التاريخ النضالي والفدائيون - ترشيحا - قضاء عكا

كان نصيب ترشيحا من جيش الإنقاذ العربي هو فوج "أجنادين" والسرية اليمنيّة وفصيل مدفعية 105 ملم. وأنيطت قيادة هذه المنطقة بالمقدم مهدي صالح، آمر فوج "أجنادين"، الذي سلم له أيضاً مسؤولية الدفاع عن منطقة مجد الكروم والبروة.

وصلت الكتيبة إلى ترشيحا في 18 كانون الثاني/يناير عام 1948، وتمركزت حول التلال المحيطة بالقرية، وشاركت الكتيبة مع أهالي القرية في معركة "جدين" في 20 كانون الثاني/يناير 1948، ومعركة "الكابري" في 28 آذار/مارس 1948 إلى جانب معركة "تين أو شريتح" في 11 حزيران/يونيو من العام نفسه.

في أواخر أيلول/سبتمبر عام 1948، كان الجزء الأكبر من شمال فلسطين قد احتل من قبل العصابات الصهيونية، ولم يبق إلا جيباً مقاوماً وحيداً: الجليل الأعلى.

مع بداية الشهر التالي، شرعت قيادة العصابات الصهيونية بوضع خطط للتخلص من "مصدر الإزعاج" هذا، لتكتمل بذلك خطة للسيطرة على الجليل الأعلى وتثبيت خط عسكري على طول الحدود الشمالية، وعرفت بـ "عملية حيرام"، بتوجيه وقيادة الإرهابي موشيه كرمل.

وفي تفاصيل الخطة، تقوم وحدات اللواء "جولاني" بهجوم تضليلي على قوات جيش الإنقاذ في الجنوب والجنوب الغربي لجذب انتباهها هناك، بينما تقوم القوة الرئيسية المُشكَّلة من اللواء السابع بكتائبه الثلاثة وسرية الشركسي واللواء "عوديد" بالإطباق على قوات جيش الإنقاذ بشكل "حركة كماشة".
 

 وضمن هذه العملية، ارتكبت العصابات الصهيونية مجازر فظيعة في قرى فلسطينية ولبنانية، في الصفصاف، وسعسع، والبعنة، ونحف، ودير الأسد وعيلبون، والمالكية، وصلحة، وحولا.. وترشيحا.

الهجوم الكبير وسقوط آخر معقل مقاوم

كان حقد الصهاينة على ترشيحا كبيراً، كيف لا، وقد فعلت ما فعلت من المعارك.

بعد ظهر يوم الخميس، الواقع في 28 تشرين الأول/أكتوبر عام 1948، حلقت الطائرات الصهيونية، بقيادة الإرهابي إيبي ناتان، في الجهة الشمالية الغربية للقرية، ظن الأهالي أن طائرات سورية أتت دعماً لهم، إلى أن ألقت تلك الطائرات المُهاجِمة قنابلها قرب مركز السرية ومرابص المدفعية، وبعد ساعة بدأت قذائف المدفعية تسقط على ترشيحا.

كانت المدفعية تطلق من خمسة مواقع: جدين وتين أبو شريتح ومن مستعمرة "جليل" ومن تل الوقية ومن البحر، وقدّر مجموع القذائف في تلك الساعة بنحو خمسين قذيفة.

استمر القصف طوال الليل، وكان رد جيش الإنقاذ هزيلاً لدرجة أنه أطلق عشرين قذيفة دون توجيه، لتسقط كلها في مناطق بعيدة عن وجود المهاجمين الصهاينة.

في اليوم التالي، وعند الخامسة صباحاً تقريباً، ألقت ثلاث طائرات قادمة من شمال البلدة براميلها المتفجرة على القرية، حاول الأهالي ببنادقهم المتواضعة إطلاق الرصاص على الطائرات، ولكن دون جدوى.

كان وقع الدماء والدمار المهول كبيراً على أهالي القرية الذين شرعوا بالتوجه شمالاً عبر وادي المسقي إلى دير القاسي وفسوطة، ثم عبروا الحدود وتجمعوا على بركة بنت جبيل، ونقلوا بعدها إلى البص في صور، وحمّلوا بالقطارات وتم توزيعهم في مخيم برج البراجنة بالعاصمة بيروت، ومخيم النيرب في حلب، وقسم منهم في حمص وحماة ودمشق.
  

 لم يدخل المحتلون القرية إلا بعد ثلاثة أيام من رحيل أهلها والمقاتلين فيها – كانت السرية اليمنيّة آخر وحدات جيش الإنقاذ خروجاً من ترشيحا – وكان الصهاينة لا يدخلون بيتاً إلا قذفوا داخله عشرات الطلقات خوفاً من وجود المقاومين.

ترشيحا عام النكبة

بدء الحرب ودور اهل ترشيحا وجيش الانقاذ:

بعد صدور قرار التقسيم من الجمعية العامة لهيئة الامم المتحدة ورفض الهيئه العربية العليا  والقيادة الفلسطينية به، بدأت المناوشات بين العرب واليهود وتطورت الى حرب حقيقية حيث كان الشعب الفلسطيني اعزل من السلاح لأن الحكومة البريطانية فرضت قانونًا يقضي بأعدام من لديه قطعة سلاح من العرب في حين تكوّن الجيش لدى اليهود الذي دُرّب وأعطي كل انواع السلاح حتى الطائرة والدبابة والمدفع.

استيقظ الشعب الفلسطيني واخذ يبحث عن السلاح، وتدفق السلاح من سورية ولبنان يباع للشعب الفلسطيني والذي كان من مخلّفات الحرب العالمية الأولى والثانية. جاء السلاح ولا خبرة باستعماله ولا تدريب عسكري إنما العمل كان فطريا إلى أن تطوّر الأمر فيما بعد حيث جمّعت الخبرات العسكرية من رجال بوليس وبوليس اضافي ومن كان في قوة الحدود في مجموعة قوامها مائة رجل سميت سرية ترشيحا وكان على رأسها الوكيل ضابط سابقاً في الجيش البريطاني "محمد كمال السعيد".

جيش الانقاذ:

كان نصيب ترشيحا من جيش الانقاذ الذي شكلته جامعة الدول العربية هو فوج اجنادين والسرية اليمنيّة وفصيل مدفعية 105 ملم. وأنيطت قيادة هذه المنطقة بالمقدم "مهدي صالح" آمر فوج اجنادين الذي انيطت له ايضا منطقة مجد الكروم والبروة. وكان تحت امرته الضابط السوري "اديب الشيشكلي " قائد كتيبة اليرموك الثاني، وعدد افراد الكتيبة 330 جنديا وضابطاً.

 كان وصول الكتيبة الى ترشيحا في 48/1/18 وبدأت الكتيبة بالتمركز حول التلال المحيطة بترشيحا ومسح المنطقة مسحاً طوبوغرافياً بالتعاون مع رجال ترشيحا ممن كان لهم سابقة في الحروب وخاصة ثورة 1936. وبعد ان تم المسح اتخِذ قرار بمهاجمة قلعة جدين.

المعارك التي جرت في ارض ترشيحا:

معركة جدين (48/1/20)، كانت اول معركة في منطقة ترشيحا وهي تبعد عن القرية 5 كم الى الجنوب الغربي. كانت المستعمرة محصنة باسلاك شائكة ملغمة، وقد جرى تفجير الالغام بربط الاسلاك بحبل وهزّ الحبل. انتصر المهاجمون وكان من بينهم من لا يحمل السلاح. ارتفعت الرايات البيضاء على المستعمرة ألا ان الحكومة البريطانية ارسلت قوات من جيشها لفك الحصار عن المستعمرة ولمنع سقوطها. وكي لا يخوض المهاجمون معركة مع الجيش البريطاني اعطيت اوامر للمهاجمين بالانسحاب ولكن المستعمرة بقيت محاصرة حتى ان اليهود كانوا يرسلون المؤن الى المستعمرة بالطائرات.

لقد شارك بالمعركة كتيبة اليرموك وسرية ترشيحا وجمع غير محدود العدد من رجال قرية ترشيحا. والروايات اليهودية تذكر ان عدد المهاجمين كان ما بين 400-500 مقاتل.

معركة الكابري :(1948/3/28) قيادة جيش الإنقاذ قررت قطع الإمدادات عن قلعة جدين بضرب قوافل الإمداد التي تأتيه، وتجمّع عدد كبير من المقاومين من ترشيحا والكابري والقرى المجاورة للكابري وقرروا مهاجمة القوافل التي تخرج من نهريا وكانت الاستعدادات لذلك بخطة تقضي بوضع سد من الحجارة في مكان متعرج ضيّق أمام القافلة. وفي 48/3/27 كانت القافلة من نهريا باتجاه قلعة جدين وما أن وصلت القافلة إلى السد حتى انهال عليها المقاتلون بالرصاص وكان السد بالقرب من بستان "أبوعلي توسيس" فلم تستطع القافلة التقدم ولا الرجوع إلى الخلف وذهل من في القافلة من يهود واستمرت المعركة كما ذكرت روايات اليهود عشر ساعات وكانت القافلة مجموعة من الباصات المصفحة تتقدمها مصفحة عسكرية، وطلب المقاتلون من اليهود الاستسلام فرفضوا وعندها قرروا إحراق الباصات وأشعلوا النيران فيها فاضطر اليهود للخروج منها فكانت بنادق المقاتلين تحاصرهم حتى آخرهم. قد حاولت فتاة يهودية التظاهر بالاستسلام ورفعت المنديل الأبيض وكانت تخفي تحته قنبلة يدوية قذفت بها المقاتلين فأخطأت الهدف وخلال لحظات كانت في عداد القتلى اليهود وقد قاد المعركة من غير الفلسطينيين من العرب "خليل كلاس"(سوري)، "وأميل جميعان" (أردني) وتعترف المصادر اليهودية بمقتل 46 من ركاب القافلة بمن فيهم قائد الكتيبة "بن عامي بحتر" ولم يستطع الانكليز إنقاذ القافلة لان كميناً آخر قد نصب على الطريق. لاحقاً اطلق اسم بن عامي على مستوطنة بجانب مستشفى نهاريا والتي اقيمت على انقاض بلدة ام الفرج. 

معركة تين أبو شريتح: (11.6.1948)، بعد أن سقطت قرية الكابري بأيدي اليهود تقدم اليهود إلى تلة مزروعة بالتين وأشجار الزيتون وبنوا فيها استحكامات لهم وبالمقابل أقام المقاتلون وجيش الإنقاذ وأهالي ترشيحا تحصينات حول ترشيحا وكان أقواها في مكان قرب قرية معليا على الشارع الرئيسي الذي يربط ترشيحا بالكابري وعكا يقال له المطلّه. أراد اليهود اختراق دفاعات ترشيحا وتقدمت مصفّحاتهم على الشارع الرئيسي ولم يكن يدور في خلد اليهود ان العرب قد نزعوا الألغام التي زرعوها هم ووضعوها في طريقهم وعندما تقدم اليهود بالشارع انفجرت الألغام وتوقف الزحف اليهودي من الغرب حيث كان هذا المحور الأول للهجوم، أما المحور الثاني فكان من جهة الشفية وحقول زهير، وعلى طريق جعثون وقد كان هجوما صاعقاً من قبل اليهود لكنّ النجدات من أهل القرية والحماس أدى إلى معركة حامية بين الطرفين

قتل فيها قائد الحملة يعقوب برصاصة اخترقت عينه، ووضعت جثته على حمار وطافوا بها في شوارع القرية. 

لاحقا سمّيت مستعمرة "عين يعقوب" على اسم قائد الحملة، واطلق على المعركة اسم معركة "ديكل". 

هجوم معاكس: بعد أيام قليلة من انتهاء معركة تين أبو شريتح نادى المقدم مهدي صالح الثاني أهل القرية إلى هجوم على استحكامات اليهود قائلا: "اليوم يا رجال ترشيحا الهجوم حتى عكا" فتحمس أهل البلد وسار مقاتلوا البلدة رجالاً ونساء كلٌ له دوره، وقد فوجئ اليهود في هذا الهجوم غير المتوقع لأنهم كانوا قد خففوا الحراسات في الخطوط الأمامية، استمرت المعركة حامية واندحر اليهود ولأمر لا نعرفه توقفت مدافع الميدان عن الضرب وانسحب المقاتلون وجاءت النجدات بالمصفحات لليهود، واستشهد في هذه المعركة من أبناء البلد احمد حمودي ورشدي جمعه.

معركة التل الأحمر: إلى الغرب من معليا يقع مرتفع يشرف على استحكامات اليهود في تين أبو شريتح، يرابط فيه اليمنيون وهو سرية كاملة تتولى التمركز في هذا التل، لم يختلطوا في جهادهم بأي من رجال جيش الإنقاذ أو مجاهدي بلدة ترشيحا، تضايق اليهود منهم فقرروا مهاجمتهم في الليل، كمن اليمنيون لهم حتى ما إذا أصبح اليهود على بعد أمتار منهم هجموا عليهم وقاتلوهم.

الهجوم الكبير لليهود وسقوط البلدة: 

ترشيحا كانت مصدر رعب وقد فعلت ما فعلت من المعارك، فكان الحقد عليها يملأ القلوب. اعترف اليهود في تقاريرهم العسكرية عن متانة التحصينات في ترشيحا واستبسال أهل البلدة وجيش الإنقاذ المدافعين عنها وقد سمى اليهود عملية احتلال ترشيحا والجزء الباقي من لواء الجليل الغربي بعملية "حيرام"، وكما تذكر مصادرهم اعدوا للهجوم تحت قيادة  اللواء "شيفع" كتيبة مدرّعة وكتيبتي مشاه وسرية من الشركس لواء "عوديد" وضمنه أيضا سريّة دروز جزء من لواء "غولاني" وجزء من لواء "كرميلي" هذه الألوية كلِفت تنفيذ العملية.

والذي لم يذكره اليهود انه كانت هنالك بارجة راجمة الغام بريطانية وقفت قبالة نهاريا تصب حمولها على ترشيحا وقد كشف امر هذه البارجه في احدى اللقاءات السياسيه التي كانت تتم بين السفراء وأركان الحكم البناني عندما قال الامير مجيد ارسلان: "ألم ترجم راجمة الالغام البريطانية ترشيحا بالالغام؟؟" فسكت السفير البريطاني.

أيضا استعملت طائرات من صنع بريطاني ذات المحركات الأربع الضخمة والتي ألقت ببراميل سعة 200 لتر وهي معبأة بالديناميت وقطع الحديد التي دمّرت قسماً كبيرا من ترشيحا. 

بعد ظهر يوم الخميس 48/10/28، أقبلت الطائرات من الجهة الشمالية الغربية وحلّقت فوق ترشيحا وظن الناس أنها طائرات سورية قادمة لمواجهة العدو لأنها قبل أسبوع كانت قد هاجمت نهاريا، ولكنها لم تكن كذلك فقد ألقت القنابل قرب مركز السرية ومرابص المدفعية، وبعد ساعة بدأت قذائف المدفعية تسقط على ترشيحا. كانت مدفعية العدو تطلق من خمسة مواقع، من جدين وتين أبو شريتح ومن مستعمرة جليل ومن تل الوقيه ومن البحر. وقد قدّر مجموع القذائف في الساعة بحدود خمسين قذيفة واستمر القصف طوال الليل وأما مدفعية جيش الإنقاذ أطلقت حوالي عشرين قذيفة دون توجيه وكانت تسقط بعيدة عن مراكز العدو.

اما في اليوم 48/10/29  صباحاً حوالي الساعة الخامسة شوهدت ثلاث طائرات قادمة من شمال البلدة وإذ بها تقذف حملها على البلدة، أسقطت أول برميل في كرم زيتون أبو رأسين والقنبلة الثانية ألقيت في حاكورة "الرغب"، وألقت الطائرة برميلها الثالث في (مركز النقطة) مركز بوليس ترشيحا القديم والعائد ملكيته للمختار شفيق المحمود، والبرميل الرابع القي على دار العبد عمر والبرميل الخامس وقع على زقاق دار حيدر والبرميل السادس وقع في بيوت دار الهواري. 

لقد أطلق أهل البلدة الرصاص على الطائرة ولكن رصاصهم من بنادقهم الخفيفة لم يؤثر بها. وللتاريخ نقول إن ترشيحا صمدت وكانت آخر بلدة سقطت في فلسطين كلها والفضل بذلك يعود إلى صمود أهلها صموداً يسجله التاريخ لهم ولكن الدمار الهائل الذي أحدثه القصف جعل أهل البلدة يرحلون، فبدأ الرحيل بعد الغارة. واخذ الكل يجمع ما استطاع وتوجه الناس شمالا عبر وادي المسقي إلى دير القاسي وفسوطة ثم عبروا الحدود وتجمعوا على بركة بنت جبيل ثم نقلوا إلى (البص) في صور وحمّلوا بالقطارات وتم توزيعهم في برج البراجنه قرب بيروت وفي حمص وحماه وقسم منهم في مدينة حلب كما توجه قسم إلى دمشق.

إن سقوط ترشيحا بأيدي اليهود في 48/10/30 كسقوط سواها من المدن والبلدان الفلسطينية ولكن ترشيحا كانت أخر حصن اقتحمه اليهود. حيث رفض أهلها الذل والاستسلام عن طريق المفاوضات، فقد أرسل اليهود رسالة إلى "سليم مصطفى" زعيم البلدة مع راعي من بيت علاء الدين، تضمنت الرسالة دعوة أهل ترشيحا إلى البقاء في بلدتهم بشرط أن يخرجوا جيش الإنقاذ أو يرفضوا التعاون معه، جمع سليم مصطفى رجال البلدة في مقهى "المختار شفيق" في حارة البياعين وقال لأحدهم أن يقرأ الرسالة على أهالي البلدة وسألهم الرأي فكان رأي أهل البلدة رفض التعاون مع اليهود والاستمرار في القتال، وكان لسليم مصطفى رأي أخر لأنه أدرك إن المعركة خاسرة مع اليهود فقرر الرحيل إلى برج البراجنة. 

دخول اليهود للقرية كان في 30.10.1948  ولم يدخلوا إلى البلدة إلا بعد ثلاثة أيام من رحيل أهلها والمقاتلين فيها وكانوا لا يدخلون بيتا إلا قذفوا بداخله عشرات الطلقات خشية أن يكون في البيت مقاتلون. أما السرية اليمنية فقد غادرت ترشيحا وكانت آخر وحدات جيش الإنقاذ خروجاً من ترشيحا بعد أن أعطت الأوامر بالإنسحاب من قيادة الجيش.