التاريخ النضالي والفدائيون - الظَاهِريَّة التَحّتَا - قضاء صفد

نضال أهالي الظاهرية: 

كان الشيخ عز الدين القسام داعية من دعاة الإسلام، وبطلاً من أبطاله، اشترك من قبل في الثورة العامة التي قامت في سوريا ضد الفرنسيين، وحمل سلاحه حتى قدر لتلك الثورة أن تقف، فجاء إلى حيفا متخذاً منها مقاماً ومستقراً، وكان القسام رجلاً عالماً مؤمنا صادقاً، وما كان درسه موقوفاً على البحث في فتوى الزواج والطلاق، ولا عن افتراضات الفقهاء في عصور التأخر، ولكنه كان درساً من دروس أعلام المسلمين الذين يؤمنون بأن الجهاد العملي والقتال الصادق هو خير منطق يجابه به الأعداء الذين يهاجمون أرضنا ويدنسون مقدساتنا، وأنه لا كرامة لمسلم يرضخ للأعداء أو يعاملهم أو يصادقهم أو يطمئن اليهم. وكان الشباب والرجال يلتفون حول الشيخ عز الدين القسام، وحين يعودون إلى بيوتهم يتحادثون حول الوطن، ويستعيدون دروسه وتعاليمه. وابتدأت المنطقة تشهد أعمالاً بطولية عظيمة، فمنذ أوائل 1935م شهد المثلث العربي "جنين، نابلس، طولكرم" سيلاً من الإغتيالات للضباط الإنكليز ونسف القطارات، وهوجمت معسكرات الجيش البريطاني، وقتل أي عربي يثبت لدى الوطنيين اتصاله بالبريطانيين إتصالاً مريباً. 

وكانت هذه الأعمال تتم تحت جنح الظلام، وفي فترات متعاقبة غاية في الدقة والتنظيم والسرية، وسرت روح الجهاد بين الشعب، فتتابع تنظيم التشكيلات السرية، وزادات متاعب البريطانيين وإرهابهم، وقد كان القسام صادق الرأي مخلص العقيدة، فربأ بنفسه أن يدعوا إلى الجهاد ولا يجاهد، وأن يشهد تلاميذه يقاتلون ولا يقاتل، وأن يكون قائد الجهاد قابعاً وراء أعمدة المساجد، أو بعيداً عن الميدان كما يفعل عديد من قواد المعارك أو الدعوات، ربأ بنفسه عن هذا وأعلن في قوة عن معاداته لسلطات الإنتداب، وعزمه على منازلة الجنود البريطانيين في سبيل عروبة فلسطين. 

وحاصرت قوات الإحتلال عرين البطل المجاهد ودارت معركة في غابة "يعبد" بمنطقة جنين إنتهت يوم 25 تشرين الثاني 1935م بإستشهاد القائد وبعض رفاقه، وأسر الباقين من عصبته المؤمنة، ليسجنوا ويعذبوا طويلاً في سجون الإستعمار، وذهب القسام البطل المجاهد إلى ربه شهيداً، فجدد في النفوس معنى التضحية والإعتزاز والبطولة، وقوى من عزائم شعب فلسطين الأبيّ برغم قلة العتاد وضآلة الزاد.[1]

فبعد إستشهاد القائد الشيخ عز الدين القسام أصبحت الثورة علنية. 

وأهالي الظاهرية جزء من الوطن إشتركوا كبقية أهل فلسطين في النضال ضد الانكليز واليهود، ومن المعارك التي اشتركوا فيها خلال "ثورة 1936م". 

معركة جرن حلاوة:

إلى جانب موقع (جب يوسف) منطقة وعرة تسمى جرن حلاوة، تقطعها طريق السيارة القادمة من طبريا إلى صفد عبر(الجاعونة) فكمنت مجموعة من الثوار بقيادة (عبد الله الشاعر) ومساعدة أخيه (رشيد) لقافلة يهودية تحرسها كالعادة، السيارات البريطانية. وبعد أن سدّ المجاهدون الطريق بالحجارة وفروع الأشجار، هبط الحرس اليهودي لإزالتها فانهمر الرصاص عليهم، واستمرت المعركة طويلاً اضطر البريطانيون فيها إلى طلب نجدة، مما دعا المجاهدين إلى دعم موقفهم (بفزعة) نجدة من البدو القاطنين قريباً من الموقع، كان يطلق عليهم عربان عشائر المواسي، الزنغرية، السمكية، القديرية، ومن قرية الظاهرية، مما زاد في خسائر الأعداء من اليهود والإنكليز. ونقل بعض المشاركين في المعركة بأن عدد القتلى والجرحى جاوز الخمسين نفراً. وحصلت البلبلة حول استشهاد شقيق قائد المجموعة المجاهد (رشيد) بين تصديق وتكذيب، حتى حملت جثته في اليوم التالي إلى جانب الشهيد (محمد ترشحاني) وكلاهما من حارة الوطاة. وعلى أثر ذلك شن الثوار هجمات متلاحقة وموزعة بقيادة عبد الله الشاعر في منطقة الحولة بخاصة، وفي قرى شمال فلسطين (سعسع- النبي يوشع الجاعونة - نجمة الصبح- ووادي عروس- وماروس- السموعي- فرادة)[2] ومن المعارك التي شارك فيها أهالي الظاهرية في ثورة سنة 1936م اجتمع الثوار في وادي الطواحين وقرروا مهاجمة حارة اليهود في صفد، ولكن الهجوم فشل وانسحب الثوار فحاصر الجيش البريطاني الظاهرية، وأخذ جنوده يطلقون النار على القرية، فاستشهد علي مصطفى زيد، واقتحم الجيش البريطاني القرية، فجمعوا السكان في بيادر القرية، وفتشوا البيوت بيتاً بيتاً ولكن لم يعثروا على السلاح لأن الأهالي كانوا قد أخفوه، وفرضوا على القرية غرامة بقيمة 300 جنيه. وكان هناك فصيل في القرية وكان قائده محمود يوسف زيد (ابو يوسف) وكان الشباب على أهبة الإستعداد لنجدة الثوار، في أية معركة تحصل في منطقة الجليل الأعلى. وجرت معركة بين الثوار والإنكليز في جبل الجرمق قرب قرية ميرون، وفي أثناء عودة الجيش الإنكليزي كَمَنَ عدد من شباب صفد والظاهرية للجيش الإنكليزي، وكان عدد الثوار 18 شابا فدار اشتباك بين الطرفين، وقتل وجرح عدد غير معروف من الجنود الإنكليز، ولم يجرح سوى ثائر واحد في هذه المعركة.

أما المعارك التي دارت عام 1948م فنضال أهل الظاهرية ضد اليهود والإنكليز جزء لايتجزء من نضال أهل صفد وذلك لقرب القرية منها حتى أنها تعد أحد أحيائها. وكان السلاح قبل النكبة قليلاً جداً، وعندما شعر الناس بخطر المؤامرة التي حاكها الإنكليز مع اليهود لإحتلال فلسطين كان الأهالي يذهبون إلى لبنان، وسوريا، لشراء السلاح، وكان من لا يملك المال الكافي لشراء بندقية يبيع مصاغ زوجته ليشتري بندقية. وكان هناك مناوشات دائمة بين أهالي الظاهرية وحارة اليهود وذلك لقربها من الظاهرية. وكان الشباب يذهبون إلى منطقة قريبة من حارة اليهود تسمى رأس الطلعة ويطلقون النار على حارة اليهود.

ومن المعارك التي اشترك فيها أهالي الظاهرية في قتال اليهود في صفد. في أوائل شهر أيار سنة 1948م هاجمت مجموعة كبيرة من أهالي صفد والظاهرية مركز حارة اليهود وممن اشترك من أهالي الظاهرية كما يتذكر بعض السكان ديب سلامة ومحمد سلامة ومحمد أسعد الحديري ومحمد عبد الله قشقوش، ولكن جيش الإنقاذ منع النجدات التي أتت من أهالي صفد لنجدة الثوار فأدى الهجوم إلى استشهاد شاب أردني لا يتذكر الأهالي أسمه وجرح محمد عبد الله قشقوش ومحمد أسعد الحديري وكذلك عدد من شبان صفد وانسحب الثوار. ومن أسباب سقوط صفد وهي المدينة الحصينة وكان سكانها معروفين بشدة بأسهم مصممين على الدفاع عن بلدهم. فلما بدأت المناوشات في صفد وما حولها تطوع ضابط سوري يدعى إحسان قيميلماز بقيادة حركات الجهاد في صفد، وكان ضابطاً باسلاً قديراً مخلصاً ومؤمناً، فاستطاع أن يكسب ثقة مجاهدي صفد بما قام به من غارات شديدة على المواقع اليهودية في صفد  والمستعمرات اليهودية المجاورة فطلب أهل صفد من قيادة الجهاد المقدس والهيئة العربية العليا لفلسطين تعيينه قائداً لصفد وما حولها وأمداده بالسلاح والعتاد والمال، فلما رأت السلطات البريطانية ما قام به هذا القائد الباسل من معارك ناجحة ضد اليهود، قلقت كثيراً وخشيت أن لا تتحقق خطتها المرسومة التي تهدف إلى تمكين اليهود من إحتلال جميع المناطق التي خصصت لهم بموجب قرار التقسيم (منها صفد) فبذلت كل جهودها لإبعاد القائد إحسان فاتخذت كثيراً من الدس والتحريض عليه حتى خدعت طه باشا الهاشمي الذي كان مشرفاً على اللجنة العسكرية للجامعة العربية، فعزل إحسان عن القيادة وأبعده عن صفد وأمر بتعيين كل من ساري الفنيش واميل جميعان وهما من الضباط الضعاف التابعين للجنرال جلوب البريطاني قائد الجيش الأردني حينذاك الذي قام بأعظم دور لتنفيذ الخطة الصهيونية لتهويد فلسطين.[3] 

وكان اليهود يخططون منذ عام 1930 لترحيل أهل فلسطين إلى خارجها، وقد إقترح وايزمن رئيس المنظمة اليهودية العالمية ترحيل الفلسطينيين إلى شرق الأردن والعراق، ولكن الخطة باءت بالفشل إذ رفضتها الحكومة البريطانية.[4] 

وفي السنة 1936م أعلن اوسيشكين ما يلي (أود جدا جدا أن يذهب العرب إلى العراق، وآمل أن يذهبوا إليه في زمن ما) وذلك في خطاب للإتحاد الفرنسي الصهيوني.[5] وفي نيسان سنة 1948م أعلن بن غوريون
 (لن نستطيع أن نربح الحرب إذا لم نسكن وخلال الحرب، الجليل الأعلى والجليل الأسفل والجليل الشرقي والجليل الغربي والنقب ومنطقة القدس. أعتقد أن الحرب ستحمل في طياتها أيضاً تغيراً كبيراً في انتشار السكان العرب). (وفي 22 نيسان سنة 1948 اجتمع قائد البالماخ ييغال آلون، الذي عُين قائداً لحملة الإستيلاء على الجليل الشرقي، ومن ضمنه مدينة صفد إلى قائد عمليات الهاغاناه يغئيل يادين وإلى غاليلي وأوصى الثلاثة بالتضييق المستمر على صفد العربية بغية الإسراع في إجلاء سكانها). وفي طريقهم إلى الهجوم على صفد طرد جنود البالماخ سكان قرية عين الزيتون وهم يطلقون النار فوق رؤوسهم للإسراع في تهجيرهم. وقد كان آلون يستخدم دوما تكتيك ترك منافذ لهرب السكان في الجليل. وفي مجال حديثه عن إحتلال صفد العربية في أيار سنة 1948م قال (لقد تعمدنا ترك منافذ الهرب مفتوحة كي نساعد السكان على الرحيل). 

وكشفت ذكريات آلون فيما بعد أن الهجرة من الجليل الشرقي كانت بصورة أساسية نتيجة حملة متعمدة متناسقة من (الدعاية الهامسة) (أستدعيت مخاتير اليهود الذين كانت لهم روابط بالقرى العربية المختلفة وطلبت منهم الهمس في آذان بعض العرب بأن تعزيزات يهودية هائلة قد وصلت إلى الجليل وأنها ستخلي قرى الحولة، وأن ينصحوا لهم نصحاً ودياً بالفرار ما دام ذلك ممكنا. وانتشرت شائعات في أرجاء الحولة كافة: أن الوقت قد حان للفرار. وقد شمل الفرار عشرات الألوف وحققت الحملة أهدافها بالكامل). وكانت هذه القرى تضم الجاعونة والظاهرية التحتا... 

وكذلك المجازر التي ارتكبها اليهود مثل مجزرة دير ياسين غربي القدس في 9 نيسان سنة 1948م. ومجزرة الدوايمة الواقعة في جنوب شرقي الخليل في 29-30 تشرين الأول سنة 1948م.

ومجزرة ناصر الدين في 12 نيسان سنة 1948م واللد في 11-12 تموز سنة 1948م ومجازر قرى عين الزيتون في 3-4 أيار وسعسع والجش والصفصاف والصالحة وعيلبون (وهذه القرى الخمس جميعها في الجليل وقد ارتكبت المجازر فيها في تشرين الأول سنة 1948م).[6]  وهكذا نرى أن هناك تناغماً بما حصل في فلسطين من تآمر وتخاذل عربي في ذلك الوقت وضعف في القيادة الفلسطينية وعدم وعي كافٍ لما يحصل وقلة السلاح بين أيدي الشعب الفلسطيني. ويجمع كثير من أهل البلاد الذين عاشوا تلك الفترة أنه لو ترك الشعب الفلسطيني يقاتل وحده ومد بالسلاح الكافي لما استطاع اليهود السيطرة على فلسطين. وكثيراً ما نسمع منذ عام 1948م حتى اليوم أن الفلسطينيين باعوا أرضهم لليهود، مثلاً قرية الظاهرية لم يكن لليهود يوماً من الأيام أي شبر في القرية، ولم يبع أي من الأهالي ولو متراً واحداً لليهود، والغالبية العظمى من القرى الفلسطينية كانت على هذا المنوال بعدم بيع الأراضي لليهود. ومما قاله مثلاً "الصهيوني روبين" أمام لجنة التحقيق عام 1931م التي أتت فلسطين برئاسة جونسون البريطاني أثر الثورة التي حدثت عام 1929 "إن تسعة أعشار الأراضي التي اشتراها اليهود بفلسطين حتى عام 1929م اشتروها من ملاكين غير فلسطينيين يعيشون خارج فلسطين"[7] ولنعد الآن للأسباب التي أدت إلى خروج السكان من الظاهرية: القرية التي عاشوا فيها أحلى أيام حياتهم والتي عاشوا فيها مئات السنين. ففي 11 أيار كان هناك قصف شديد على صفد مصدره ميرون، وكان شباب القرية يحرسون قريتهم تحسباً لهجوم يهودي محتمل. ولكن فوجئ أهل القرية بأن أهل صفد ينزحون عنها باتجاه وادي الليمون. وإن جيش الإنقاذ إنسحب من المدينة قبل قدوم اليهود إليها وترك السكان بدون أية حماية فاضطر الأهالي إلى النزوح، عندها خاف أهل الظاهرية لأن صفد سقطت ولا يستطيعون المقاومة، هل يمكن لمجموعة صغيرة من الشباب أن تقاوم جيشاً كبيراً مزوداً بأحدث أنواع الأسلحة الحديثة في ذلك الوقت. فانسحب أهالي القرية باتجاه منطقة عين الحوش ومنها إلى وادي الليمون، ومن ثم إلى منطقة النقعة ومنها إلى قرية الصفصاف ومن ثم إلى الجش، ومنها إلى بنت جبيل في لبنان. وبعد رحلة العذاب هذه عاد معظم سكان القرية إلى منطقة عين الحوش، ولم يستطيعوا دخول القرية بسبب وجود اليهود فيها. فاضطر الأهالي للذهاب إلى قرية السموعي ومنها إلى قرية نحف. وحاول الأهالي العودة مرة أخرى إلى الظاهرية ودخلوها ولكن اليهود كانوا قد زرعوا الألغام حول القرية فاستشهد كل من شكري أمين زيد ونزهة أمين سلامة ومحمد علي الحديري وطه محمد طروية وأحمد ابراهيم طروية فاضطر الأهالي إلى الهرب إلى لبنان

المراجع

3   مسعود أبو يصير صالح: جهاد شعب فلسطين خلال نصف قرن ص 175 – 176 – 177. 

4   د. العسكري يسار : موسوعة المدن الفلسطينية ص 403.

5   مسعود أبو يصير صالح: جهاد شعب فلسطين خلال نصف قرن ص 382,381.

6  مصالحة نور الدين: طرد الفلسطينيين ص 38.

7  مصالحة نور الدين: طرد الفلسطينيين ص 41.

8   مصالحة نور الدين: طرد الفلسطينيين ص 170و171.

9   سعود أبو بصير صالح: جهاد شعب فلسطين خلال نصف قرن ص 439.