روايات أهل القرية - حَمَامَة - قضاء غزة

الرواية الأولى

الحاجة حليمة.. عقود النكبة السبعة لم تنسها "حمامة"

عدنا لها بعد 5 سنوات من لقاء أجراه "المركزمعها قبل 5 سنوات. وجدناها بصحة متردّية، آثار الطعن في السن بادية عليها جليًّا، إلا أنها تتذكر قرية حمامة جيدًا، لا تغيب عن مخيلتها التي بدأ النسيان يغزوها، ولم تمحَ تلك التفاصيل التي أدلت بها لمراسنا.

 
مراسل "المركز الفلسطيني للإعلامعاد مع الحاجة حليمة أبو شعيرة (90 عامًا) إلى سنوات ما قبل النكبة، ورسمت بكلماتها صورة عن حمامة، ورحلة التهجير القاسية.

 
الحاجة حليمة تتمنى أن تدفن في قرية حمامة، التي هجرت منها عام 1948م، فرغم سنوات البعد الطويلة لا تتخلى الحاجة عن بلدتها الأصلية.

 
وتقع قرية حمامة إلى الجنوب الغربي من فلسطين، على بعد كيلومترين من البحر المتوسط، وبالتحديد في لواء غزة قضاء المجدل عسقلان.

 
وتحيط بالقرية أراضي قرى أسدود وبيت دراس ومدينة المجدل، ومن الغرب يحد القرية البحر المتوسط، ويحدها من الجنوب أراضي مدينة المجدل وتبعد عنها كيلومتريْن.

 
أبناء الأحفاد
 
يجلس إلى جوارها أبناء أحفادها، يلهون ويمرحون، تناديهم لتنال قبلة حب من أحدهم، وتنادي آخر ليعطها "سبحتها"، تقول: إن "حمامة كانت جنة، وسنعود لها رغم أنف الاحتلال".

 
وتغنى الحاجة رغم تردي وضعها الصحي أهازيج البلدة "حمامة": "على دلعونا وعلى دلعونا.. ريح الشمالي غير اللونا.. على دلعونا وما دلعتني.. وأربع قناني عطر ما عطرتني".

 
تقول: إن أحفادها وأحفاد أبنائها لن يتخلوا عن وطنهم مهما حدث، وتؤكد أنها تزرع فيهم حب الوطن، وحلم العودة ما يزال يراودها.

 
ورداً على المقولة الشهيرة لمؤسس الكيان الصهيوني عن موت الكبار ونسيان الصغار؛ ترد الحاجة حليمة بلسان الواثق "الكبار سيموتون حقاً، ولكن الصغار هم أشد تمسكاً بالأرض".

 
لا تعلم الحاجة شيئًا عن "صفقة القرن" ومشاريع التصفية التي تدبر بليل ضد قضية فلسطين، إلا أن صوتها الضعيف وإيمانها الديني والوطني يشير إلى عقيدة راسخة بحقنا في العودة لفلسطين.

 
أيام جميلة
 

 71 
عامًا هي عمر النكبة الفلسطينية، ورغم تلك السنوات الطوال إلا أن الحاجة ما تزال تتذكر جيدًا أيامًا جميلة قضتها في البلدة المسلوبة.

 
توضح أن بساطة العيش، والترابط الاجتماعي، والمحبة الكبيرة بين الناس، أكثر ما كان يميز حياتنا في القرية.

 
وتشتهر قرية حمامة الكبيرة بالزراعة والصيد، تقول الحاجة حليمة: "كنا نطحن الذرة البيضاء ونضيفها إلى الطحين ونخبزها".

 "
كان الحصيد عمومًا يكفينا سنة كاملة، نخزن القمح والذرة من الموسم للموسم"، وتشير إلى أن أغلب أهالي القرية يعملون في الزراعة وصيد الأسماك.

 
وتضيف: "كنا نربي البقر والأغنام، ونحلبها ونأخذ منها حليبا للشرب، وكذلك ترويب الحليب بالسمن لإخراج السمنة منه، ثم نضع السمنة الناتجة في جرار مصنوعة من الفخار".

 
ويعد "المفتول" الأشهر من بين الأكلات الشعبية في حمامة، في "العزائم، والولائم، وفي الأفراح والأتراح".

 
وتبين أن "التآلف كان كبيرا جدا بين الناس، يشارك أهل القرية بعضهم بعضا بالأفراح والأتراح".

 
وتتابع "كان الناس يحدون على الميت عاما كاملا، لا يتزوجون ولا يقيمون الأفراح في جميع أرجاء القرية"، حسبما قالت.

 
وعن طبيعة الأعراس في قرية حمامة، تقول: "تقام الأفراح، وتدق الطبول، وينصب السامر، وتبدأ الدحية من قبل 7 أيام، وتشارك جميع نساء القرية في إعداد الطعام للعرس".

 "
كان العريس وأهله يأتون إلى بيت العروس والعربات المزينة تجرها الخيول، وفرق الدبكة تؤدي وصلات جميلة، بالإضافة إلى قرع الطبول، كأننا في مهرجان"، تقول الحاجة حليمة.

 
تقول الحاجة: إنّ في قريتها مدرستين؛ واحدة للبنات وأخرى للبنين، كانتا من الحجر والإسمنت على عكس منازل القرية التي كانت مبنية من طين اللبن المخلوط بالتبن الخشن.

 
مواقف لا تنسى
 

 
وتتذكر الحاجة أخاها الشهيد حسن، الذي استشهد إبان حرب 48 م، حيث كان برفقة ثلة من أقرانه في القرية، قبل أن تباغتهم طائرة صهيونية ويستشهد مع آخرين.

 
تتابع والدموع تملأ عينيها أن أخاها كان يبلغ من العمر 20 عاماً، وتستذكر أنه قال لها يوما عندما كثر الحديث أن العصابات الصهيونية تذبح الأهالي وتجبرهم على ترك منازلهم: "إن فلسطين حرامٌ عليهم، وإن سلبوها يوماً فحتما إنها عائدة لأهلها".

 
رحلة تهجير قسرية
 

 
وعن يوم الهجرة، قالت: "شعرنا أن موعد الهجوم على بلدتنا اقترب، وكثرت الشائعات بعد مجزرة دير ياسين، هناك من قرر الصمود للحظة الأخيرة، وهناك من خرج خوفاً على النساء والأطفال".

 
تتابع: "حتى من قرر الهروب من بطش العصابات الصهيونية، لم يسلم من الموت، فلاحقتهم الطائرات الصهيونية بالقصف فارتقى منهم الشهداء والجرحى"، تقول والدموع تملأ مقلتيها: "كانت أيامًا لن أنساها وأنا على قيد الحياة".

 
كان الأهالي في رحلة هروبهم من بطش عصاباتٍ لا تراعي حرمة صغير ولا كبير، ينتقلون من قرية لقرية، ينامون في الخلاء، لا يجدون ما يقون به جوع بطونهم، إلا من بعض الأعشاب وأوراق الشجر، حسب الحاجة حليمة.

 
استغرقت رحلة التهجير القسري من قرية حمامة، حسب ما تتذكر الحاجة حليمة زهاء 15 يوما، تقول: "لاقينا من العذاب أشكالاً وألوناً ما يعجز الإنسان عن التعبير عنه".

 
تضيف والدموع تملأ عيونها: "هجرنا وتشردنا من دورنا، وعملوا فينا اليهود اللي ما انعمل، وما راعوا فينا لا ذمة ولا ضمير".

المرجع

المركز الفلسطيني للإعلام

الرواية الثانية

الحاج موسى أبو سلـطان: “النكبة” كأنَّها اليـوم وحلم العودة في مخيلتي

https://info.wafa.ps/userfiles/image/musa-abu-saltan.gif

 بالرغم من عبور الحاج موسى أبو سلطان الثمانين خريفاً من عمره؛ إلا أنه ما زال يعيش على أمل العودة إلى بلدته الأصلية (حمامة)، موقناً أن هذا اليوم لا بد أن يأتي، وأن الحق لا بد أن يعود لأصحابه.

 ولا يملّ الحاج موسى أبو سلطان من توصية أولاده وأحفاده بعدم التفريط بشبرٍ واحد من أرضهم، ويزرع فيهم أمل العودة إلى أراضيهم، مهما طالت السنين.

 وفي حوارٍ مع "العودة" قال أبو سلطان: "أمنيتي أن أرجع إلى الوطن، وأتمنى أن أعود؛ ولا يوجد شيء أغلى عندي من الوطن؛ ومستحيل أن أنسى وطني؛ وعندي أمل دائماً بالله أن يرجع الحق لأصحابه، مهما طال الزمن".

 وأكد أبو سلطان أنه رغم أكثر من خمسين عاماً على الهجرة و”النكبة”؛ إلا أنه ما زال يذكر تلك اللحظات، وكأنها حدثت اليوم، وهو الوجع المحفور بقلبه على مدى السنين، وعلى يقين تام بأن "ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة". وفي ما يأتي نص الحوار:

العـودة: بدايةً أعطنا بطـاقة تعريفية عنك؟

أنا الحاج موسى إبراهيم أبو سلطان.  ولدت يوم 1936/4/6 في بلدة "حمامة"، قضاء المجدل، شمال فلسطين المحتلة. ومتزوج ولدي خمسة أولاد وبنتان وأكثر من خمسين حفيداً.  عندما هجِّرنا إلى غزة كان عمري 12 عاماً.


 
العـودة: قبل التهجير واللجوء ومرارة “النكبة”؛ كيف كانت حال بلادكم؟ صف لنا الحياة قبل “النكبة”. كيف كانت؟

حمامة قرية تقع شمالي المجدل، وتشتهر بالزراعة وصيد الأسماك. عدد السكان في تلك الفترة كان 9000 مواطن تقريباً.  وكان في قريتنا مدرسة واحدة فقط، كان التعليم فيها لغاية الصف السادس؛ بعدها يأتي من يريد أن يكمل تعليمه إلى غزة؛ لأنها كان فيها كلية.  كانت المودة والمحبة تجمع أهل القرية

كنا نعيش في بيوت من الطين، لكن هناك بعض الناس كانوا يبنون بيوتاً من الباطون، فكانت بئر الماء في وسط البلد لكل أهل القرية، وكانت كل عائلة تدفع "شلن" كي تحصل على الماء"، أو يجمعون خمسة قروش. وبعدها بدأ الناس بحفر الآبار في أراضيهم.

وكانوا يتوظفون بشهادة الصف السابع فقط بعد تخرجهم من كلية غزة؛ أما أنا فتوقفت عند الصف الخامس فقط.  وكان أبناء حمامة متواضعين طيبين.  وفي صغري كنت أحب دائماً أن أجلس مع الكبار والمخاتير، وكنت أحب أن أسمع أحاديثهم عن عام 1936 أيام الثورة الكبرى.

 وكان في قريتنا مجموعة من الشباب أطلق عليهم "المناضلين"، كانوا يقاومون اليهود الذين يسكنون المستعمرات.  في ذلك الوقت؛ كان المناضل يبيع كل ما يملك من أرض، وذهب زوجته، كل شيء؛ ليشتري قطعة سلاح وباروداً؛ ليقاتلوا كل إسرائيلي جاء ليحتل الأرض.

العـودة: حدثنا كيف كان هؤلاء الشباب يقاتلون رغم قلة العدة وضعف الإمكانات في ذلك الوقت.

في ذلك الوقت؛ كانت البلدة تفتقر إلى وسائل القتال الحديثة، وحتى الخبرة اللازمة لتشكيل جيش أو ما شابه؛ لكن شباب البلدة لم يعجزوا عن تصنيع الكحل والفتيل، وجاءتهم الفكرة من طريق الصيادين الذين كانوا يستخدمون المتفجرات في صيد السمك؛ وهي عبارة عن صندوق خشب بمساحة 40 × 40 سم، ويضعون في الصندوق كحلاً وكبسولة وفتيلة، ويمدون به سلكاً طويلاً وينسفون به الآليات العسكرية.  ومن أكبر المعارك التي شهدتها- ولن أنساها- معركة "جولس"، وهي عبارة عن قرية صغيرة تحدّ "حمامة" من الناحية الشمالية، وكان المعسكر يأتي بالجيش إلى جولس -حيث توجد مستوطنة نتساريم- ونصب الشباب كميناً للقافلة؛ حتى يقطعوا الطريق على الأعداء، وجاءت أربع آليات إسرائيلية من مستوطنة "هربيا" في بيت "داراس" إلى مستوطنة نتساريم، وكانت هناك عبّارة كبيرة في الأسفلت، فجاء المناضلون ووضعوا المتفجرات والعبوات فيها؛ وخططوا للاستيلاء على القافلة، وذلك بتفجير بداية ونهاية القافلة، وبعدها جرى الاستيلاء على وسط القافلة، فأول قافلة تركوها، والمناضلون كامنون في الشجر، فنسفوا العبارة، وسيطروا على القافلة الثانية، وحاصروا من فيها، وأخذوا يطلقوا النيران عليهم.

العـودة: كيف حدثت “النكبة”، وما الذي حدث فيها، بالتفصيل؟

في أواخر عام 1947؛ جاء اليهود فجأة إلى البلد، وعلمنا بقدومهم من خلال مذياع، هو الوحيد الذي كان موجود بقرية حمامة، وأخذ الناس يصرخون ويفرون من القرية؛ حيث قتلوا في بداية دخولهم مختار قرية حمامة على باب بيته، ثم بدأوا يطلقون النار في كل الاتجاهات ويقتلون كل كائن حي يجدونه أمامهم.

وهجر معظم الأهالي البلدة، مستخدمين الحمير والجمال؛ وكنا من بين الذين غادروا، ووصلنا إلى غزة، وجلسنا في حي الشجاعية؛ حيث مكثنا عندهم ليلتين، وبعدها أخذنا عمي وسكنّا في رفح واستقررنا فيها؛ فجاءت وكالة الغوث إلينا في رفح؛ فأخذوا يعطوننا ما نشاء من مخازن التموين حتى ينسونا قريتنا

العـودة: "الكبار يموتون والصغار ينسون"، هذا ما يراهن عليه دوماً الاحتلال، فماذا تقول؟

أقول لإسرائيل: إن سياستكم هذه فاشلة وخاسرة؛ ولقد قالها موشي ديان "سيموت الكبار وينسى الصغار"، وسنعود إلى أرضنا مهما طال الزمن؛ فالحق لا بد أن يعود إلى أصحابه، ولو مرت مئات السنين.  وكل ما أتمناه الآن هو ن أرجع إلى أرضي، وأرى بيتنا ومدرستي؛ فلا يوجد شيء أغلى عندي من الوطن، ومستحيل أن أنسى وطني.  وعندي أمل دائماً بالله أن يرجع الحق لأصحابه مهما طال الزمن؛ وما زلت أحتفظ بكواشين الأرض والطابو التي تركها لي والدي وعمي؛ وسأورثها لأولادي وأحفادي من بعدي، وسنبقى نحتفظ بها جيلاً بعد جيل، إلى أن يحين وقت العودة إلى بلداتنا الأصلية، وتعود فلسطين من النهر إلى البحر.


  
أسوأ مرحلة مرت علينا نحن الفلسطينيين هي الهجرة و”النكبة”، وخروجنا من أراضينا واحتلال إسرائيل لها؛ بالإضافة إلى خذلان الجيش المصري لنا في حرب 67، واحتلال إسرائيل كافة الأراضي الفلسطينية.

 والآن نمرّ في مرحلة سيئة جداً، وأثرت على كل الملفات الفلسطينية، كالقدس واللاجئين وحق العودة، وهي الخلافات والانقسامات بين الإخوة الفلسطينيين وانقسام الشعب الفلسطيني.  

العـودة: ما المطلوب سياسياً من أجل نصرة اللاجئين؟ 

 المطلوب أولاً من الشعب الفلسطيني، التلاحم والترابط لنكون يداً واحدة؛ لنستطيع التغلب على الاحتلال وطرده من بلادنا إلى الأبد؛ فنحن شعب واحد وكلنا مستهدفون، سواء كان ابن "فتح"، أو ابن "حماس"؛ فإسرائيل لا تفرق بين "حمساوي" و"فتحاوي"، ولا "جهادي"، وتقتل كل شيء: البشر، والشجر؛ والحجر.  كل ما نريده من فصائلنا هو الوحدة، وأن يلتفتوا إلى هموم الوطن، وترك الخلافات جانباً؛ لأن الاحتلال هو المستفيد الأول والوحيد من الانقسام

المصدر: مجلة العودة / العدد ــ الخامس والستون/ شباط ــ (فبراير)/ 2013