرأ عن مزاعم الجهات الإسرائيلية حول قضيتنا أزداد تمسكا بالبحث عن الرواية الشفوية التاريخية الفلسطينية وهي بنظري لا تقل أبدا عن المصادر المكتوبة بل تتفوق عليها أحيانا”. ولذا لا يأبه أبو الهيجاء بالعقبات والنفقات فيبحث في البلاد وفي الشتات عن كل من يتمتع بذاكرة ويلف بين المخيمات كي يجمع تفاصيل الرواية علما أن أبناء عائلته قد تفرقوا أيدي سبأ في الوطن والشتات ومنهم من يقيم في دول عربية وفي الولايات المتحدة وكندا وغيرها.

عين حوض الجديدة

ويشير أبو الهيجاء باعتداد أن بلدة عين حوض الجديدة باتت قرية فيها 80 بيتا تعدادها بضع مئات منوها لفضل الشيخ الراحل جده أبو حلمي الذي لم يبادر أحد لتكريمه لا في حياته ولا مماته ويتابع “لذا أشعر بنوع من راحة الضمير حينما أوثق هذا المشروع الكبير في البقاء والتطور في الكرمل وهو الشيخ الأصيل الذي رفض التحدث بكلمة عبرية واحدة حتى رحل وهو صاحب ملامح عمر المختار”.

 

لماذا أوثق

أما مسجد عين حوض فصار ملهى ومقهى وخمارة بعدما هدموا بعض ملامحه كالمحراب والمنبر والدرج وأسموه “المضافة”. وعين حوض التي كانت تملك 14000 دونم فقد اعتاشت على الزراعة والرعاية وتحدها من الشرق القريتان دالية الكرمل وعسفيا وبعض القرى المهجرة كالمزار وعين غزال واجزم وهي مشرفة على البحر الأبيض المتوسط وهي الأخرى وجدت نصيبا لدى سمير أبو الهيجاء في توثيق ذاكرتها الشفوية لقلة أو عدم وجود يوميات ومذكرات مكتوبة لدى أهلها ولذا يخص بالقول “أنا أوثق كي تبقى الذاكرة فإن أردت شطب شعب فعليك طمس أو تشويه لغته وثقافته وروايته”.