التاريخ النضالي والفدائيون - البيرة - قضاء رام الله

الأوضاع السياسية ومقاومة الانتداب البريطاني والصهيونية

عرفت البيرة بولائها للدولة العثمانية، وقد تشكّل فيها طابور البيرة العسكري الذي كان يقاتل مع الجيش العثماني، لذا لم يكن أهالي البيرة ليرحِّبوا بالاحتلال الإنجليزي. وبعد احتلال البيرة قامت السلطات العسكرية البريطانية بإبعاد اثنين من شيوخ البيرة، هما: رشيد العلي وعامر محمد العامر، إلى مصر، بسبب موقفهما المؤيد للعثمانيين. يورد صالح عبد الجواد تفاصيل عن عملية الإبعاد هذه تبيّن أنّها جرت بعد زيارةٍ قام بها حاكم القدس رونالد ستورز للبلدة واجتماعه بشيوخها وسؤاله لهم حول موقفهم من الإنجليز والعثمانيين، ويبدو أنّه غضب من جواب العلي والعامر، اللذين أفادا بأنّهما يفضلان العثمانيين على الإنجليز بحكم الدين والمذهب فتحت. الحكومة الإنجليزية مكاتبها في البناية المقابلة لملعب مدرسة الفرندز، فأقام في هذه البناية حاكم اللواء ومساعدوه.

   ترك لنا ابن البيرة محمد حمّاد تقويماً عامّاً لموقف أهل البيرة من الاستعمار البريطاني، فكتب يقول إنّهم قاوموه ووقفوا في وجهه، وإنّهم حملوا الكراهية للإنجليز، “فسرت في كل عرق من عروقنا وتغلغلت إلى اللحم إلى أن مازجت الدم”. ويضيف أنّه ما إن “نادى منادي الجهاد، إلاّ وكان أبناء البيرة في الطليعة. وما إن أسفرت بريطانيا عن وجهها المبرقع الخداع، حتى بادر أهل البيرة إلى وقفةٍ عدائيةٍ في وجه الإنجليز. لقد كانت هذه الوقفة قبيل 1920، وتكررت في كل انتفاضة انتفضها عرب فلسطين من أجل حريتهم واستقلال بلادهم”. على أنَّ هذا الموقف البيراوي العام لم يمنع بعض من أطلق عليهم خليل السكاكيني لقب صعاليك رام الله والبيرة من الطواف في شهر أيّار 1919م على القرى المجاورة يحملون مضابط بطلب إنجلترا للوكالة على الشعب الفلسطيني. ويروي السكاكيني نقلاً عن عمر الصالح البرغوثي أنَّ هؤلاء الصعاليك “كانوا إذا جاءوا قريةً من قرى بني زيد قال لهم الناس لا بدَّ أن نستشير عمر أفندي،” فما كان منهم إلاّ أن رفعوا الأمر لحاكم لواء رام الله الذي أرسل قوةً من البوليس بقيادة إميل تماري لتفتيش بيت عمر الصالح في قرية دير غسّانة، وحين وجدوا معه أعقاب قنابل نحاسية، قدّموه للمحكمة التي حكمت عليه بغرامة خمس ليرات ذهبية، وعلى أخيه الذي وجد هذه الأعقاب بالسجن ثلاثة شهور لأنَّه لم يسلِّمها للحكومة.

شارك أهالي البيرة في كافة النشاطات السياسية، مثل رفع العرائض الاحتجاجية للحكومة، والمؤتمرات الوطنية. كما شاركوا في كل الثورات المسلّحة التي قامت لمناهضة سياسة حكومة الانتداب البريطاني الهادفة لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، وفي المعارك التي حصلت بعد صدور قرار التقسيم سنة 1947م. كما شارك مغتربو البيرة في التبرع للقضية وفي الدعاية لها خارج الوطن العربي. يقول محمد أحمد حمّاد، صاحب أول كتاب أرّخ للبيرة، إنّ أهلها شاركوا في ثورة 1921م وثورة 1929م، وإنَّهم قاموا بدورٍ فعّالٍ في إضراب 1936م. وحسب عبارة حمّاد، فإنّه “لم يخرج من أبناء البيرة [خلال العهد البريطاني] من راح ينافق أو يتظاهر بالرضا لأعمال المستعمرين”.

تزوّد بعض المصادر بمعلوماتٍ حول مشاركة البيرة في المؤتمرات الوطنية والإسلامية، ومنها المؤتمر الفلسطيني السادس المنعقد في يافا بتاريخ 16 حزيران 1923م، وحضره 72 عضواً، وشارك فيه عبد الله الجودة مندوباً عن منطقة البيرة ورام الله.

شاركت البيرة أيضاً في انتخابات المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى التي جرت سنة 1926م، وفي المؤتمر الإسلامي للدفاع عن المسجد الأقصى، والأماكن المقدسة المنعقد بالقدس في الأول من تشرين الثاني سنة 1928م. وكان عبد الله الجودة يمثلها، وقد شاركت في المؤتمر حوالي 700 شخصية فلسطينية. وفي سنة 1929م، نشبت أحداث ثورة البراق بعد اعتداء اليهود على الحائط الغربي للمسجد الأقصى (حائط البراق)، ومظاهرتهم الضخمة التي أقاموها في 14 آب في تل أبيب في ذكرى خراب هيكل سليمان، ثمّ المظاهرة التي أقاموها بالقدس في اليوم التالي وتوجهوا خلالها لحائط البراق ورفعوا العلم الصهيوني وهتفوا “الحائط حائطنا”، وأنشدوا النشيد القومي اليهودي (الهاتكفا). وقد أدّت هذه الأمور إلى نشوب حوادث عنفٍ بين المسلمين واليهود في القدس والخليل وصفد، فيما عرف بهبّة البراق، وقد دافعت قوات الانتداب البريطاني عن اليهود وقامت بقتل عشراتٍ من العرب. وكما ذكر سابقاً، فقد شاركت البيرة في هذه الهبّة وفي الاحتجاج على اعتداء اليهود الصهاينة على البراق، كما شارك غيرها من قرى قضاء القدس، ومن أنحاء متفرقة من فلسطين. وحسب وصف محمد حمّاد، الذي كان فتىً يافعاً من فتيان البيرة حينها، فإنّ أبناء البيرة استجابوا لداعي العروبة، فتقاطر الشباب والرجال “على البيرة لتنطلق منها إلى مستعمرة قلنديا وإلى القدس على وقع أغاني النساء وزغاريدهن”. ويستطرد حمّاد في وصف ما حدث فيقول:

ويدفعني حب الاستطلاع وتقليد الرجال إلى الاندفاع في إثر الذاهبين للنضال فألحق بهم، ثمّ أتوقف مع فريقٍ منهم بين الصخور إلى الشرق من مستعمرة قلنديا، حيث أخذ نفرٌ من ذوي الكلمة المسموعة في إعداد خطة الهجوم. وضعت الخطة واندفع الأشاوس من أبناء البيرة والقرى المجاورة ينفذونها، ولكنَّهم ما إن شرعوا في ذلك التنفيذ حتى رأيت ضابطين يقفان أمامهم ويدَّعيان أنهما للمهاجمين من الناصحين. لقد قالا إنَّهما عربيان مثل المهاجمين ويهمهم أن تنجح الخطة ويزول هذا الدمل من الجسم العربي، وإنَّهما يريان أن ينتظر المهاجمون بعض الوقت ريثما يطلع الفجر فيتمكنون من الرؤية ويستطيعون عندئذ الوصول للهدف”.

ويعتبر حمّاد أنَّ هذا كان بمثابة خديعةٍ مارسها الضابطان على المهاجمين العرب، فمع طلوع الفجر، “كان عددٌ من الدبابات البريطانية يحيط بالمستعمرة المشمولة بالحماية والرعاية البريطانية”. بيد أنّ هذه الخديعة لم تمنع المهاجمين من الاستمرار فيما عزموا عليه، فقد “استشاطوا غضباً واندفعوا في هجومٍ جنونيٍّ، وراح الرصاص يئزُّ في كل مكانٍ كالمطر المنهمر، واندلعت الحرائق تحدق بالمستعمرة من كل الجوانب، ولم يرجع المقاتلون إلاّ بعد أن دمّروا معظم بيوت تلك المستعمرة”.

في عام 1931م، عقد المجلس الشرعي الإسلامي الأعلى مؤتمراً إسلاميّاً عامّاً برئاسة الحاج أمين الحسيني، وبمشاركة ممثلين عن المسلمين في أنحاء عديدةٍ من العالم ومن فلسطين، وقد قرّر المؤتمر تأسيس فروعٍ له في المدن والبلدات الفلسطينية، وكانت البيرة إحدى هذه البلدات. وحين أقيم حفل تأسيس لجنتها للمؤتمر، حضر رئيسه الحاج أمين للحفل وألقى خطاباً أكد فيه أهمية تأليف لجان المؤتمر، معرباً عن اعتقاده بأنّه عن طريق هذه اللجان يتوحد المسلمون، وقال إنّ هذه الملايين من المسلمين الذين لو توحدوا لكان بإمكانهم أن ينهضوا بالأمَّة، وأن تكون لهم مكانةً عظمى بين العالم. وأكد الحسيني أنّ إنشاء اللجان ليس له أية غاية حزبية أو شخصية.

مقاومة بيع الأراضي لليهود

قام وعّاظ المجلس الإسلامي الأعلى بدورٍ كبير في محاربة بيع الأراضي للشركات الصهيونية. ويتوفّر تقرير كتبه واعظ منطقة رام الله والبيرة عن زيارته لقرية البيرة بعد ظهر يوم الثلاثاء الواقع في 18 رمضان 1353هـ، الموافق 25 كانون الأول 1934م، وقد ذكر الواعظ أنّه توجه عند وصوله إلى مسجد البيرة، مسجد العين، وفي صلاة العصر اجتمع عددٌ كبيرٌ من شيوخ البيرة ووجهائها وشبّانها، وحسب ما كتبه الواعظ، فقد ألقى عليهم خطاباً جامعاً بعد تأدية الصلاة جماعة، تحدَّث فيه عن “وجوب التمسك بالدين والاحتفاظ بالأراضي التي هي تراث آبائنا المجاهدين”. ويقول الواعظ إنّ جميع الحاضرين وقفوا في الختام “وأقسموا بالله على كتابه الكريم معاهدين على عدم بيع أي شبر من أرضهم لليهود ولا للسماسرة الخونة”. والثابت تاريخيّاً أنَّ أهل البيرة لم يفرِّطوا بأيِّ دونمٍ من أرضهم للصهاينة.

مشاركة البيرة في ثورة 1936-1939م

بعد نشوب الثورة سنة 1936م وإعلان الإضراب العام في كافة أنحاء فلسطين، شاركت البيرة بالإضراب والثورة، فأقفلت متاجرها، “وجنّدت نفراً من شبابها لمراقبة إقفال المتاجر ومتابعة عدم البيع لليهود والإنجليز”. ومن ناحية العمل الثوري المسلّح، فقد تشكّل فصيل كبير مشترك من رام الله والبيرة، قام بمهمة حفظ النظام في المنطقة، كما كان يقوم “بهجمات مستمرة على منشآت الحكومة وعلى قوافلها”. وقد استمر هذا الفصيل في جهاده طيلة سنوات الثورة الفلسطينية 1936-1939م، إلى أن نشبت الحرب العالمية الثانية، حيث اضطر هؤلاء المجاهدون إلى إلقاء السلاح.

على المستوى السياسي، وحين تشكلّت لجان قومية في المدن والبلدات الكبيرة من أجل تنظيم الإضراب وقيادة الأهالي في مواجهة حكومة الانتداب البريطاني، عملت رام الله والبيرة على تشكيل لجنةٍ مشتركةٍ ضمَّت عضواً واحداً من رام الله هو حنّا خلف، وأربعة أعضاء من البيرة هم: عبد الله الجودة، وسليمان عبد الرحمن، ونجيب عيدة، وعيد الموسى. ويورد أكرم زعيتر في يومياته تفاصيل حول المباحثات التي جرت خلال مؤتمر اللجان القومية الذي عقد يوم الخميس 7 أيّار 1936م في كلية روضة المعارف بالقدس. وقد تناولت المباحثات الاستمرار بالإضراب العام، والامتناع عن دفع الضرائب للحكومة البريطانية. وقد تكلّم عبد الله الجودة باسم اللجنة القومية لرام الله والبيرة، ضمن العديدين من أعضاء اللجان القومية، معلناً تأييد اللجنة لاتخاذ قرار بالامتناع عن دفع الضرائب. واتخذ المؤتمر بعد المداولة القرار التالي: “قرر المؤتمر بالإجماع الامتناع عن دفع الضرائب اعتباراً من 15 مايس [أيّار] سنة 1936م إذا لم تغيِّر الحكومة البريطانية سياستها تغييراً أساسياً تظهر بوادره بإيقاف الهجرة اليهودية”.

ساءت أحوال الأهالي الاقتصادية خلال الإضراب الذي أعلنته اللجان القومية والقيادة السياسية الفلسطينية، ويستدل من سجل قرارات مجلس بلدية رام الله على أنّ أوضاع الأهالي كانت سيئةً نتيجةً للإضراب وتعطل المصالح الاقتصادية والتجارية لهم. وقد جاء في القرار رقم 25 المؤرخ في 7 أيار لسنة 1936م أنّ المجلس بحث في الفاقة والجوع الذي أحاق بفقراء رام الله، والعاطلين فيها عن العمل بسبب الإضراب العام في فلسطين وتعطيل الأشغال، ما سبب عطلاً كثيراً، وقد وجد المجلس “أنَّه لا بدَّ من إسعاف مثل هؤلاء أسوة بسائر البلديات، فجرت المذاكرة وتقرر مجلسياً بالاتفاق صرف مبلغ خمسة وعشرين جنيهاً فلسطينياً من ميزانية بلدية رام الله للسنة الحالية 36/37”. ويكشف هذا القرار، المتعلِّق برام الله، أنَّ الوضع في البيرة لم يكن أحسن، لتقارب المستوى الاقتصادي والظروف المعيشية بين البلدتين، فضلاً عن الالتصاق الجغرافي. وقد امتدَّ الضيق للثوار الذين انقطعوا عن أعمالهم وتفرغوا لمقاومة الإنجليز. ويذكر دروزة نقلاً عن البلاغات الحكومية البريطانية والصحف الفلسطينية الصادرة بتاريخ 23 أيلول 1936م أنَّ المسلَّحين داهموا بيت ثريٍّ من البيرة يدعى “أبو مرارة” وأخذوا منه 400 جنيه، وفرضوا عليه غرامة مقدارها 1000 جنيه أخرى لدعمه الثورة.

بعد توقف الثورة وانتهاء الإضراب في تشرين الأول 1936م، انتظر الشعب الفلسطيني تنفيذ وعد بريطانيا له بالاستجابة لمطالبه بوقف الهجرة اليهودية والتأسيس لاستقلال فلسطين، الذي نقله إليهم الملوك والأمراء العرب الذين ناشدوه وقف الثورة والإضراب عبر ندائهم الشهير، بيد أنّ لجنة بيل البريطانية الموكلة بالتحقيق في الأوضاع التي أدت للثورة أصدرت توصيتها في السابع من تمّوز 1937م بتقسيم فلسطين بين العرب واليهود، وقد رفض العرب هذا القرار واستأنفوا ثورتهم، وقاموا في 29 أيلول باغتيال لويس آندروز حاكم لواء الجليل المعروف بميوله الصهيونية وبتأييده لليهود على حساب العرب، وقتلوا معه مساعده وهما خارجان من الكنيسة بالناصرة، فقامت الحكومة البريطانية في فلسطين بعد يومين من الحادث بحلّ اللجان القومية، وحل اللجنة العربية العليا، وعزل الحاج أمين عن رئاسة المجلس الإسلامي الأعلى. وقد شاركت البيرة العديد من القرى في الاحتجاج على هذا القرار، ففي تاريخ 15 تشرين الأول 1937م رفع مخاتير ووجهاء قرى شعفاط وبيتونيا وبيت عنان ودير جرير وعناتا وبيت صفافا وأبو غوش والجيب وبيت حنينا وجبع ولفتا وطوباس وأبو ديس وكفر عقب وسنجل وبلاطة وصفا وعين كارم والبيرة وترمسعيا وسردة وبيتين والمجدل وجلجولية وعبوين ومزارع النوباني وعارورة وبيت ريما وعابود، عريضة احتجاج للقائم بأعمال حكومة الانتداب بواسطة حاكم لواء القدس يحتجون فيها على قرار حل اللجنة العربية العليا.

ومع استئناف الثورة، عاد شباب البيرة وأهلها للقيام بالواجب الوطني بالدفاع عن أنفسهم وديارهم، ففي تلك الفترة، طوّق الجيش البريطاني قرية سلواد، وقام بأعمال تخريبية فيها أثناء تفتيشه لبيوتها، ومنها إفساده للمخزون الغذائي للفلاحين، ثم قام باعتقال 40-50 رجلاً من القرية، بدعوى أنهم من الثوار، وقام الجيش بنقل المعتقلين لمدرسة البيرة، فهرع أهلها وأهل رام الله إلى المدرسة يحضرون الطعام والماء والشراب للمعتقلين. ولم يقتصر الأمر عند أهل البيرة على دعم المتضررين من إرهاب القوات الإنجليزية، بل أظهر شباب البيرة ومقاتلوها شجاعةً وبسالةً فريدة في مواجهة هذه القوات، ويورد حمّاد قصّةً يعتبرها دالّةً على هذه البسالة أثناء هذه الثورة، تتلخص في أنّ مقاتلَيْن من شباب البيرة كمنا لمصفحةٍ بريطانية كانت تنقل من سجن القدس اثنين من المجاهدين لسجن عكّا لتنفيذ حكم الإعدام فيهما، وهدف المقاتلان تحرير هؤلاء السجينان. يروي حمّاد تفاصيل الحادثة كالتالي:

تمنطقا سلاحهما، ثمَّ التفّا بعباءتيهما وأخذا يترقبان الخبر من مركز المراقبة بانطلاق المصفحة من سجن القدس لعكا. لم يصلهما الخبر، ولكنهما بدلاً من ذلك فوجئا بالمصفحة وهي على بعد أمتارٍ منهما، وعندئذٍ لم يريا بدّاً من مباشرة عملهما الذي وقفا من أجله. انتظرا إلى أن أصبحت المصفّحة موازيةً لهما، ثمّ انبطحا على الأرض وأرسلا نيرانهما كالمطر على المصفّحة، وحمي الصراع بينهما وبين راكبي المصفّحة، وهنا تمكّن السجينان من التسلل من الدبابة والقيود في يديهما فارين إلى مكانٍ أمين، حيث كسرت قيودهما وحررا من سجنٍ وقيدٍ كانا نذيرين بانتهاء حياتهما”.

لا تُعرَف الكثير من التفاصيل حول وضع الثورة في منطقة جبال رام الله والبيرة وقراهما في المرحلة الثانية من الثورة، ولكن يتضح بشكلٍ عام أنَّ الثوار انتظموا في هذه المنطقة ومباشرةً منذ تشرين الأول 1937م تحت قيادة ثائرين: سعيد شقير، من قرية بيتونيا، ومحمد عمر النوباني (أبو عمر)، من مزارع النوباني، وعمل كلاهما لاحقاً بعد تنظيم الثورة من قبل المفتي ورجاله الذين شكَّلوا لجنة الجهاد المركزية بدمشق للقيام بهذه المهمّة والإشراف على الثورة وشؤونها، تحت قيادة عبد القادر الحسيني، الذي عيَّنته اللجنة قائداً عامّاً لمنطقة جبال القدس والخليل، وكان شباب البيرة يشاركون مع هؤلاء المجاهدين ضمن مجموعة خاصَّة يقودها المجاهد عبد الدايم عبد الصمد.

نظّم شقير مع عددٍ من المجاهدين معه فصيلاً للثورة، وشنّوا هجوماً مع فصيل النوباني على مركز البوليس البريطاني في رام الله، ثمّ أخذ سعيد بعد ذلك يطوف قرى قضاء رام الله ويحضّ أهلها على الانضمام للثورة أو التبرع لها بالمال، ويصف نجاحه في ذلك بقوله: “كنت محبوباً بين معارفي، فأصبحت مسؤولاً عن قسم كبير من قضاء القدس ورام الله والرملة. واستطعت أن أجمع حولي عدداً ليس بقليل من الشبان المسلحين”. وقد قاتل مع سعيد شبابٌ مسلَّحون من قرى رام الله، لا يُعرَف على وجه التحديد عددهم، فسعيد نفسه لا يذكر عددهم، لكنه يقول إنّ عددهم ليس بالقليل. وقد خاض هؤلاء الشباب معارك عديدة ضد قوات الجيش الإنجليزي في منطقة رام الله، فاستشهد عدد منهم وجرح آخرون، ونجت البقية.

ذكرت المصادر التاريخية بعض التفاصيل عن إحدى المعارك التي حصلت على أراضي البيرة وهي معركة وادي شيبان، الواقع في القسم الشرقي من أراضي البيرة قرب قرية بيتين المجاورة، وقد جرت في 10 أيلول سنة 1938م، شارك في هذه المعركة مقاتلون من قرى عديدة، مثل سليمان عبد الله عثمان البياع، وهو قائد فصيل من قرية كفر مالك، كما شارك بها عبد العزيز أبو السعود، وهو ثائر من قرية دير دبوان. وقد استخدمت القوات البريطانية الطيران في هذه المعركة، فقامت ست طائرات بقصف مجاهدي البيرة والمنطقة بقنابلها وهم في العراء لا يخفيهم شجر ولا مبانٍ، حيث كانوا متوجهين لنصرة المجاهدين المشتبكين مع الجيش في الوادي، وقد أدى قصف الطائرات لاستشهاد خمسة وسبعين مقاتلاً فلسطينياً، في حين قتل عددٌ كبير من الجنود الإنجليز. ويتبيَّن من المصادر أنَّ كلاًّ من النوباني وشقير اشترك في قيادة هذه المعركة.

أورد القائد الفلسطيني فائق ورّاد، وهو من قرية بيتين المجاورة، بعض تفاصيل المعركة، في مذكراته، وكان بلغ حينها اثني عشر عاماً من العمر، ذكر أن “فصيلاً من الثوار بقيادة محمد العمر [النوباني] انتشر في منطقة رام الله والبيرة مع مجموعة من الثوار، الأمر الذي دفع بالجيش البريطاني إلى القدوم من القدس نحو رام الله، بمساعدةٍ بريةٍ وجويةٍ، فجرت اشتباكات عنيفة بين الثوار وجيش الاحتلال،” وقال ورّاد إنَّ مجموعاتٍ كبيرةً من الفلاحين من القرى المجاورة هبَّت مع اشتداد المواجهة لمساعدة الثوار وإسنادهم. “أغلق الثوار المدارس حفاظاً على أرواحنا، وعدنا نحن الطلاب إلى بيوتنا قبل الظهر”. ويقول ورّاد إنَّ المعركة انتهت بعد مساء ذلك اليوم “بسقوط عددٍ كبيرٍ من الشهداء، وعددٍ أكبر من الجرحى، واندفع الناس من القُرى لِحمل الشُهداء والجرحى من أرض المعركة، كانوا يحملونهم على الحمير والبغال ويبعدونهم عن عيون الجيش أو الجواسيس، فأخفوهم في بادئ الأمر في جامع القرية لمداواة الجرحى”. ولكن عدد الأطباء، حسب ورّاد، كان قليلاً في المنطقة، كما أن الطرق بين القرى كانت خطرةً وصعبةً، ورغم ذلك فإنَّ “الأهالي استطاعوا أن يسعفوا الجرحى بما تيسر من وسائل تحت ضوءٍ شحيحٍ جداً، وبسرعة، خوفاً من هجوم الجيش البريطاني على الجامع ومن ثم اعتقالهم، لهذا نقلوهم مرةً أخرى من الجامع إلى خارج القرية حيث توجد المغر والكهوف”. ويتابع ورّاد وصف الحالة مع هؤلاء الجرحى، فيقول إنَّ الأهالي تابعوا حالتهم “من حيث توفير الطعام والشراب والعناية بهم، فصار الواحد منهم يذهب إلى الجريح من الصباح إلى المساء، ثم يأتي آخر ليحل محله،” ويُضيف أنَّه كانت لجدِّه “بغلة قوية استعملها أهالي القرية في نقل الجرحى من مكان المواجهة إلى الجامع ومنه إلى الكهوف البعيدة”. أمّا عن عدد الشهداء الذين سقطوا برصاص القوات الإنجليزية، فيقدّرهم ورّاد بأكثر من عشرين شهيداً، وهو رقمٌ أقلُّ بكثير من العدد الذي ذكرته مصادر أخرى، وحسب ورّاد، فقد كان من بين الشهداء أربعةٌ من قرية بيتين “هم: راضي مصطفى شحادة، وسعيد جمعة صافي، زعيد ياسين محمد، ونسيم عبد الله ظاهر”، ومن قرية دير دبوان استشهد ثمانية أشخاص، ومن قرية برقة ثلاثة أشخاص، وكان من قرية بيتين ثلاثةٌ من الجرحى “وهم: إسماعيل بدران علي بدران، وشاكر خليل أحمد ظاهر، وعبد الهادي عبد الجابر هويدي”. وذكر ورّاد أنَّه مع غياب الشمس بدأ الناس بنقل الجرحى وإسعافهم، ونقل الشهداء ودفنهم، وبكلمات ورّاد:

قام الجمهور بجمع البغال والحمير لنقل الجرحى والشهداء، وكنت آنذاك فتىً صغيراً متحمساً للذهاب إلى مكان المعركة لمشاهدة ما حدث. منعني أهلي من الذهاب خوفاً عليَّ لصغر سني، لكن، ما إن حل المساء، حتى ذهبت خلسةً مع الذاهبين للإسعاف، وفي الطريق تلاقينا مع بعض الجرحى محملين على البغال والحمير وهم يئنّون أنيناً ما زال وقعه يضج في أذنيَّ حتى الآن، كما تلاقينا مع عائلاتٍ تبحث عن أبنائها في الظلام وينادي بعضهم على بعض من على رؤوس الجبال. وكانت هنالك قوات إنجليزية لا تزال ترابط في أطراف البيرة الشرقية، وتطلق النار على مصادر الصوت.

وبعد عودتي للقرية، شاهدت تجمُّع الجرحى بعد أن تمَّ جمعهم في الجامع، وهو عبارة عن مبنى أثري قديم موجود في موقع اسمه “حواكير الكنيسة”، وكان أنين الجرحى ينطلق من الجامع. كانت بعض النساء يمسحن الدماء السائلة من الجرحى على ضوء السراج ولمبات الكاز. أمّا الشهداء من قريتنا، فقد تم نقلهم إلى منطقة اسمها الجلغوم، وكانت فيها مغارة وضعوا جثامينهم فيها مؤقتاً، وبعدها تم نقلهم ودفنهم في ساحة الجامع تكريماً لذكراهم وتمجيداً لهم. ولا تزال قبورهم حتى الآن في ساحة الجامع.

كان سائداً بين الناس أن مكان استشهاد الثائر مكرَّم، وأنَّه من الواجب وضع حجرٍ فيه عند المرور من هناك لتكريمه، وصارت كومة الحجارة تكبر مع الأيام. كان الطبيب سليمان غنّام من رام الله وطبيب أرمني اسمه صموئيل يقومان، كلاً على حدة، بزيارتهم ومعالجتهم، وكانا يأتيان إلى المكان إمّا على ظهر حمار أو مشياً على الأقدام وذلك إسهاماً في مساعدة الثوار الجرحى، وكان الناس في قريتنا يقومون بترتيب إيصال الطعام للجرحى وحراستهم بشكل منظم”.

وعرف ممَّن استشهد بالمعركة أحمد عبد المطلب أحمد جبر، وهو من قرية رافات، الواقعة قرب رام الله، وقد شارك الشهيد في معظم المعارك بقيادة سعيد شقير.

وفي الثاني من شهر تشرين الأول 1938م، حصلت معركة واجه بها عددٌ من ثوار منطقة رام الله- البيرة، قوةً من الجيش الإنجليزي، فبينما “كان ستةٌ من المجاهدين، من بينهم محمد قسيس وسليمان عوامة، ذاهبين ليلاً من قرية البيرة إلى قرية بئر الزيت، وقد صادفوا بطريقهم عدداً من الجنود الإنجليز فرابط المجاهدون لهم على مسافة قريبة منهم. ثم أطلقوا النار على ما يقرب من خمسة وعشرين جندياً إنجليزيّاً، فقُتل عددٌ منهم وجرح آخرون، وقد استمر تبادل النار ما يقرب من ساعةٍ كاملةٍ انسحب على أثرها الثوار بعد أن قتلوا أكثر من ستة جنود من الإنجليز، وقد استشهد من الثوّار المجاهد رشيد أبو هنيَّة من قرية الدوايمة، قضاء الخليل”.

وينقل إسحق درويش في دفتر مذكراته صورةً من صور معاناة أهالي رام الله والبيرة خلال الثورة، فإنَّه “لمّا ضاقت السجون والمعتقلات في فلسطين سنة 1938م، بدأ رجال الجيش في قضاء القدس باستعمال بئرٍ قديمة مهجورة قرب البيرة ورام الله يضعون فيها الثوار وكل من تقع عليه الشبهة، ويتقصدون في إهانتهم، بحيث يقذفون عليهم المياه القذرة، ما يسبب لهم الأمراض، وقد توفي شخص من آل الكعيبني من رام الله في البئر”.

أحوال البيرة خلال الحرب العالمية الثانية

        يذكر محمد حمّاد أن البيرة عاشت ظروفاً صعبة خلال الحرب العالمية الثانية، إذ شحَّت الأرزاق وارتفعت أثمانها، ولكنَّه يضيف أنَّ هذه الظروف لم تكن بنفس درجة الصعوبة في سائر القرى والمدن الفلسطينية، ويرجع حمّاد الفضل في ذلك لرفعة وعفَّة خلق الكثيرين من أثرياء البيرة “حيث حوَّلوا مؤنهم إلى المحتاجين من مواطنيهم، كما كانت تصل مساعدات قيمة من المهجر، تصل فردية وجماعية إلى العديد من أبناء البيرة”.

        ومن أحوال البيرة خلال الحرب ما ذكره سالم الزعرور في يومياته يوم الجمعة 11 نيسان 1941م أنَّه ذهب مع عبد الله جودة وقابلا الحاكم البريطاني للواء رام الله، كيث روش، من أجل التوسط لكي يسمح لأهل البيرة براديو، ولكنَّ الحاكم رفض الطلب. كما ذكر الزعرور خبراً حول حضوره وزوجته حفلة شاي أقامها مساعد حاكم اللواء، كورنز، يوم الثلاثاء 15 نيسان 1941م، وكان بالحفل رئيس وأعضاء مجلس بلدية البيرة مع مختاري البيرة الثلاثة، وحضر الاجتماع أيضاً جميل التاجي القائم مقام.