معلومات عامة عن بَرْقَة - قضاء غزة
معلومات عامة عن قرية بَرْقَة
قرية فلسيطينية مهجرة، كانت قائمة على أرضٍ مستوية في السهل الساحلي الأوسط إلى الشرق من الكثبان الرملية الشاطئية وتربطها عدة طرق فرعية بالطريق العام الساحلي، الذي يمتد ما بين غزة ويافا، وتبعد حوالي 4 كم عن شاطئ البحر الأبيض المتوسط. شمال مدينة غزة، وعلى مسافة 37 كم عنها، بارتفاع لايزيد عن 25م عن مستوى سطح البحر.
قُدِرَتْ مساحة أراضيها بـ 5206 دونم، شغلت أبنية ومنازل القرية مساحة 26 دونم من مجمل تلك المساحة.
احتلت قرية برقة على يد لواء "جفعاتي/ غفعاتي" في سياق عملية "براك" وذلك يوم 13 أيار/ مايو 1948.
الحدود
كانت برقة تتوسط القرى والبلدات التالية:
- قرية بشيت وامتداد أراضيها من جهتي الشمال والشمال الشرقي.
- قرية ياصور شرقاً.
- قرية البطاني الشرقي من ناحية الجنوب الشرقي.
- قرية البطاني الغربي من ناحيتها الجنوبية.
- مدينة أسدود المحتلة من الجنوب الغربي.
- وقرية عرب صقرير (أبو سويرح) من الغرب والشمال الغربي.
أراضي القرية
أراضي قرية بَرْقَة:
تتألف معظم أراضي بَرْقَة من تربة طفلية حمراء تصلح لزراعة الحمضيات. غرس أهالي بَرْقَة في أواخر فترة الانتداب أنواعاً مختلفة من الأشجار المثمرة حول القرية، وكانت الحمضيات أهم هذه الأشجار، وقد بلغت المساحة المزروعة بها في عام 1945 نحو 667 دونماً. وتعتمد الزراعة على الأمطار، التي يبلغ متوسط كمياتها السنوية نحو 400 مم، وحفر بعض الأهالي الآبار لري بساتينهم، وكانت أراضي بَرْقَة ذات إنتاج عالِ؛ لخصوبتها. وفي هذا المحور سوف نتناول ملكية تلك الأراضي، وأنواع الزراعة فيها، والكيفية التي تسربت بها تلك الأراضي من أيدي أصحابها، ثم نضال أهل القرية لاستردادها.
أولاً: الأراضي الزراعية التابعة للقرية وملكيتها:
اعتاد أهالي القرية – كعادة الفلاحين في جميع القرى- على إطلاق أسماء خاصة على الأراضي الزراعية في قراهم، ليسهل التعرف عليها، وبعض هذه الأسماء تعود إلى نوع التربة، أو موقعها الجغرافي، أو ما يزرع فيها، أو نسبة إلى شخص محدد، أو حادث وقع فيها. وكانت تنقسم الأراضي التابعة لأهل القرية لعدة تقسيمات، هي:
- في الجنوب: أرض حيلة الرهوان، وأرض السبعة، والوسط، وأبو واوي في الجنوب الغربي.
- في الغرب: أرض الروب، وادي العسل، والمنطرة.
- في الشمال: أبو خشيبة (بها حصى طين). وتقع في شمال القرية، ويحدها من الغرب عرب سُكرير، ومن الجنوب مارس السدرة، وأرض حيلة العجلة، ومارس السدرة في الشمال الغربي، ووادي الخب (وهي أرض بها مستنقع)
- في الشرق: شعفة الحجر، وتل الرمل، والشقيف، وتل الريح (على حدود يسور)، والسلاقة.
- في الوسط: أرض المرمالة (أو الرمالة)، والعقولة.
1) بيارات القرية: كانت زراعة الحمضيات تشكل المحصول الرئيسي في السهل الساحلي، منذ أواخر القرن التاسع عشر، بسبب تصديره للخارج خاصة أوروبا. وقد اشتهر البرتقال اليافاوي، وكان من أجود الأنواع الصالحة للتصدير. ولا شك أن حُمى تأسيس بيارات البرتقال، التي انتشرت بشكل مُذهل، قد تركت أثراً على اقتصاديات القرية وأحوالها الاجتماعية وكانت البيارة تزرع بالحمضيات، مثل: البرتقال، الكرفوت، الكلمنتينا، المندلينا، الفرنساوي.
جدول رقم (1) مالكي البيارات في قرية بَرْقَة(*)
# | اسم مالك البيارة | موقعها |
1 | أحمد أحمد خليل أبو شاويش وإخوته | شمال شرق القرية |
2 | مسلم محمد أبو شاويش | شرق القرية |
3 | الشيخ محمد فتوح | غرب القرية |
4 | رباح رشيد أبو خضرة | في أرض وادي العسل |
5 | فوزي رشيد أبو خضرة | غرب جنوب القرية |
6 | باقر رشيد أبو خضرة | شمال غرب القرية |
7 | محمود رشيد أبو خضرة | شمال القرية |
8 | حلمي رشيد أبو خضرة | شمال شرق القرية |
9 | فهمي رشيد أبو خضرة (اشتراها من عبد الرؤوف البيطار) | شرق البلد |
10 | توفيق رشيد أبو خضرة | شمال القرية |
11 | مكرم أبو خضرة | شمال القرية |
2) موراس القرية: المارس هو عبارة عن أرض زراعية خارج حدود القرية تزرع بالحبوب، ولا يقل المارس عن 20 دونم، وكانت موارس القرية موزعة بالشكل التالي:
جدول رقم (2) مالكي الموارس في قرية بَرْقَة(*)
# | اسم مالك المارس | موقع المارس |
1 | أولاد جبر أحمد خليل أبو شاويش | أرض أبو واوي |
2 | إسماعيل حسن أبو شاويش | في أرض الروب، وفي أرض أبو واوي |
3 | عبد المجيد أحمد أبو شاويش | في أرض الروب، وفي أرض أبو واوي |
4 | أحمد أحمد خليل أبو شاويش | في أرض الروب، وفي أرض أبو واوي |
5 | محمد إبراهيم أبو شاويش | في أرض الروب، وفي أرض أبو واوي |
6 | عبد الحميد أحمد أبو شاويش | في أرض الروب |
7 | مسلم محمد مسلم أبو شاويش | في أرض الروب، وفي أرض أبو خشيبة |
8 | عبد الله مسلم أبو شاويش | في أرض الروب، وفي أرض أبو خشيبة |
9 | فارس مسلم أبو شاويش | في أرض الروب، وفي أرض أبو خشيبة |
10 | سليمان مسلم أبو شاويش | في أرض الروب، وفي أرض أبو خشيبة |
11 | حسن مسلم أبو شاويش | في أرض الروب، وفي أرض أبو خشيبة |
12 | عبد العزيز عبد الحميد أبو شاويش | في أرض الروب، وفي أرض أبو خشيبة |
13 | أحمد وعبد المجيد وإبراهيم أبو شاويش | في أرض أبو خشيبة ووادي سكرير |
14 | عبد الحميد أحمد خليل أبو شاويش | في أرض أبو خشيبة ووادي سكرير |
15 | جابر أحمد خليل أبو شاويش | في أرض أبو خشيبة ووادي سكرير |
16 | فالح أحمد أبو شاويش | في أرض أبو خشيبة ووادي سكرير |
17 | عبد الله احمد أبو شاويش | في أرض أبو خشيبة ووادي سكرير |
18 | حسين أحمد خليل أبو شاويش | في أرض أبو خشيبة ووادي سكرير |
19 | طلب الدهودي (أبو الخير) | في أرض أبو خشيبة، وفي أرض السبعة |
20 | الشيخ على الطهراوي (الأعرج) | في أرض أبو خشيبة، وفي أرض الوسطة |
21 | الحاج محمد الطهراوي | في أرض أبو خشيبة، وفي أرض الوسطة |
22 | علي ومحمد الطهراوي (أبو شنب) | في أرض أبو خشيبة، وفي أرض الوسطة |
23 | يوسف الطهراوي (الزقط) | في أرض أبو خشيبة، وفي أرض الوسطة |
24 | الشيخ خليل الطهراوي (المحمدية) | في أرض أبو خشيبة، وفي أرض الوسطة |
25 | يوسف الطهراوي (هرقل) | في أرض أبو خشيبة، وفي أرض الوسطة |
26 | محمد عبد الله الطهراوي (العمريطي) | في أرض أبو خشيبة، وفي أرض الوسطة |
27 | عطية وعبد الله خليل الطهراوي | في أرض أبو خشيبة، وفي أرض الوسطة |
28 | محمد البلبيسي (محمد لطيفة) | في أرض الوسطة |
29 | العبد عبد الرحيم البلبيسي | في أرض الوطسة |
30 | حسن وحسين عواجة | في أرض السبعة |
31 | أحمد عقيل الدهودي | في أرض السبعة |
32 | حسين وحسن خليل الدهودي | في أرض السبعة وأبو خشيبة |
33 | محمود يوسف الدهودي (الهبيجي) | في أرض السبعة |
34 | محمد عبد الحميد الدهودي | في أرض السبعة |
35 | أحمد وحسين مصطفى الخطيب | في أرض أبو خشيبة، وفي أرض السبعة |
3) حواكير القرية:
الحاكورة هي عبارة عن قطعة أرض صغيرة (من 3-4 دونمات) محاطة بشجرة الصبر لتحديد الأرض، وتزرع فيها حاجيات الدار من عدس، وبصل، وتين، وعنب، وفجل، وتوم، والخضروات بأنواعها، ولوز، ومشمش، ورمان. وكانت الحواكير موزعة على طرف القرية، وهي بالشكل التالي:
جدول رقم (3) مالكي الحواكير في قرية بَرْقَة(*)
# | اسم صاحب الحكورة | موقعها من القرية |
1 | عبد العزيز أبو شاويش وأولاده | جنوب البلدة (الشارع الأول) |
2 | سليمان مسلم أبو شاويش | جنوب البلد |
3 | فارس مسلم أبو شاويش | جنوب البلد الشارع الأول |
4 | حسن أحمد النجار | جنوب شرق البلد |
5 | حسن أحمد السردي | جنوب البلد |
6 | الحاج محمد صبح | شرق البلد |
7 | هنية صبح (هنية عساف) | شرق البلد |
8 | الحاجة لطيفة صبح (لطيفة أم عساف) | شرق البلد |
9 | علي عبد القادر صبح | شرق البلد |
10 | محمد العمودي (محمد دودة) | شمال شرق البلد |
11 | عبد الهادي وعايش وحسن العفيفي | شرق البلد |
12 | أحمد الخضور (شروط) | شرق البلد |
13 | جبر أبو شاويش | شرق البلد |
14 | دار أبو علي | شرق البلد |
15 | عبد الحميد حسن صبح مع دار وقهوة | وسط شرق البلد |
16 | محمد مثقال أبو سرايا | شرق البلد |
17 | الشيخ خليل الطهراوي | غرب شمال البلد |
18 | دار حسنين | غرب شمال البلد |
19 | موسى البلبيسي | غرب البلد |
20 | مصطفى محمد البلبيسي | غرب البلد |
21 | محمد محمد البلبيسي | غرب البلد |
22 | دار أبو علي | غرب البلد |
23 | محمد لطيفة البلبيسي | غرب البلد |
24 | اسماعيل حسن أبو شاويش | شمال البلد |
25 | طلب الدهودي (أبو الخير) | جنوب البلد على طريق البطاني- أسدود |
26 | محمد العبد الدهودي | غرب البلد |
27 | إسماعيل العمودي | غرب البلد |
28 | دار الحملاوي (أبو ربعي) | غرب البلد |
29 | العبد عبد الرحيم البلبيسي | غرب البلد |
30 | عبد الحميد البلبيسي | غرب البلد |
31 | حسين البلبيسي | غرب البلد |
32 | إبراهيم شحادة منصور | غرب البلد |
33 | كرم الشيخ خليل الطهراوي | غرب البلد |
34 | كرم حسن وحسين الدهودي (عواجة أو الهرش) | غرب البلد |
35 | سليمان ومحمد حسين العمودي (زعمط) | شرق البلد، قرب دار حسين منصور |
| محمود يوسف الدهودي (أبو الخير) | غرب البلد |
| ابراهيم الدهودي (أبو الخير) | غرب البلد |
4) جرون البلد:
الجرن هو عبارة عن مساحة واسعة من الأرض تستخدم لدرس القش، ولكل عائلة أو حمولة جرنها الخاص حسب حاجتها، ومساحة الأرض الزراعية التي تملكها. وكان يوجد في القرية عدد من الجرون موزعة على أهالي القرية، أهمها جرن أبو خضرة، وجرن أحمد خليل أبو شاويش، جرون آل الطهراوي، جرن حسن عبد الهادي وعايش العفيفي، جرن المختار حسن مسلم أبو شاويش، جرن طلب الدهودي (أبو الخير)، جرن محمود يوسف أبو الخير (الدهودي)، جرن حسين خليل الدهودي، وجرن حسن وحسين الخطيب.
5) آبار القرية: كان في بَرْقَة عدد من الآبار، أهمها: البئر الرئيسي عند الوادي، بئر بيارة فوزي أبو خضرة، بئر بيارة أحمد خليل أبو شاويش، بئر بيارة مسلم خليل أبو شاويش، بئر بيارة محمد فتوح، بئر بيارة رباح أبو خضرة، بئر بيارة توفيق أبو خضرة، بئر بيارة محمود أبو خضرة، بئر بيارة حلمي أبو خضرة، بئر بيارة فهمي أبو خضرة، وبئر بيارة فوزي أبو خضرة.
6) مطامير القرية: المطامير هي مخازن للحبوب تنشأ فوق الأرض، وهي عبارة عن جدران بارتفاع معين، ويكون لها فتحة جانبية لسحب الحب عند الحاجة، وكان لكل عائلة مطمورة لتخزين الحبوب. وكان هناك طريقة لتخزين الحبوب، عن طريق بئر في الأرض، وله غطاء وفتحة بسلم حديدي لسحب الحب.
7) طرق ري المزروعات: كانت طرق ري المزروعات والأشجار عن طريق القنوات والعماميل، والحفر. وكانت الأراضي طينية خصبة، ماعدا أرض الرمالة فكانت حجرية (من حجر الحتان).
8) أهم المزروعات: قمح، شعير، ذرة، عدس، حمص، حلبة، والكرسنة (علف للدواب)، فول، حمص، وهذه الدورة تعرف بالدورة الشتوية. وأما الدورة الصيفية، فكانت تشمل: الذرة البيضاء (الذرة الهندية)، والسمسم. بالإضافة للفواكه، والخضار البعلية مثل: البندورة، الخيار، الكوسا، الفقوس، البطيخ، الشمام، القرع، واليقطين.
9) أدوات الزراعة: محراث من الخشب تجرُّه الجمال والبقر، محراث من الحديد تجره البغال، وكان هنالك نجار من أهالي القرية يقوم بصنع هذه الأدوات. وكانت الزراعة باليد، حيث كانت ترش البذور باليد (البذارة)، وكان مقدار الدونم 4 رطل من البذور (قمح، أو شعير، أو عدس).
ونتيجة لهذا الازدهار الزراعي والزيادة في الإنتاج عن حاجة الفلاحين، أخذ الفلاحون يسوّقون الفائض من الإنتاج إلى المدن القريبة، مثل يافا أو المجدل، وكذلك إلى الأسواق الموسمية الأسبوعية (الجمعة في المجدل والفالوجة، والأربعاء في أسدود).
وفي شهر مايو سنة 1863م زار قرية بَرْقَة عالم جغرافي فرنسي، يدعى »فكتور غيراني Victor Guerin «، ثم اتجه بعدها لزيارة قرية أسدود. وفي زيارته وصف بدقة أحوال القرية، وأنواع الزراعة الموجودة فيها، من حبوب، وفواكه، وحمضيات، ومدى تطور الزراعة فيها، والجمال الذي تمتعت به القرية، والقرى المجاورة.
وخلاصة القوال، إن أهالي قرية بَرْقَة كانوا يملكون مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، توزعت ما بين بيارات، وموارس، وحواكير، زرعوا الحمضيات فيها مختلف أنواع الحبوب. وقد تجنب الباحث التطرق لمساحات الأرض الخاصة بكل عائلة أو حمولة، تحرياً للدقة ومنعاً للحرج؛ فقد توفر لديه جزء من المعلومات، ولم تتوفر له كل المعلومات. وتجدر الإشارة هنا، لما ورد من معلومات في كتاب جميل عبد الرحمن السحار: »وتضم القرية حارتين هما: حارة الدواهيد، وحارة أبو شاويش، وحارة الدواهيد تملك معظم الأراضي الزراعية«. وهي معلومات غير دقيقة، حيث إن تعداد السكان ومساحة الأراضي المذكورة تنفي هذا القول، ولذلك ينبغي تصحيح هذا الخطأ.
سيطرة الإقطاع الزراعي على أراضي القرية في نهاية الحكم العثماني
يدور البحث، في هذا القسم من الدراسة، حول الكيفية التي تسرّبت بها الأراضي من يد الفلاحين إلى الإقطاع الزراعي، ومن ثمَّ بيعها للسماسرة اليهود؛ لتغدو مستوطنات صهيونية مُنتصبة على أرض القرية، وسيكون لها دوراً رئيسياً في تهجير السكان الفلسطينيين لاحقاً، في أحداث النكبة. كما ويحاول الباحث، هنا، تصحيح بعض الأخطاء الواردة في الكتب والمراجع حول مساحة الأراضي التابعة لقرية بَرْقَة، والمستعمرات التي أقيمت عليها قبل عام 1948م.
يمكن فهم الإطار النظري لهذا الموضوع، من خلال تحليل السرد الزمني للوقائع Chronology)). حين كانت الأراضي في العهد العثماني ملكاً للسلطان بحق الفتح، يتصرف فيها كيف يشاء، وكان الفلاحون يملكون بيوتهم والحواكير المحيطة بالقرية فقط، أما الأراضي الزراعية فيزرعها الفلاح دون أن يملكها. واستمر الأمر كذلك حتى منتصف القرن 19، حين أصدرت الدولة العثمانية عدة قوانين لتنظيم تسجيل الأراضي، وتصفية نظام المشاع؛ بدعوى التحديث تحت ضغوط الدول الأوروبية؛ لضمان حقوق الأفراد. ومن خلال هذه القوانين توقعت الدولة العثمانية زيادة دخلها المالي من فرض الضرائب المباشرة على الأملاك، لكن الواقع جاء مخالفاً للتوقعات؛ فالفلاح لم يكن قادراً على دفع رسوم تسجيل الأرض باسمه، كما أنه كان يتجنب التسجيل خشية من التجنيد الإجباري. الأمر الذي ساعد على ظهور طبقة كبار الملاك من الأعيان، وكبار التجار، الذين كان باستطاعتهم دفع تكاليف التسجيل. وبالرغم من ذلك، استمر نظام ملكية المشاع معمولاً بها حتى نهاية القرن التاسع عشر، ولكن الأرض سُجلت باسم الحمولة أو شيخها، مع تحديد نصيب الأفراد، على أن يكون موزعاً بين مناطق مختلفة من أراضي القرية. وكان الفلاح يعرف مجموع أملاكه، لكنه لا يستطيع التصرف بالبيع أو الشراء في قطعة محددة جغرافياً؛ لأن موقعها يتغير من منطقة إلى أخرى كل بضع سنوات. وظل الأمر كذلك حتى أصدرت حكومة الانتداب قانون تسوية الأراضي عام 1928م، الذي خوَّل مأمور التسوية بتقسيم الأرض بين المالكين أو المنتفعين، فقامت حكومة الانتداب بتحديد الموارس وتسجيلها بشكل دائم.
1) الحكومة التركية تَعهَد لـ»الملتزمين« بجمع الضرائب
وأما عن الضرائب التي كانت تُحصَّل من الفلاحين، فأهمها ضريبة »العُشر«، وهي الضريبة التي كان الأتراك يجبونها من أصحاب الأراضي، بنسبة 10% من حبوبهم، وسائر حاصلاتهم الزراعية، حتى الحنضل فكانت الحكومة التركية تفرض عليه ضريبة العشر. ثم زيدت هذه النسبة فجعلت 12,5%. وكانت الحكومة التركية تجبيها بواسطة »مُلتزم«، وكان أكثر هؤلاء من طبقة الأفندية الذين أثروا عن هذه الطريقة. فقد كان الواحد منهم يتعهد بدفع مبلغ من المال لصندوق الحكومة عن مدينة أو قرية أو مجموعة قرى، ثم يجبي من أهلها أضعاف ذلك المبلغ. وكانت الحكومة التركية في بعض الأحايين تضيف إلى قيمة الالتزام 6% باسم »التجهيزات العسكرية«. وأما ضريبة الأغنام، فكانت الحكومة التركية تجنيها عن الأغنام والجمال بنسبة: أربعة قروش عن كل رأس غنم، وعشرة قروش عن كل جمل، ثم زيدت هذه النسبة في عام 1908م باسم »التجهيزات العسكرية«، وزيدت مرة أخرى بعد حرب البلقان (1912م) باسم »الأسطول«. هذا علاوة على أنواع أخرى من الضرائب، التي كان يجنيها الأتراك من الأهالي في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. وكانت ضريبة الأرض تصل أحياناً إلى 20% أو أكثر، حسب جشع الملتزم، ونسبة الأرباح التي يريد تحقيقها لنفسه، فلم تكن المشكلة في الضرائب بحد ذاتها، وإنما في أسلوب تحصيلها. وقد استمرت هذه الضرائب في السنوات العشر الأولى من عهد الانتداب البريطاني، ثم عدل نظام الضرائب وأصبح أكثر قسوة على الفلاحين.
هكذا كانت الصورة العامة للقرى في فلسطين، وهذا ما انسحب – بطبيعة الحال- على قرية بَرْقَة، وحول هذا الموضوع يقول الحاج علي أبو شاويش: »سمعت عدة مرات من والدي [أحمد أحمد أبو شاويش] أنه في أواخر عهد بني عثمان (تركيا)، كان هنالك قانون اسمه قانون الالتزام، وكان هم تركيا هو جمع المال. فجاء رجل تاجر يُدعى » رشيد أبو خضرة« من مدينة يافا، ويبدو أنه قد رأى في ملفات الدولة الرسمية أسماء ستة قرى، هي: بَرْقَة، أسدود، البطاني الشرقي، البطاني الغربي، القسطينة، وياسور، وهذه القرى موضوعة في قائمة واحدة. فقام هذا الرجل بضمان تلك القرى، ودفع رسومها للحكومة التركية لمدة عشر سنوات، واكتشف أن أكثر الأراضي ضمن هذا الكشف هي أراضي قرية بَرْقَة، مقارنة بعدد سكانها، فاختار أن يقيم فيها. فجاء الرجل على بَرْقَة باحثاً عن مختار القرية (حسن أحمد خليل أبو شاويش في حينها)، وأبلغه بما حصل معه في قضية ضمان تلك القرى الستة، وطلب منه الإقامة في البلد، وتسهيل مهمته في جمع أمواله التي دفعها. فكان رد المختار بالموافقة على إقامة هذا الرجل في القرية، ولكن بشرط أن يتوجه معه إلى الجهة الحكومية، لكي يدفع رسوم الأرض التي ورثها هو وأخوته عن والده، فقد كان قادراً مادياً على سداد تلك الرسوم، فما كان من »أبو خضرة« إلّا الموافقة على هذا الشرط. وبالفعل ذهب المختار إلى غزة (مركز القضاء) ودَفع الرسوم المطلوبة عن أرضه، ورفع »أبو خضرة« مسؤوليته عن الأرض التابعة لعائلة المختار.
أقام »أبو خضرة« في القرية وكان وحيداً، فقد رحلت زوجته وتركت له أولاد مقيمين في مدينة يافا. ولا شك أن هذا الرجل كان واعياً لمجريات الأمور في الدولة التركية، ولديه من المال ما يكفي لضمان تلك القرى. وبعد سنوات قليلة، طلب من المختار أن يزوجه أحد نساء القرية، وكان له ذلك، فزوجه امرأة »عزباء« من آل صبح تدعى »صبحه«، واختار قطعة أرض في البلد بمساحة حوالي 100 دونم، وحفر بها بئر، وزرعها بالحمضيات (بيارة)، وبنى فيها عمارة وأقام فيها (أصبحت تُعرف فيما بعد بـ »عِلِّية أبو خضرة«). وبدأ بعدها بالتوسع في سُلطته على أهل القُرى، فاستخدم المَغارِبة(*)، وأخذ »أبو خضرة« بتجميعهم حوله، وعاماً بعد عام استطاع أن يجمع حوله مجموعة من المَغارِبة يُقدر عددهم بـ 100 شخص، واشترى لهم خيل وبارود خرطوش، وسيوف، وكرابيج، وكانوا بمثابة »ميليشيا« لحمايته. وهكذا حكم قبضته على أهالي القُرى.
ويُروى أن »أبو خضرة« خصص قطعة أرض على أطراف البلد بمساحة 100 دونم تقريباً، وخصصها لتكون جرن، وأصبح أصحاب الأراضي الأصليين يزرعونها ويسقونها، وحين يحل موسم الحصاد كان »أبو خضرة« ومن يعاونوه يطلبون من الفلاحين أن يذهبوا بحصادهم إلى جرن »أبو خضرة«، ويقوم الفلاح بدرس الحبوب تحت حراسة المغاربة، حتى إنه كان يجبرهم على تكميم أفواه الدواب أثناء عملية الدرس، كي لا تأكل شيئاً من الحبوب أو القش. ثم يُصفي الغلال ويقسمها إلى خمسة أقسام، يقوم »أبو خضرة« بتوزيعها كما يلي: قسمين من أصل الحصاد تذهب لـ»أبو خضرة« مباشرة، ويقوم الفلاح بتحميلها على ظهور البعير ونقلها إلى مخازن »أبو خضرة« في مدينة يافا. وأما ما تبقى من غلَّة فيقوم »أبو خضرة« بخصم الرسوم، والضرائب، وبدل النطارة (= الحراسة) التي يقوم بها المغاربة، وطبق عليهم قانون الخبازة وبهذه الطريقة كان يُسيطر على ما تبقى من الغلة. وحسب مَن عايشوا تلك الفترة، فإن كثير من الفلاحين كانوا يعودون بعد عملية الدرس، دون أن يملكوا طحنة (= دقيق) يقدموها لعيالهم، وربما يتكرم عليهم »أبو خضرة« فيعطيهم بعضاً من التبن للدواب.
وفي السنة التالية، كان الفلاحون يقترضون من »أبو خضرة«، في مقابل رهن الأرض، ليعاودوا نفس الكرَّة؛ من الحرث والزراعة والسقاية، وفي موسم الحصاد لا يجنون شيئاً. وعام بعد عام على هذا الوضع، وصل الحال بالعديد من الفلاحين من مُلاك الأرض أن يطلبوا من »أبو خضرة« أن يأخذ الأرض منهم، في مقابل أن يتركهم وشأنهم. وهذا كله بقوة »الميليشيا« التي جمعها حوله، وبقوة القانون الذي كانت تمثله »الجندرما« (القوات الحكومية التركية)، التي كانت جاهزة تماماً للتعاون معه لضمان انصياع الفلاحين له. وبهذه الطريقة سيطر»أبو خضرة« على معظم أراضي القرية.
ثم جاء التحول في هذا السياق بعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى، ودخول الإنجليز لفلسطين. فقد كانت الأرض في عهد تركيا غير مفروزة، أما حكومة الانتداب فقد أرادت تطويب الأرض؛ بهدف تحديد الملكية وتسهيل التصرف بالأرض (بيعاً وشراءً)، وهذا –على الأرجح- لتسهيل عملية بيعها لليهود، وكانت عملية تسجيل الأراضي قد بدأت من الجنوب إلى الشمال (ابتداءً من قرية رفح). وسمع أهل القرية بالتوجه البريطاني الجديد، فذهب المختار (حسن مسلم أبو شاويش حينها) ومعه بعضاً من كبار أهل القرية إلى مدينة غزة، للتعرف على طبيعة القوانين البريطانية الجديدة، وتوجهوا لرجال من آل الشوا والصوراني (من أعيان أهل غزة المطلعين على مجريات الأمور)، وفهموا منهم أن القانون البريطاني الجديد يقوم على سياسة »وضع اليد«؛ بحيث أن الشخص المقيم في بيت أو قطعة أرض لمدة تزيد عن 10 سنوات، ويشهد له جيرانه بذلك، يتم تسجيل الأرض أو البيت باسمه. فتوجه المختار ومن معه إلى محامي يدعى »الشيخ سليمان التاجي«، من سكان الرملة، وهو رجل كفيف ومعه كاتب. فرووا له قصة الأرض المنهوبة في قرية بَرْقَة من قِبل »أبو خضرة«، فسألهم هل يوجد رجال قادرين على حجر الأرض والصمود فيها، وهل أهل القرية مستعدين لكي يشهدوا لبعضهم البعض في ملكية تلك الأرض؟ فكانت إجابتهم بالتأكيد والموافقة؛ فلم يكن أمامهم إلّا هذا السبيل
2) أهل القرية يُعلنون التمرُّد والثورة على رجل الإقطاع الزراعي:
قام المختار ومعه الوجهاء بجمع أهل البلد في مسجد القرية، وأقسموا على السيف والمصحف بأن: »دمهم واحد.. وقرشهم واحد«، وأن يلتزموا مع بعضهم في الصمود في الأرض، والشهادة المتبادلة أمام لجنة ترسيم الأراضي، على أن يتم توزيع أرضي القرية بين العائلات والحمائل بعد تسجيلها لدى الدوائر الحكومية. وخلال تلك الفترة كان »أبو خضرة« قد استثمر الكثير من الأراضي لصالحة، كما ونجح في استقطاب بعض رجال القرية (من غير ملاك الأرض) للعمل معه. وكان يملك حوالي 100 سكة (تُستخدم في حرث الأرض)، وكان يستغل أفضل أراضي القرية وأخصبها؛ فقد كانت الأراضي حينها مشاع، وكان أهل القرية بالعادة يوزعونها بينهم كل عام بالقرعة، وبالتالي لم تكن الأراضي ملكية فردية للعائلات؛ بمعنى أن كل الأراضي التابعة للبلد هي ملك لكل أهل البلد، دون تحديد من يملك ماذا، وأين؟
وفي تلك المرحلة كان »أبو خضرة« الأب قد رحل، وترك الأرض لأبنائه، وكانوا في ذلك العام (خلال السنوات الأولي لدخول الانجليز لفلسطين) قد زرعوا القمح في أفضل أراضي القرية. فجمع أهالي البلد عدد من الشباب الأشداء القادرين على حمل البارود والسيوف، وهي أسلحة من مخلفات تركيا بعد الحرب العالمية الأولى. كانت مهمة أولئك الشباب ردع كل من يهاجم أهل القرية، وكلفوهم بأمور الحماية في مقابل أن تخصص لهم حصة من الأرض، بعد نجاحهم في استردادها من »أبو خضرة«؛ وفقاً للخطة التي اتفقوا عليها مع المحامي. وبدأ أهل البلد التمرد والثورة على »أبو خضرة«. انتظر أهل القرية قرب موعد حصاد القمح، وقبل الموعد بأسابيع قاموا بالهجوم على تلك الأرض المزروعة، وقاموا بحرثها وقلب الزرع؛ بهدف تخريبها. وحين رأى رجالات »أبو خضرة« هذا المنظر، تدخلوا بإطلاق النار، فرد عليهم المسلحين من شباب القرية بإطلاق النار؛ لإرهابهم وإثنائهم عن الهجوم على أهل القرية، فما كان منهم إلّا أن تركوا المكان وغادروا، حينها بدأ ما يمكن تسميته بـ»الثورة« على »أبو خضرة«، وعلى القوانين الجائرة التي انتزعت الأرض من أصحابها الحقيقيين. واستمرت سيطرة أهل القرية على الأرض المنهوبة منهم بالقوة، فتنبه أبناء »أبو خضرة« للأمر، وعلموا أن أهل البلد قاموا بتوكيل محامِ للدفاع عنهم، فقاموا هم أيضاً بتوكيل محامِ يهودي يُدعى » دهود ميال«، من يهود القدس، وهذا المحامي –حسب بعض الآراء- هو سمسار أراضي للمؤسسات الصهيونية.
3) عرض قضية الأرض أمام القضاء:
بعد فترة من المشاحنات حول ملكية الأرض، تقابل الطرفان (أهل البلد ومحاميهم) من جهة، وأبناء »أبو خضرة« ومحاميهم من جهة أخرى في المحكمة، التي انعقدت – حسب الشهود- في مدينة المجدل، وكانت هذه هي المحكمة الأولى. ونتيجة لتضامن أهل القرية، الذين شهدوا لبعضهم البعض في ملكية تلك الأراضي، صدر حكم المحكمة بأحقية أهل البلد في أراضي القرية، وهذا ما شجعهم في الاستمرار في خطواتهم. لكن »أبو خضرة« لم يستسلم، فقام بالاستئناف على الحكم. ويبدو أنه تنبه لما يحدث في القرية من تضامن الأهالي مع بعضهم البعض، فأخذ في إغراء البعض من أهل القرية لإفساد خطوتهم، وتحريضهم على بعضهم، واستمالتهم لصالحه، في مقابل إعطائهم بعض الأراضي. وكان »أبو خضرة« يعرض في حينها قطعة أرض مساحتها 100 دونم لكل عائلة في محاولة لاستمالتها للانضمام له، ولا شك أنه قد نجح في حالة أو اثنتين، إلّا أن ذلك لم يفت من عضد أهل القرية، الذين جسروا واستمرأوا الحالة بعد قرار المحكمة.
وفي السنة الثانية تم تحويل القضية إلى المحكمة المركزية بغزة، وكان الحكم لصالح أهل القرية للمرة الثانية. واستأنف المحامي اليهودي (محامي أبو خضرة) على قرار محكمة غزة، فتم تحويل القضية في السنة الثالثة لمحكمة القدس، التي كان يرأسها قاضي انجليزي وبعضوية اثنين من العرب، وهناك أبدع محامي أهل، القرية وقدَّم مُرافعة قوية للغاية، اختلط فيها القانون بالسياسة، وارتفع صوته على هيئة المحكمة، مندداً برجالات الإقطاع، الذين يسمسرون على الأراضي ويبيعونها لليهود، مما دفع بالقاضي لتحويل القضية للمحكمة العليا في لندن، الأمر الذي أصاب أهل القرية بالحزن الشديد؛ حيث أن مشوار القدس كان صعباً عليهم (أمضوا يوم أو يومين في الطريق للقدس)، فما هو الحال مع المشوار إلى لندن ؟! إلّا أن المحامي الفلسطيني حاول التخفيف عليهم، صائحاً فيهم بأن لا يقلقوا، وأنه جاهز لأن يُكمل المشوار معهم، وأنه مستعد للسفر إلى لندن.
لا شك أن تحويل القضية إلى المحكمة في لندن قد أصاب أهالي القرية بالحزن الشديد، ومن ناحية أخرى بدأ بعض أهالي القرية يشعرون بالخوف، وأحياناً عدم الثقة في بعضهم البعض، نتيجة للإغراءات التي يمارسها أبو خضرة ورجالاته على أهالي القرية، وبدأت حالة من الشك تسود العلاقة بين الأهالي. ويدلل الحاج عبد الرحمن أبو شاويش على حالة الشك تلك بالقول: » كان هنالك شجرة جميز كبيرة على طرف البلد، وكان كل يوم يصعد إلى قمة الشجرة أحد الأشخاص، لمراقبة من يتردد على »عليّة أبو خضرة« من أهل القرية. والملاحظ أنه خلال فترة المنازعات والمحاكم بين أهل البلد و»أبو خضرة«، كانت العلاقات سيئة بين أهل القرية (وتحديداً آل أبو شاويش)، وأبناء »أبو خضرة« ومن وقف معهم من أهل البلد، وهم قلة. وقد أثرت تلك الحالة على العلاقات الاجتماعية بين أهل القرية، واستمرت تلك الحالة لعدة سنوات حتى بعد انتهاء النزاع«
4) التفاوض بين أهالي القرية ورجل الإقطاع الزراعي (أبو خضرة)
كان أحد أبناء أبو خضرة ويُدعى »هاشم أبو خضرة«، وهو تاجر حمضيات كبير تعثّرت تجارته، فأصبح مدين للبنك بملغ 40 ألف جنية فلسطيني، ويريد أن يبيع جزء من الأرض لسداد البنك، وبعد تفاوضه مع أخوته وتوزيع تركة والدهم، كانت حصته الأكبر من التركة في أراضي قرية بَرْقَة، بالإضافة لحصة لهم في أرض تل الربيع (تل أبيب) والشيخ مونس وغيرها. والمهم في الأمر، أنه بعد قرار محكمة القدس أراد »هاشم أبو خضرة« أن يتفاوض مع أهالي القرية، ولأن العلاقات مع الأهالي كانت متوترة أو شبه مقطوعة، فقد اختار طريقاً مختلفة للتفاوض؛ فاعترض، هو ونفرٌ من رجاله المسلحين، طريق أحمد أحمد أبو شاويش الملقب بـ»الباشا« وهو ذاهب لقرية بشيت، وللوهلة الأولى ظن الباشا أنهم قادمون لمهاجمته فاستعد لذلك، إلّا أن حديث هاشم فاجأه حين بادر بالقول: » نريد أن ننهي الخلاف يا باشا، ونُقَسِّم الأرض بيننا وبينكم بالنصف .. على أن يختار أهل البلد القطعة التي يريدونها، ويتركوا الأرض التي لا يريدونها«. وبعد أن تدارك »الباشا« المفاجأة رد عليه بالقول: »أنا ذاهب الآن إلى قرية بشيت .. امنحني فرصة لأشاور أهل القرية وأرد عليك ..«، إلّا أن »هاشم« ألحَّ عليه واستحلفه بأن يعود على الفور للقرية، ويشاور إخوته وأبناء عمه وباقي أهلها في هذا الأمر، وهذا ما كان. تزامن هذا العرض مع حالة من الضعف والوهن والإعياء، التي أصابت أهل القرية، نتيجة لطول مدة التقاضي، وحالة القلق والشك من نتيجة المحكمة، ولما تكبده الأهالي من أعباء مالية نتيجة للمحكمة.
وبمجرد عودة »الباشا« للقرية تداعى أهلها للاجتماع والتباحث في الأمر، فتباينت الآراء بين رفضٍ للفكرة، وقبولها باعتبارها تضمن لهم حصة معقولة، وأمام هذا التضارب قرروا التوجه إلى المحامي في يافا، وطرحوا عليه الأمر، فرد عليهم بالقول: » والله يا آل أبو شاويش ويا أهل بَرْقَة ما أحد في فلسطين وقف للأرض وفعل كما فعلتم .. أنا أعلم أنكم تعبتم كثيراً خلال سنوات التقاضي .. وهذا الحل معقول جداً لكن بشرط أن يأتي كل ورثة »أبو خضرة« ليوقعوا على هذا الاتفاق«. وبالفعل عادوا إلى القرية وأبلغوا »أبو خضرة« بما توصلوا له، وفي اليوم التالي توجهوا إلى المحامي، وهناك تفاجأ أهل القرية بوجود أهالي من القرى المجاورة من البطاني والقسطينة ويسور، التي كانت تعاني من نفس المشكلة، فوجدوهم واقفين أمام مكتب المحامي في يافا، بانتظار نتيجة الخطوات التي وصلوا لها؛ ذلك أن أي نتيجة يصل لها أهل بَرْقَة يمكن أن تنسحب على باقي القرى، وكان انتظار أهالي القرى الأخرى لمعرفة هل سينجح أهل بَرْقَة أم لا؟.
وبالفعل تمَّ عقد الاتفاق بين أهالي القرية وورثة »أبو خضرة«، على تقسيم الأرض موضوع النزاع (المنهوبة) بالنصف، انتظاراً لوصول لجنة »الطابو« لكي ترسم الأرض. فاختار أهل البلد مجموعة من الأراضي هي: أرض الروب، وأرض أبو واوي، والوسطة، والسبعة، وهي ما كانت تسمى بالوجه القبلي، وهي من أفضل الأراضي الزراعية، وتقع في الجنوب الغربي من القرية، وتحدها قرى: أسدود، والبطاني الغربي، والبطاني الشرقي. بالإضافة لقطعة أخرى وهي أرض أبو خشيبة وتسمى »سُكرير أو صُقرير« وهي تقع شمال القرية، وتحدها قرى: يبنا، وبشيت، وأبو سوريح، وهي معزولة نوعاً ما عن أراضي البلد، هذا علاوة على عدد من الحواكير الصغيرة داخل القرية وعلى أطرافها. وتم توزيع الأراضي على العائلات التي التزمت مع أهل القرية ضد »أبو خضرة«، كما كانوا قد اتفقوا عليه في بداية عصيانهم، بحيث أن كل عائلة حصلت على مساحة أرض تعادل عدد الأنفار
تم تقسيم الأرض كما هو متفق، ولتسهيل إجراءات ترسيم الأرض وتسجيلها في الطابو، تم منح كاتب في دائرة الطابو يُدعى »حلمي المباشر« قطعة أرض بمساحة 100 دونم، تقع في أرض الروب في وسط أراضي أهل القرية، لكي يُسهل لهم إجراءات تسجيل الأرض. ويُذكر أن هذا الرجل عرض تلك القطعة لاحقاً للبيع، فيبدو أنه كان مستشعراً الأخطار الداهمة على فلسطين في أعقاب قرار التقسيم 1947م، فتشارك بعض الفلاحين من غير الملاك وتقاسموها فيما بينهم
وهكذا عادت الأرض، أو جزء منها على الأقل، لأهلها الحقيقيين، وانتزعوها من بين أنياب الإقطاع الزراعي، وحافظوا عليها من التسرب والبيع، وتم تسجيلها في سجلات الحكومة باسمهم، وهي قطع الأراضي التي عرضناها سابقاً.
البنية المعمارية
البناء الهيكلي للقرية:
كانت قرية بَرْقَة ذات مساحة تتألف من عدة بيوت متلاصقة، وقد اتسعت مساحتها في أواخر عهد الانتداب البريطاني حتى أصبحت 266 دونم، هي المساحة المبنية، وامتد عمرانها نحو الشمال والشمال الغربي . وكانت مباني قروية من الطين والقش، وهي عبارة عن حواشي كل أسرة من أسر القرية، ومتلاصقة مع بعضها البعض، مع وجود شوارع داخلية للقرية.
طبيعة مباني القرية:
تتكون القرية من عدة بيوت متلاصقة، وكل بيت عبارة عن حوش واسع، يتكون من عدة غرف بمساحة (4x4 متر)، وقد بلغ عدد بيوت القرية حوالي 160 بيت. وكان رب الأسرة يمتلك حوش واسع، وكل واحد من أبنائه له غرفة داخل هذا الحوش، ويتيع للحوش مساحة واسعة. وكانت البيوت متلاصقة، ولكل غرفة شباك تطل على الحوش، بمساحة حوالي (1x1 متر).
كانت البيوت عبارة عن مباني من الطين، والأسقف من الطين مع حطب الذرة، ويُخلط الطين بالقصل والتبن. وأما السور الخارجي للبيت والحوش فهو مصنوع من الطين. في نهاية الاحتلال الانجليزي، تم بناء غرف من الطوب (البلوك) والكرميد، وأصبح بعض الناس يمتلكون مثل هذه المباني، وذلك حسب مقدرتهم المالية. ويوجد في القرية ساحة واسعة في منتصف البلدة
المختار والمخترة
مخاتير القرية: كان يوجد في قرية بَرْقَة مختارين، هما:
- حسن مسلم سليمان أبو شاويش
- محمد عبد الحميد يوسف الداهودي
مقاعد (= مجالس) القرية:
المقعد عبارة عن حوش واسع، بداخله غرفة مفروشة للجلوس، وبها بابان: باب خارجي، وباب داخلي يطل على الحوش، ويوجد مكان لربط الخيل، واستقبال الخيالة. وفي غرفة المقعد يوجد كانون نار، منقل، بكارج للقهوة، وشيش وتنباك، وعدة القهوة وهي مطحان الهون، ومحماسة القهوة، وفناجين. كما يوجد ناطور للمقعد يقوم بتحضير النار، وعمل القهوة من الصباح الباكر. وكان من عادات أهل القرية جلوسهم في المقعد، للسمر وشرب القهوة، ومن مهام المقعد اجتماع أهل القرية وحل مشاكل الأهالي، واستقبال الضيوف القادمين من القرى الأخرى.
وكان من عادات أهل القرية عند وصول الخيالة، أن يقوم الأهالي المحليين باستقبال الضيوف، والاعتناء بفرس الضيف، وربطه في مربط داخل حوش المقعد، أو في البايكة إذا كان الوقت في الشتاء. وكان أحد السكان المحليين يأخذ مخلات الفرس ويضع فيها الشعير؛ إكراماً للضيف. وعادة ما كان يبادر أحد الأهالي الجالسين في المقعد بتقدم الغذاء للضيف، ويتم تجهيز الطعام وإحضاره للمقعد في بواطي، وهي عبارة عن صواني كبيرة للمقعد([9]).
ويمكن القول باختصار، إن المقعد كان يلعب أدوراً رئيسة في حياة أهل القرية؛ فهو »برلمان القرية« حيث يتباحث الأهالي ويخططون لشئونهم العامة، و»محكمة القرية« حيث يحتكم المتخاصمين في القضايا المُتنازع عليها، وهو المكان الذي يعرفون منه الأخبار، وللسمر والتسلية في نهاية يوم عمل شاق، وهو بمثابة »وزارة خارجية« القرية أمام القرى الأخرى، بالإضافة لتمثيله القرية أمام الجهات الحكومية والرسمية. وكان في القرية مقعدين رئيسيين(*)، هما:
- مقعد حسن مسلم أبو شاويش (في جنوب البلد)
- مقعد أحمد أحمد أبو شاويش (في شمال البلد)
السكان
الوضع السكاني في القرية
يعتقد أهل القرية بأن أصل سكان القرية يعود إلى مصر، وقلة قليلة من الجبل. والراجح أن أغلب عائلات القرية من أصل مصري، من محافظة الشرقية بمصر، أما عائلتا الداهودي وأبو الخير فمن أصل مغربي. بلغ عدد سكان القرية في (عام 1922م) 448 شخصاً، وفي (عام 1931م) بلغ عددهم 593 نسمة، وفي (1945) قُدّر عددهم بنحو 890 شخصاً جميعهم عرب مسلمين، وفي نهاية الانتداب البريطاني بلغ عددهم حوالي 1060 نسمة. وفي عام 1998م، قُدِّر عدد سكان أهالي بَرْقَة المهجرة حوالي 6346 نسمة من اللاجئين.
لم يكن في القرية مدرسة، فكان أبناؤها يتعلمون في مدرسة قرية البطاني المجاورة. ولكن تواجد في القرية مُعلِمين هما: الشيخ علي الطهراوي (الأعرج)، والشيخ إسماعيل السباع، كانوا يعلموا الأطفال فيما يشبه الكتاب. وأمَّا من أسعفهم الحظ وسنحت لهم فرصة للتعليم، فقد كانوا يتوجهون لقرية البطاني الغربي، حيث يتعلمون لغاية الصف الثالث، وهناك تلقوا تعليمهم على يد شيخ يُدعى »عبد الهادي العبادي« وهو شيخ أزهري، وقد تعلموا على يديه اللغة العربية وبعض من العلوم لمدة سنتين. ويُذكر أن ابن أخ هذا الشيخ، ويدعى »أحمد العبادي«، كان يدرس في أسدود في الصف السابع، فكان يُعلمهم الرياضيات. ثم فُتحت مدرسة بين البطاني الغربي والبطاني الشرقي، فانتقلوا إليها. وفي عام 1945 تقريباً بادر الأهلي لبناء مدرسة في القرية، وجمعوا تبرعات من أهلها، وبعد جهود كثيرة تقرر بناء المدرسة، وبدأت عملية البناء وكانت تسير بشكل متقطع، لأن الحصول على الأسمنت كان يتطلب تصريح من القائمقام. وما كادت المدرسة أن تتجهز لاستقبال التلاميذ، حتى جاءت أحداث النكبة، ولم يتمكنوا من فتح أبوابها للتدريس بشكل رسمي. وحسب إحصائيات مصطفى الدباغ، فقد بلغ عدد المُلمين بالقراءة والكتابة فيها، في صيف عام 1947م، 55 رجلاً
ولم يتواجد أي طبيب في القرية، كما هو حال معظم القرى المجاورة، واعتمد أهل القرية على العلاج بالطب العربي على يد الشيخ خليل الطهراوي، والشيخ عبد المجيد أبو شاويش. وبعد إنشاء مستعمرة جان يبنا كان بعض أهالي القرية يتعالجون أحياناً لدى طبيب المستعمرة.
عائلات القرية وعشائرها
أسماء العائلات في القرية:
ضمت القرية عدد من العائلات والحمائل، التي انبثق منها فروع (أفخاذ)، وقد تباينت الأعداد من حمائل كبيرة، وأخرى صغيرة. وهنا يمكن رصد أسماء تلك العائلات التي سكنت القرية، واستمرت فيها حتى الهجرة في عام 1948م، وقد بلغ عددها 20 عائلة، هي:
أبو شاويش - الطهراوي - البلبيسي - أبو علي (وتشمل عائلات: النجار، الشلح، والجغدار) – العامودي – الداهودي (وتشمل عائلة أبو الخير، عواجة، والهرش) - صبح - العفيفي – السردي - منصور - العبادي - الحملاوي - الخضور (وتشمل أبو ركبة وأبو جلمبو)- المُغربي - حسنين – الخطيب - فتوح (العامودي) – الشبطي – مثقال (أبو سرايا) - الهيسماوي- سرية– الأشعل – عساف – سليم.
الاستيطان في القرية
عن إنشاء المستعمرات على أراضي القرية، فيروي الشهود: » بدأنا نلاحظ بعض الأكشاش والتخاشيب بين الواحدة والأخرى حوالي (100 – 200) متر داخل الأرض، التي كانت بالأصل أراضي غير زراعية (كانت متروكة). ثم أصبحت بعد فترة مستعمرات واسعة، ومزروعة بالحمضيات، ولم يستطع الرواة تحديد في أي سنة بالضبط أنشأت تلك المستعمرة. وهو ما يبدو مفهوماً ومبرراً، لأن عملية شراء الأرض وانتقال ملكيتها، وتجهيزها لتصبح صالحة للزراعة والسكن قد مرت بمراحل، بما يعنى صعوبة تحديد تاريخ واضح لنشأتها.
وواقع الحال، أن مستعمرتين كبيرتين قد أقيمتا على أراضي القرية، وهما: مستعمرة »جان يبنا« ومساحتها (4,568 دونم)، وعدد سكانها 476 نسمة. وقد اختلفت الكتب والمراجع حول سنة التأسيس؛ ففي حين أرخ عارف العارف لتأسيسها في عام 1933م، ذكرت الموسوعة الفلسطينية أن بداية التأسيس كان في عام 1931م. وأما المستعمرة الثانية فهي »بتسارون«، وقد تأسست سنة 1933م، ومساحتها (1,130 دونم)، وعدد سكانها 211
الخلاصة: خلص الباحث د. كمال أبو شاويش في دراسته النفسية: قرية بَرْقَة المُهجّرة: دراسة تاريخية اجتماعية سياسية
ثمّة ملاحظتان على المعلومات الوردة في الكتب والمراجع المختلفة، حول المستعمرتين المقامتين على قرية بَرْقَة، وكذلك مساحة أراضي القرية، يمكن تلخيصها في التالي:
الملاحظة الأولى: حول موقع المستعمرتين:
استعرض المؤرخ عارف العارف أسماء المستعمرات اليهودية المقامة في قضاء غزة، في موسوعته (النكبة)، وجاء على ذكر مستعمرة »جان يبنا«، ولكنه لم يُسمِ القرية التي أُقيمت عليها تلك المستعمرة (كما فعل في كل المستعمرات الأخرى)، ولم يفسر في كتابه تلك الملاحظة. وهنا لنا أن نتساءل: لماذا لم يَرِد اسم القرية التي أقيمت على أرضها مستعمرة »جان يبنا«؟ فبالتأكيد أنها لا تقع في الفراغ!. وحول المستعمرة الثانية »بيتسارون«، فقد ذكر في نفس الصفحة أنها مُقامة على أرض قرية السوافير، وهذا خطأ، ذلك أن تلك المستعمرتين متلاصقتين (وهذا ما يوضحه مصطفى الدباغ في موسوعته). وأما قرية السوافير فهي تقع إلى جنوب قرية بَرْقَة، ولم يحدد على أي سوافير بالضبط (فهنالك ثلاث قرى سوافير: السوافير الشمالية، والسوافير الغربية، والسوافير الشرقية وكلها متلاصقة)، ولو افترضنا أنه يقصد السوافير الأقرب لقرية بَرْقَة (السوافير الشمالية) فهي تفصل بينها وبين بَرْقَة قريتين هما: البطاني الغربي، وبيت دراس، ثم السوافير الشمالية. فكيف تكون تلك المستعمرة إذن مُقامة على أرض قرية السوافير؟!
وأما مصطفى الصباغ فإنه من جانبه يُصحح بعض الأخطاء، ولكنه يقع في أخطاء أخرى؛ فيذكر في موسوعته (بلادنا فلسطين – الجزء الثاني)، عن موقع بَرْقَة قائلاً: »وتجاورها من الشمال مستعمرتا غن يفنيه وبيتسارون«. وهو بذلك يؤكد أن المستعمرتين متلاصقتين، لكنه لم يذكر أن تلك المستعمرات مُقامة على أراضي قرية بَرْقَة هذا من جهة، ومن جهة ثانية لم يوضح ما المقصود بكلمة »تجاورها« ! ففي حين يقول: »وتحيط بأراضي القرية أراضي ياسور والبطاني الغربي وأسدود«، يقول بالمقابل: » وتجاورها من الشمال مستعمرتا..« وهنا يتمثل الخلل؛ فبينما استخدم مصطلح »تحيط « مع القرى الفلسطينية، استخدم بالمقابل مصطلح »تجاورها«، وكان الأصل أن يعكس المصطلحين؛ ذلك أن مفهوم »المُجاورة« يُعطي انطباع خدّاع للقارئ، بأن وجود هاتين المستعمرتين هو أمرٌ عادي ومستساغ، وثمة حالة من الجوار الطبيعي والوئام بين المستعمرتين والقرى المجاورة، وكأن مجاورتهما لقرية بَرْقَة تعطي نفس الدلالة لمجاورة قرية أسدود أو البطاني لقرية بَرْقَة!.
وأكثر من ذلك، والغريب في الأمر أن الدباغ في مرجعه المذكور (في صفحة 190)، يُرفق خارطة تشمل البلدان الشمالية لقضاء غزة، موضحاً فيها حدود كل قرية، ويضع فيها »جان يبنا« إلى الشمال من قرية بَرْقَة، وتعزلها عن قريتي: بشيت، ويبنا (أنظر الملحق رقم (1)). وكأن تلك المستعمرة هي واحدة من القرى العربية الفلسطينية التابعة لقضاء غزة !. والحالة هذه، فإن السؤال المُثار: لأي قرية إذن كانت تتبع تلك الأراضي قبل إنشاء المستعمرة عليها (عام 1931)؟
وبمراجعة الموسوعة الفلسطينية نجدها تصحح هذا الخطأ وتحسم الأمر، وتؤكد أن المستعمرة تقع على أراضي قرية بَرْقَة، وهذا يؤكد ما يسعى الباحث لتأكيده. لكنها (أي الموسوعة) بالمقابل تقع في خطأ من نوع آخر، وهو سنة إنشاء المستعمرة، فتذكر: »في عام 1948 شرد الصهاينة سكان بَرْقَة، ودمروا القرية، وأقاموا مستعمرة جان يفنه على أراضيها«، بما يوحي للقارئ بأن تلك المستعمرة قد أنشئت بعد عام 1948م، وهذا أيضاً مُخالف للحقائق.
وأما الدكتور سلمان أبو سته في موسوعته (أطلس فلسطين)، فيؤكد هذا القول. ففي الصفحة (429) من الأطلس، نجد أن مستعمرة »بتسارون« تقع ضمن حدود قرية بَرْقَة، وهي مقامة على قطعة أرض تُعرف لدى أهل القرية بـ »شعفة الحجر«، وتمتد حتى نهاية وادي الخب، على حدود قرية بشيت. وبالعودة كذلك للخارطة المُحددة في صفحة (110) من كتاب أبو ستة (طريق العودة: دليل المدن والقرى المهجرة)، يتبين لنا بوضوح موقع هذه المستعمرة ضمن أراضي قرية بَرْقَة، وحدودها مع القرى المجاورة.
وبالعودة لصور الأقمار الصناعية عبر جوجل آرث (Google Earth)، لتحديد موقع المستعمرتين على الخارطة، وجدنا المستعمرتين متلاصقتين تماماً، ولا تزيد المسافة بين مركزي المستعمرتين في أحسن تقدير عن (2-3 كم)
هذا الجدل هو ما دفع الباحث وحفزه للبحث والتنبيش في المراجع الأجنبية. فوجد أن مستعمرة »جان يبنا أو غان يفنه גַּן יַבְנֶהGan Yavneh « قد تأسست عام 1931م، من قبل عدد من العائلات اليهودية التي هاجرت من روسيا وبولندا إلى الولايات المتحدة، وقد كان مصدر إلهام لاسمها »جان يفنه« بسبب قربها من قرية يبنا التاريخي وفي عام 1930 بدأت المفاوضات للاستحواذ على الأرض من كفر »برقه«، الواقعة بالقرب من قرية يبنا، وهي تتمتع بظروف مناخية مناسبة لتطوير مزارع الحمضيات. فاشترى اليهود قطعة أرض بمساحة 4,600 دونم، بسعر 4 جنيهات إسترليني للدونم الواحد (كان متوسط سعر الدونم الواحد في منطقة رعنانا عام 1929 قد وصل إلى 6.67 جنيه). وقد تم إتمام إجراءات نقل ملكية الأرض في عام 1931، وبلغت التكلفة الإجمالية - بما فيها المصاريف والضرائب، والسمسرة – 19,569 جنيه إسترليني. عانت هذه المستعمرة في البداية من كونها معزولة، ومُحاطة بست قرى عربية، ولاستمرار تطور هذه المستعمرة كان لا بد من شق الطريق، للتواصل مع التجمعات اليهودية الأخرى، وخلال الفترة 1936- 1938 بدأت المفاوضات مع حكومة الانتداب ثم مهدت الطريق لجان يبنا. وفي عام 1948 بلغ التعداد السكاني للمستعمرة 302 نسمة.. وأما المستعمرة الثانية فهي »بتسارون בִּצָּרוֹן Bitsaron« وتعني الحصن، فقد أنشئت عام 1935م على أراضي الصندوق القومي اليهودي، بمساعدة »كيرين هايسود«، وتفيد مصادر عبرية أخرى بأنها تأسست عام 1939م. وأخذت »بيتسارون« اسمها من كتاب زكريا 9:12 »العودة إلى المعقل الخاص بك، فإنك السجناء من الأمل«. وخلال الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948، كانت »بيتسارون« على الخطوط الأمامية في المعارك ضد الجيش المصري، وتم قصف من قبل سلاح الجو المصري.
وقد تعمد الباحث الإطالة في تفنيد هذا الموضوع، لكي يُثَبِّت حقيقتين: فأما الأولى هي تلك المتعلقة بالمواقع الجغرافي للمستعمرتين، وأن تبعية الأرض المُقامة عليها المستعمرتين تعود بالأصل لقرية بَرْقَة، وأما الحقيقة الثانية فهي توكيد رواية تسرب أراضي القرية وبيعها للمستوطنين اليهود، من قبل سماسرة الأراضي من رجال الإقطاع الزراعي؛ فقد شهد شاهد من أهلها. وهنا تلاحظ أن سعر دونم الأرض الوارد في الرواية الشفوية، تطابق مع السعر الذي اشترت به المؤسسات اليهودية (4 جنيهات إسترليني للدونم)، وهذا ما يعزز مصداقية الرواية الشفوية الفلسطينية.
والمؤكد أن هاتين المستعمرتين أنشئتا على أنقاض أرض تابعة لقريةٍ ما، ولما كانت أراضي المستعمرة تقع في الجزء الشمال الشرقي من قرية بَرْقَة، وتحيط بها أراضي القرية من ثلاث جهات، فإن الأمر الطبيعي والمنطقي، في مثل هذه حالة، أن تكون المستعمرة مُقامة على أراضي قرية بَرْقَة، وهو ما تذكره بعض الكتب والمراجع.. هذا فضلاً عن كل الشهادات التاريخية لأهالي بَرْقَة، والتي تؤكد أن أراضي المستعمرتين كانتا تتبعان للقرية، قبل أن يبيعها أبناء »أبو خضرة« لليهود، كما أوضحنا سابقاً. وهذا ما يؤكده محمود حسين في كتابه بالقول: »ونذكرأن أراضي مستوطنتي غان يبنه وبيتسارون من أراضي أبو خضرة« . وأخيراً، فإن الوثائق التي ألحقناها في نهاية هذه الدراسة، تحسم هذه المسألة بشكلٍ قاطع لا لبس فيه.
المهن والحرف والصناعة في القرية
- الزراعة: وقد كانت المهنة الرئيسية لمعظم سكان أهل القرية، وعماد اقتصادهم لخصوبة الأرض، وتوفر مصادر المياه، من الأمطار الشتوية ومن الآبار، وأهم المزروعات: الحبوب بأنواعها (قمح، شعير، وذرة)، والسمسم، والبطيخ، والخيار، وجميع أنواع الخضروات والفواكه: كالتين، والجميز، والزيتون، والعنب، والخوخ، والمشمش. ثم اتجهوا مؤخراً لزراعة أشجار الحمضيات، حتى أصبح في بَرْقَة 12 بيارة، تمتد على مساحة واسعة من أراضي القرية (حوالي 700) دونماً تقريباً.
- تربية الحيوانات: كالأغنام، والماعز، والأبقار، والبغال، والحمير، والجمال للاستفادة منها في أعمال الزراعة، ونقل المحاصيل، بالإضافة إلى الاستفادة من لحومها وألبانها.
- وعمل بعض السكان ببعض الحرف الأخرى: كالنجارة، أو الحلاقة، أو الجزارة، أو البقالة. كما اشتغل بعضهم عاملاً في معسكرات الجيش الانجليزي.
الصناعة والحرف اليديوة:
أهم الصناعات والحرف في القرية:
- النجارة: كان هنالك نجار في القرية يدعى حسن أحمد النجار
- الحدادة: كان هنالك حداد هو مصطفى أحمد النجار
- الخياطة: كان هنالك خياطان اثنان في القرية وهم: نمر الشبطي، وعمر عبد العزيز السيد.
- البناء: ومن أهمهم الحاج علي الطهراوي، وإسماعيل حسن أبو شاويش، ومحمد ماجد الطهراوي.
- الحلاقة: حلاق القرية كان حسين منصور.
- الجزارة: كان هنالك جزاران: حسين منصور، والعبد فتوح (من البطاني الغربي).
- وكان هنالك أربع دكاكين هي: دكان كامل الشبطي، دكان أحمد المغربي، ودكان العبد فتوح، ودكان حسن جبر أبو شاويش.
ولم يكن يوجد في القرية سوق عام، وكان أهالي القرية، وأهالي كل القرى المجاورة، يتوجهون إلى قرية أسدود يوم الأربعاء للتسوق.
الطرق والمواصلات
الطرق الرئيسية في القرية: جميع طرق القرية ترابية وأهم هذه الطرق المشهورة:
طريق البطاني - طريق بشيت - طريق يبنا - طريق ياسور - شارع البطاني الشرقي - شارع أسدود ويمتد من عند بئر البلد لغاية أسدود.
وأما الطرق الداخلية (الشوارع الداخلية) فهي: الشارع القبلي (شارع دار مسلم)، وهو شرق غرب القرية، شارع وسط القرية (شارع آل صبح) وهو وسط بيوت آل صبح. شارع أحمد خليل أبو شاويش وسط حارة أحمد خليل. الشارع الشرقي والشارع الغربي. شارع البلبيسي وهو شارع فرعي من الشارع الغربي. شارع الدواهيد، وهو شارع فرعي من الشارع الغربي. شارع السردي وهو شارع متفرع من الشارع القبلي.
المساجد والمقامات
مقامات القرية ومشايخها:
وكان يوجد في القرية مسجد مساحته مع الساحة التي حوله حوالي 3 دونمات، وله مؤذن هو محمود يوسف الدهودي (الهبيجي)، وإمام المسجد كان الشيخ محمد فتوح (في عهد تركيا)، ثم جاء بعده الشيخ إسماعيل الشلح (الملقب بإسماعيل السباع) في عهد بريطانيا. وتحيط بالقرية عدة أضرحة ومقامات، هي:
- مقام الشيخ محمد: وهو عبارة عن قبر رجل صالح في شمال القرية. وكانت النساء تقوم بإنارة سراج حول القبر.
- مقام النبي برق: وهو عبارة عن غرفة حوالي (4x4 متر) في وسط مقبرة القرية، ويوجد بداخل الغرفة قبر لولي يدعى »النبي برق«، وكان الناس يزورون المقام ويقومون بكسوته كل عام.
- مقام الشيخ زرّوق: كان كبار السن في القرية يحلفون (= يُقسمون) بحياة الشيخ زروق، ومع مرور الوقت اندثر المقام ولم يعُد له أثر، وموقعه في شمال البلد.
مشايخ القرية: الشيخ محمد فتوح - وإسماعيل الشلح (السباع) - الشيخ خليل محمد الطهراوي (المحمدية) (ويعمل حضرات) – الشيخ عبد المجيد أحمد أبو شاويش - الشيخ محمد الدهودي - الشيخ نمر الشبطي - الشيخ أحمد الدهودي/ أحمد سمارة (أبو شعر).
مقابر القرية: يوجد في القرية مقبرة على المدخل الرئيسي للقرية إلى الغرب. ويُذكر أنه كان يوجد في القرية مقبرة قديمة شمال شرق مقام »الشيخ محمد«، وهذه المقبرة اندثرت مع الزمن.
المؤسسات والخدمات
مقامات القرية ومشايخها:
وكان يوجد في القرية مسجد مساحته مع الساحة التي حوله حوالي 3 دونمات، وله مؤذن هو محمود يوسف الدهودي (الهبيجي)، وإمام المسجد كان الشيخ محمد فتوح (في عهد تركيا)، ثم جاء بعده الشيخ إسماعيل الشلح (الملقب بإسماعيل السباع) في عهد بريطانيا. وتحيط بالقرية عدة أضرحة ومقامات، هي:
- مقام الشيخ محمد: وهو عبارة عن قبر رجل صالح في شمال القرية. وكانت النساء تقوم بإنارة سراج حول القبر.
- مقام النبي برق: وهو عبارة عن غرفة حوالي (4x4 متر) في وسط مقبرة القرية، ويوجد بداخل الغرفة قبر لولي يدعى »النبي برق«، وكان الناس يزورون المقام ويقومون بكسوته كل عام.
- مقام الشيخ زرّوق: كان كبار السن في القرية يحلفون (= يُقسمون) بحياة الشيخ زروق، ومع مرور الوقت اندثر المقام ولم يعُد له أثر، وموقعه في شمال البلد.
مشايخ القرية: الشيخ محمد فتوح - وإسماعيل الشلح (السباع) - الشيخ خليل محمد الطهراوي (المحمدية) (ويعمل حضرات) – الشيخ عبد المجيد أحمد أبو شاويش - الشيخ محمد الدهودي - الشيخ نمر الشبطي - الشيخ أحمد الدهودي/ أحمد سمارة (أبو شعر).
مقابر القرية: يوجد في القرية مقبرة على المدخل الرئيسي للقرية إلى الغرب. ويُذكر أنه كان يوجد في القرية مقبرة قديمة شمال شرق مقام »الشيخ محمد«، وهذه المقبرة اندثرت مع الزمن.
التاريخ النضالي والفدائيون
الحياة النضالية لقرية بَرْقَة:
أولاً: دور أهل القرية في الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939):
نقلاً عن الحاج خليل أبو شاويش قوله بأنه خلال الفترة الأولى لثورة 1936م، » جاءت مجموعة من الثوار إلى القرية يبحثون عن شخص يدعى »عبد السلام المغربي«، وهو عامل فلسطيني من أهالي القرية كان يعمل في المستعمرة لدى اليهود، فجاءه الثوار وقت الضحى، حين يكون معظم رجال القرية – عادة - في الحقول خارج البلد، وطلبوا منه دفع 10 ليرات كتبرع للثورة. وبعد شهر أو شهرين من تلك الحادثة، عادوا مرة أخرى يطلبون 50 ليرة هذه المرة، فكان رده أنه لا يحتكم على هذا المبلغ، فأخذوه معهم إلى خارج البلد، وقد كان هذا الرجل وحيداً (ليس له أخوة أو أقارب)، وعندما سألهم إلى أين؟ أجابوه على القيادة في قرية »المسمية«. فجاءت نساء بيته يستنجدن بوالدي [أحمد أحمد أبو شاويش]، وأخبروه بالقصة، فما كان منه إلّا أن ركب الفرس ولحق بهم إلى حيث أشارت النسوة، وعندما أدركهم وجدهم ثلاثة شباب، فبادرهم بالسؤال عما جرى، فقالوا له بلغة آمرة: هذا ليس شأنك، فتوسل إليهم أن يتركوا الرجل، لكن دون جدوى. فما كان منه إلّا أن ترجل عن الفرس وسبقهم بعدة خطوات، مقسماً ومهدداً بإطلاق النار عليهم إن لم يتركوا الرجل، وأطلق سيل من المسبات عليهم وعلى القائد الذي أرسلهم، وأنهم وقيادتكم لا تجرؤون على المبيت في البلد ليلة واحدة .. فما كان منهم إلّا أن تركوه يأخذ الرجل ويعود به للقرية« . وهذه الحادثة – وفقاً لذاكرة الحاج خليل- كانت في السنة التي قام فيها الثوار بتخليع (= قلع وتخريب) سكة الحديد؛ وهي السنة التي شارك فيها المجاهدين من القرى المجاورة لبَرْقَة، في عمل جماعي مُنظم استهدف خلع قضبان سكة الحديد، وكان ذلك في نهاية بداية ثورة 1936؛ بهدف تعطيل طرق المواصلات التي كان يستعملها الانجليز لملاحقة الثوار ومطاردتهم، وفيها تمكّن الثوار من إتمام مهمتهم في ليلة واحدة، ابتداءً من محطة المجدل مروراً بأسدود وحتى محطة يبنا.
يبدو أن هذه القصة البسيطة كانت هي المدخل لوضع قرية بَرْقَة على خارطة ثورة 1936م، فهذا الحدث كان له ما بعده، كما يروي لنا الحاج علي » يبدو أن تلك المجموعة من الثوار كانت قد أبلغت أحد قيادات الثورة، التي كانت موجودة في منطقة طولكرم .. كان اسمه عارف عبد الرازق«. وبعد حوالي شهر من تلك الحادثة، جاءت مجموعة من الثوار للقرية، وطلبت من أهلها أن يخرجوا لتكسير بيارة تعود ملكيتها لـ »عبد الرؤوف البيطار«، وذلك بأمر من قيادة الثورة، فعارض أحمد أحمد أبو شاويش الملقب بـ »الباشا« ذلك، وطلب منهم أن يبلغوا قيادتهم بذلك، لأن بيارة البيطار مجاورة لأرضه، وكان »البيطار« قد استأمنهم عليها في غيابه، وأنه مسئول عنها، وهدد بأنه سيحميها بروحه في حال حاول أي أحد الاعتداء عليها. وبالفعل أبلغوا قيادتهم بما بَدرَ من »الباشا«، فأرسلوا له تبليغ بالحضور للقيادة، وكذلك أرسلوا تبليغ لناطور البيارة الخاصة بالبيطار ويُدعى »الشيخ أحمد نجيب«، وهو من قرية بيت دجن.
ويضيف الحاج خليل بالقول: عند وصولهما لمقر القيادة في طولكرم، وكانت في عمارة على رأس الجبل خارج المدينة، وعلى طول الطريق للمقر كانت مجموعات من المسلحين على جانبي الطريق، قاموا بتفتيشهما أكثر من مرة. وعند باب المقر بادر أحد الحراس بمحاولة تفتيشهما للمرة الثالثة أو الرابعة، فما كان من »الباشا« إلّا أن زجره بلهجة متوترة » قاموا بتفتيشنا أكثر من مرة«، فطل رجل من شباك العمارة آمراً بالسماح لهم بالدخول. ويصف الحاج على ما دار في تلك المقابلة بالقول: »كانوا اثنين: القائد، ومساعد له. وبعد أن سألوا عن أسمائهم بادر القائد معاتباً »الباشا« بالقول: »لماذا تضع نفسك في مواجهة الثورة؟ وتضع نفسك في صف المعارضة للثورة؟ وما هي علاقتك بالبيطار؟«، فرد الباشا عليه بالقول: »علاقتي بالبيطار هي علاقة جيره، فالبيطار أوصاني على البيارة واستأمنني عليها، وأنا رجل فلاح ولا أتدخل في السياسة، والأمر يتلخص في حق الجيرة لا أكثر ولا أقل«. فرد عليه القائد: »أنت في المرة الأولى قمت بطرد الناس من القرية عندما جاءوا للمغربي، وقلت لهم أنتم وقيادتكم لا تجرؤون على المبيت في البلد ليلة واحدة .. صحيح؟«، فرد: » صحيح، وأنا جاهز لأثبت لك ذلك، وأن أهل البلد من سن الـ 15 لسن الـ 80 لا ينامون طوال الليل، يتناوبون كل ليلة الحراسة على القرية«، واسترسل بالقول: » ثم أنهم جاءوا لهذا الرجل الغلبان، فلماذا لم يأتوا لي أو لأي رجل مُقتدر على الدفع؟ أنهم استضعفوا الرجل فمن أين يأتي لهم بالنقود التي طلبوها؟ فربما يحسبونه جاسوس لليهود، وهذا كلام غير صحيح، فهو مجرد عامل يسترزق قوته من العمل في المستعمرة«، وأما بالنسبة لبيارة البيطار التي كانوا ينووا تكسيرها، فسأل »الباشا« القيادة عن جدوى تخريبها؟ وهل المصلحة العامة تقتضي الاستفادة منها أم اتلافها؟ أوليس القيادة بحاجة للدعم المالي؟ وفاجأ »الباشا« قيادة الثورة بالاقتراح: » هذه البيارة أكثر من 100 دونم، وتخريبها خسارة كبيرة، لكن أقترح عليكم أن تستمر البيارة كما هي، ولندع البيطار يحرث الأرض ويسمدها ويسقي الشجر، وفي أيام جني الثمر يمكن السيطرة على البيارة وتضمينها لمتعهد »ملتزم« والاستفادة من عائداتها لصالح الثورة، بدلاً من تخريبها«. فسأله القائد بلهفة: » وهل تضمن هذا الكلام؟«، فأجابه الباشا: »نعم، وإذا جاء البيطار لاعتراض العمال حينها أنا مَنْ سيقف له، وأحمي العمال«. ولم يَفُت »الباشا« الشكوى للقائد من سوء معاملة أهالي البلد، والبلاد المجاورة، من قِبل بعض المتطوعين في الثورة، وسأله إن كان يوافق على إهانة الناس؟ فرد عليه القائد بالنفي، وأن أحداً من الثوار لن يصل القرية بعد الآن.
ويبدو أن هذه المقابلة، واللغة التي تحدث بها »الباشا« وجدت استحسان لدى القائد، واقترح على »الباشا« أن يكلفه رئيس فصيل في الثورة ومسئول عن القرية، وأعطاه خطاب بهذا الأمر، وسأله إذا كان يستطيع أن يحمل الخطاب معه، أم يرسله له إلى البلد؟، فأجابه »الباشا« ولِمَ لا أستطيع؟ فأجابه القائد خوفاً من أن يمسكه الانجليز معك في الطريق للبلد، فرد عليه »الباشا«: » وهل من سيحمل الخطاب أرجل مني؟«. وعاد للبلد مسئولاً، على أن يلتزم بما تعهد به. وبالفعل التزم الباشا بما قد وعد، واستفادت الثورة من ثمار بيارة البيطار لمدة سنتين متتاليتين، حتى انتهت الثورة.
ومن ضمن الفعاليات الوطنية التي ساهم بها أهل القرية أثناء أحداث الثورة، تكسير بيارة لليهود داخل مستعمرة »جان يبنا« المقامة على أرض القرية. ويروي لنا الحاج محمد الطهراوي ذلك بالقول: » جاءت مجموعة من الثوار على بلدنا من قرية المسمية، وجمعوا أهل البلد في الجرن، وطلبوا منهم أن يقوموا بتكسير بيارة لليهود، وهي بيارة تزيد مساحتها عن 100 دونم، مزروعة (بالكرفوت) تقع على حدود البلد في أرض تسمى وادي العسل (حوالي 2 كيلومتر شمال البلد)، فجمع الأهالي كل ما لديهم من سلاح وأدوات فلاحة وغيرها من أجل هذه المهمة.. كان الحاج علي أبو شاويش صغيراً وقتذاك، ويستذكر تلك الحادثة بالقول: » في تلك الليلة اجتمعت النساء والأطفال، وكنت أنا وأختي سارة، في حوش داخل القرية نترقب ماذا سيحدث، فخرج الرجال في جنح الظلام، وبقينا مجتمعين في مكاننا طوال الليل، والنساء تدعي لهم بالسلامة والعودة، وكل الأطفال وأنا منهم كنا نبكي. وازدادت حدة البكاء والدعاء حين سمعنا أصوات إطلاق نار، واستمر الوضع حتى عاد رجال القرية .. وبالفعل قاموا بتكسير كل شجر البيارة.
وفي اليوم التالي جاءت قوات من الجيش الانجليزي ومعهم قوات يهودية، ودخلوا البلد، وأخذوا يفتشونها بحثاً عن الرجال، فمن وجدوه أخذوه إلى مسجد القرية، وظلوا في البلد ينتظرون لحين عودة الفلاحين من أرضهم، فمن عاد منهم وضعوه مع سابقيه، حتى فرغوا من جمع كل البلد بعد العشاء. وقاموا بسحب الشيوخ وكبار السن من ذقونهم، وانهالوا عليهم بالضرب، وطلبوا منهم العودة للبيوت، وأما من تبقى من رجال القرية، فقد قادتهم دبابة من أمامهم وأخرى من خلفهم، وساقوهم عبر طريق يقال لها »طريق النور« إلى حيث البيارة التي تكسّرت، وهناك سألوهم من الذي كسر هذه البيارة؟ فردوا لا ندري، فقالوا لهم: »لا أنتم تعلمون، هؤلاء هم الثوار.. وعلى أي حال لو دخل أي شخص غريب على البلد فأنتم مسئولين عنه«. ولو أن الأمر انتهى عند حد التوبيخ الكلامي لكان هيناً، لكن تلك الليلة كانت عصيبةً جداً على رجال القرية، فانهال عليهم الجنود بالضرب المبرح طول طريق العودة للبلد.
وهذه الحادثة يذكرها Joseph B. Glass في كتابه المعنون بـ: »من الصهيونية القديمة إلى الصهيونية الجديدة: الهجرة الأمريكية اليهودية والاستيطان في فلسطين (1917-1939) «، بالقول: عندما اندلعت الثورة العربية في 1936-1939، تم مهاجمة مزارع جان يبنا من قبل العرب، وقد دُمرت جزئياً في عام 1936. ويرصد الكاتب تأثير هذا الهجوم على حركة المهاجرين للمستعمرة، حيث دفعت تلك الاضطرابات الكثير من المهاجرين للعودة إلى أماكنهم التي جاءوا منها، وربما أقلع الكثيرين عن فكرة الإقامة في المستعمرة المذكورة. ويسوق الكاتب مثال لمستعمر يُدعى«Abraham Singer» وهو مزارع كان قد اشترى أرضاً في جان يبنا، وعندما اندلعت الثورة الفلسطينية في عام 1936 وهو في طريقه إلى فلسطين، قرر العودة إلى وطنه أوكلاهوما بالولايات المتحدة. كما أن الاضطرابات التي تلت ذلك، واستمرت بشكل متقطع حتى عام 1939، ربما ساهمت بعدول أشخاص آخرين عن فكرة الاستقرار في المستعمرة
للمزيد من التفاصيل عن هذه الحادثة يُنظر: أحمد حسن جودة، أسدود قلعة الجنوب. مرجع سابق، ص 179.
عارف عبد الرازق عبد القادر: هو من زعماء الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939م) ومن قادتها الكبار، تولى قيادة الثورة في المنطقة الوسطى من فلسطين، كما أن منطقته هي التي كانت تمد، بالسلاح والمجاهدين، منطقة الساحل بقيادة حسن سلامة، ومنطقة القدس بقيادة عبد القادر الحسيني. وقد أهلته شخصيته لتولي مهمة إصدار الأوامر المختلفة، باسم= =الثورة الفلسطينية. وقد أصدر تعليماته إلى رؤساء الفصائل لضبط سلوكهم تجاه المواطنين. وكان أحد القيادات التي نسق معها القائد فوزي القاوقجي بعد مجيئه إلى فلسطين، وامتد نشاطه ليشمل قضاء يافا والرملة واللد للمزيد من التفاصيل، يمكن الرجوع لـ: »عارف عبد الرازق«، الموسوعة الفلسطينية ؛ وويكيبيديا (الموسوعة الحرة).
احتلال القرية
جاء احتلال القرية خلال العملية العسكرية المسماة براك (البراق)، خلال الفترة 9-12 مايو 1948، والتي استهدفت قرى: بشيت، بيت دراس، البطاني، السوافير، بَرْقَة، والنبي روبين، كما طُرد خلالها أهالي قرى: عبدس، جولس، وبيت عفا وقد اشترك أهل القرية مع أهالي القرى المجاورة في مقاومة الاستيطان والغزو الصهيوني، من خلال نصب الكمائن لقوافلهم. وكذلك في المعارك التي دارت حول القرى المجاورة لهم مثل: بشيت، وبيت دراس، وأسدود وغيرها. وفي الفترة ما بين 10-13 أيار 1948 قام لواء » جفعاتي« بالهجوم على قرية بَرْقَة، لتوسيع رقعة سيطرته نحو الجنوب؛ للاتصال بالمستعمرات الجنوبية.
وخلال تلك الأيام العصيبة، دارت مجموعة من العمليات العسكرية في القرى المجاورة لقرية بَرْقَة كان لها أثر كبير على معنويات الأهالي. كان من أشهر هذه العمليات تلك التي قام بها لواء »جفعاتي« في قرية بيت دراس، حيث دمر وحرق كثير من بيوتها، وسقط خلال العملية 50 ضحية، بالإضافة لتدمير الآبار، وحرق مخازن الغلال، إلّا أن أهالي القرية والقرى المجاورة استطاعوا صد الهجوم. ثم عاودت العصابات الصهيونية (الهجاناة ، وشتيرن، والبلماخ) الهجوم على بيت دراس مرة أخرى بتاريخ 21 مايو 1948م، وطردت الأهالي بالقوة، وأطلقت النار بشكل عشوائي، وقتلت عدداً من النساء والأطفال أثناء طردهم من القرية. كما قامت عصابة »البلماخ« خلال الفترة من 12-13 مايو 1948م بالهجوم على قرية برير، ونفس الأمر مورس على قريتي: زرنوقة وجولس، وكذلك فعلت في قرية بيت عفا في 9 يوليو 1948م، حيث أقدمت على إعدام شباب القرية بعد تقييدهم.
ويروي الحاج عبد الرحمن أنه كان من ضمن المجاهدين الذين فزعوا/ شاركوا في معركة بيت دراس، ويروي أنه كان يحمل بارودة من نوع »ستن« 36 طلقة انجليزية الصنع كان قد اشتراها، ويَذكُر أن حوالي 20 شاب من شباب قرية بَرْقَة قد شاركوا في صد الهجوم. وأما الحاج علي فيقول: » كنت واعياً جداً عندما حصل هذا الهجوم، وفزعت مع من فزعوا وكان معي بارودة، ثم عاود اليهود الكرَّة مرة أخرى على القرية، ونجحوا هذه المرة في احتلالها، وقُتل عدد من المقاومين في هذه العملية. وبعد انسحاب الانجليز في 15/5/1948، بدأت العصابات الصهيونية في احتلال معسكرات الإنجليز، وأخذوا يُهجروا الأهالي من القرى«
وكان واضحاً أن هدف الصهاينة من المذابح التي اقترفوها ضد الأهالي، هو نشر الفزع والخوف بين سكان القرى المجاورة؛ لإجبارهم على النزوح. وهو ما حدث بالفعل مع سكان عدد من القرى مثل: البطاني، والقسطينة، والسوافير، وجولس، وياسور. ولا شك أن تلك المجازر، وما تناقله الناس من فظائع العصابات الصهيونية، قد أثَّر سلباً على صمود الناس في قراهم، فانتقلوا لأماكن أكثر أماناً، مثل مراكز المدن، أو القرى الكبيرة، بحثاً عن الحماية أو ما يمكن تسميته بـ »الأمن الجماعي«.
وعن السؤال: كيف ومتى خرج أهل بَرْقَة؟ يقول شهود العيان: »بعث اليهود برسالة لأهل القرية، عبر رجل من أهل البلد كان يعمل لديهم في المستعمرة، يُدعى »عبد السلام المُغربي«، وكان مضمون الرسالة واضحاً ومُختصراً، أن على أهل البلد أن يسلموا سلاحهم للهاجاناة خلال ثلاثة أيام، وإلّا فليتحملوا نتيجة ذلك. إلّا أن مخاتير القرية ووجهائها لم يُعيروا ذلك التهديد أي اهتمام. وفي ذات الليلة رأى أهالي القرية »عبد السلام المغربي« وهو يَحمل أهل بيته ومتاعه على عربة حمار ويُغادر البلد، متجهاً لقرية أسدود، الأمر الذي خلق حالة من البلبلة في وسط الأهالي، مما دفع بعضهم للخروج والمبيت في المناطق الخالية (خارج حدود القرية)، وفي النهاية استحسن الجميع فكرة إخراج النساء والأطفال من البلد، ليبيتوا في المناطق الزراعية بين قريتي بَرْقَة وأسدود، وذلك لإفساح المجال أمام المقاتلين داخل القرية
وفي الساعة الثانية من بعد ظهر اليوم التالي، جاءت الدبابات لتحيط بالقرية من الجهتين: الشمالية والشرقية، من جهة مستعمرة »جان يبنا«، ومستعمرة »تل الريح«، وفي كل جهة حوالي (10 – 12 دبابة)، بالإضافة لكتيبة من المشاة قادمة من جهة الغرب (من جهة وادي العسل)، وعندما أُحكم الطوق على البلد، بدأ المسلحين بإطلاق النار على الدبابات، فردت الدبابات بالقصف، وكان واضحاً الفرق الكبير في العدة ونوع السلاح بين الطرفين، وقاوم المقاتلون على قدر إمكانياتهم من التسليح، وبعد معركة غير متكافئة دخلت الدبابات القرية، وكانت بطبيعة الحال فارغة من السكان. وعلى أثر دخولهم للقرية فزع المسلحين من قرية أسدود وغيرها من القرى المجاورة، وأخذوا يطلقون النار، ومن لم يكن يملك سلاح لوح بسيفه أو بعصاته، مكبراً ومهللاً للجهاد. إلّا أن القوة اليهودية نجحت في الأخير في دخول القرية، وبمجرد دخولهم بدأوا سريعاً في تفتيش البيوت، ونسفوا أربعة منها، وحرقوا الجرون. وقد استمرت هذه المعركة ما بين 4-5 ساعات، ثم انسحبوا من القرية. وبمجرد انسحابهم عاد رجال القرية لها، وأخذوا يتفقدون آثار المعركة والاجتياح.
وبعد هذه المعركة عاد أهل القرية لحياتهم الاعتيادية، واستمروا في تخزين الحبوب والعودة للحياة الطبيعية، ظناً منهم أنها مجرد حادثة عابرة »عركة« ومرّت، فكانوا يعملون في النهار في فلاحة الأرض في بَرْقَة، ويذهبون للمبيت في الليل في قرية أسدود، حيث تركوا نساءهم وأطفالهم، ومنهم من كان يفضل المبيت في الأحراش المتاخمة لبَرْقَة. ويُذكر أن أحد رجال القرية ويدعى »سليمان أبو سرية«، قد استشهد أثناء محاولته العودة لبَرْقَة، نتيجة لانفجار لغم أرضي، كان الصهاينة قد نصبوه على أرض القرية لمنع أهلها من العودة إليها. وكان واضحاً أن العصابات الصهيونية قد مارست التطهير العرقي للقرية، وأرادت التخلص نهائياً من أهلها، وضمان أنهم لن يعودوا أبدأ.
ورغم ذلك فقد استمر رجال القرية يحصدون أرضهم (كان وقتها موسم حصاد القمح والشعير)، بعد مرور حوالي (15-18 يوماً) على تلك الحادثة وأثناء عملهم في القرية، سمعوا إطلاق نار شديد في قرية أسدود، وساد الاعتقاد لديهم للوهلة الأولى أن اليهود هاجموا قرية أسدود، فتجمع الفلاحون والمسلحون بالقرب من مقام »النبي برق«، وسرعان ما جاءهم الخبر عبر أحد أبناء القرية يدعى »أحمد أبو علي أبو شاويش«، الذي حمل لهم »البُشارة« بدخول الجيش المصري لقرية أسدود، وأخذ يصف لهم عدد وعدة الجيش المصري، بدباباته، وسلاحه، وأن هذا الجيش في طريقه لقرية يبنا، ومدينة يافا، وسط ذهول من المستمعين، الذين قرروا الذهاب لأسدود على عجل؛ لمشاهدة الجيش المصري.
يُذكر أن طلائع الجيش المصري كانت قد دخلت قرية أسدود، صباح يوم السبت الموافق 9 يونيو 1948م، بقيادة الأميرالاي »محمد نجيب«، وأخذ الجيش موقعه شمال محطة سكة الحديد، وشرع في إقامة استحكاماته وخطوطه القتالية. وكانت فرحة الأهالي عارمة واستقبلوا الجيش المصري بالحفاوة والترحيب. وهناك في أسدود راح الجيش المصري يلتزم خطة الدفاع، بدلاً من الهجوم، فلم يستطع أن يتقدم إلى قرية يبنا، البلد التي كان يعتزم الوصول إليها، وهو البلد القريب من اليهود
عملية باراك: هي عملية عسكرية قامت بها عصابات »الهاجاناه« الصهيونية، للسيطرة على المناطق الواقعة جنوب وغرب مدينة الرملة، وشمال قضاء غزة، وقد بدأت هذه العملية في شهر آذار/ مارس 1948م، وقام بها لواء »غفعاتي« بقيادة شمعون أفيدان، واستمرت إلى ما بعد الهدنة الأولى، وقد أسفرت عن احتلال العديد من القرى الفلسطينية وتدميرها. وهذه العملية جزء من الخطة العسكرية الموسومة بالخطة دالت » د«.
العادات والتقاليد في القرية
العلاقات الاجتماعية بين سكان القرية:
كانت القرية عبارة عن عائلة واحدة، وكان السكان يتشاطرون الأفراح والأحزان. ففي حالة وفاة أي شخص من أهل القرية، تجد كل أهل القرية يتركون أعمالهم في الفلاحة وغيرها طوال أيام العزاء. ويكون العزاء عادة لمدة ثلاثة أيام، في اليومين: الأول والثاني يقوم أهل القرية بإخراج الطعام لأهل الميت، وكل من يتجه ليؤدي واجب العزاء يأخذ معه قهوة، وفي اليوم الثالث يقوم أهل المتوفى بعمل غذاء، وكل واحد من أهل القرية القادرين يأخذ معه إما ذبيحة، أو كيس طحين، أو كيس أرز. وفي العيد الأول لرحيل الميت، يقوم أهل القرية بالتجمع في بيت الميت؛ مواساةً لأهله، وأما النساء فيأخذن طعام الإفطار لدار الميت للإفطار مع أهل بيته. وكان من أطباع أهل القرية أنه إذا توفي أحد أفراد القرية فلا يقام أي عرس إلّا بعد 40 يوماً على وفاته، وبعد انقضاء الأربعين يوم يقوم أهل الفرح باستئذان أهل المتوفى لإقامة عرسهم.
وأما في الأفراح: فكانوا يقومون بعمل واجباتهم كاملة تجاه أهل العرس: فتنصب حلقات الدبكة والسامر، التي تستمر حتى منتصف الليل، ويبدأ أهل القرية المدعوون بالحضور للسامر، ويقدمون السكر كهدية لأهل العريس، ويستمر هذا الحال لمدة أسبوع كامل. وفي ضحى يوم العرس يقوم أحد أصدقاء العريس بتغسيل العريس ويقدم له الإفطار، إما ذبيحة أو فطاير حسب المقدرة. ويأخذ العريس بزفة من البيت حتى ساحة العرس بحضور الدبيكة، والخيالة وأصدقائه. ويحضر المعازيم لساحة العرس، وكلٌ منه معه هدية، إما خروف أو كيس أرز، كل حسب مقدرته. وبعد زفة العريس وصلاة الظهر يقوم أهل العريس بإحضار طعام الغذاء، إما خرفان أو عجول حسب المقدرة .
مواسم الزواج: تبدأ بعد شهر 8 (آب/ أغسطس) عند إنتهاء موسم الحصاد، وإفراغ الجرون من القش، وفترة فراغ الفلاحين يبدأ التحضير للعرس في ساحة القرية أو في جرن العائلة.
المهر: كان المهر حوالي 50-200 ليرة فلسطينية، وأما المهر المؤجل (المؤخر) فحوالي 5-10 ليرة فلسطينية. وكان يُشترط إحضار ثوب لأم العروس، وثوب للعم والخال، وهو عبارة عن دماية. وأما إذا كانت العروس غريبة (أي من قرية أخرى) فتدفع الطلعة وكانت تسمى »وشاة الشباب«، ويأخذها الشباب ويعطوها للعروس، كأنها هدية من شباب البلدة. وعند دخول العروس بلدة العريس، كان أول بيت في القرية بعمل وليمة (ذبيحة) ويحمله لدار العريس.
وقد امتاز أهل القرية بالتعاون كأنهم عائلة واحدة، ففي شهر رمضان كان جميع رجال العائلة يتناولون طعام الإفطار في مقعد العائلة، وفي عيد الفطر كانوا يؤدون صلاة العيد في المسجد، ثم يتوجهون إلى مقبرة القرية حيث يتبادلون التهاني بالعيد، وهناك يكون بانتظارهم عائلة آخر متوفى من أهل القرية، خلال الفترة بين العيدين، ثم يتوجهون بعدها للإفطار في بيته. وأما في عيد الأضحى، فيقوم أحد الأقارب أو الأصدقاء بذبح أضحية عن عائلة أهل آخر متوفى .
وقد امتاز أهل القرية بالتسامح؛ فلم يكن بها مركز شرطة، بل كانت تتبع شرطة بيت دراس، لذلك كان الأهالي يحلون مشاكلهم بأنفسهم؛ عن طريق العرف والعادة كما وتميزت علاقتهم بأهالي القرى المجاورة بالاحترام والمودة، وقد ربطتهم صلات صداقة ونسب مع عدد من القرى المجاورة لبَرْقَة، منها: أسدود، والبطاني الغربي، والبطاني الشرقي، وياسور، ومعظم القرى المجاورة.
أهالي القرية اليوم
الهجرة من القرية إلى أسدود:
غادر من تبقى من شباب بَرْقَة قريتهم على عجل متوجهين إلى أسدود، لكنهم لم يكونوا يعلمون أن خروجهم منها هذه المرة سيكون بلا عودة. وعند وصولهم لأسدود ومشاهدتهم للجيش المصري، بدأوا بإطلاق النار في الهواء من فرط الفرحة، فبادرهم أفراد الجيش المصري بالقول: »وفروا الطلقات للعدو«، فتوقفوا عن إطلاق النار. وتصف الحاجة مريم العفيفي ترحيب الفلسطينيين بالجيش المصري، فتقول: كانت النساء تغني للجيش المصري »الجيش لمّا أجانا .. قَطَّعْ روس الهجانا«، وكنا نغني ونرقص لهم، والدنيا انقلبت لهم في أسدود
وفي الليلة الأولى لإقامتهم في قرية أسدود، قام الجيش المصري بإخراج السكان ليقوموا بحفر الاستقامات (= الخنادق)، ثم أعلن الجيش عبر مكبرات الصوت فرض حظر التجول من الساعة 7 مساءً حتى الساعة 7 صباحاً. وفي الليلة التالية مع الساعة 11 ليلاً تقريباً، هاجم اليهود الجيش المصري، الذي كان متمركزاً عند المحطة في شمال قرية أسدود، وأما الجهة الغربية والجنوبية لقرية أسدود فلم يكن بها جيش مصري، وبدأت النار في الاشتعال، من ضرب المدفعية، والأسلحة الثقيلة، وارتفعت أصوات الضباط لعساكرهم بإطلاق النار. ويبدو أن القوات الصهيونية كانت قد تمركزت في قريتي: بَرْقَة والبطاني في تلك الأيام، ومنهما بدأت تقصف قرية أسدود بمدفعية »المورتر«، ويرجح أهل القرية أن القصف الصهيوني كان من كرم حمزة الواقع بين البطاني وأسدود، حيث تمركزت القوة الصهيونية. استمر القصف العشوائي طوال النهار حتى ساعات العصر، وكان هنالك عدد كبير من الضحايا المدنيين ما بين شهداء وجرحى، لأن القصف كان عشوائياً. وكان للمقاومة دور كبير في تلك المعركة وغيرها من المعارك، فقد تجمع في قرية أسدود أهالي عدد من القرى (الذين هجروا قراهم بعد دخول الصهاينة إليها وطردوهم منها)، ومنها قرى: يبنا، بشيت، زرنوقة، بَرْقَة، وضمت أسدود في تلك الأيام آلاف الناس، كان من بينهم مئات المسلحين، الذين تمركزوا في وسط البلد وعلى أطرافها.
ويُذكر أنه في إحدى طلعات الطيران الصهيوني على أسدود، أسقطت مضادات الجيش المصري، التي كانت تتمركز على ظهرة الراس، ثلاث طائرات، ففزع أبناء القرية على أحد الطائرات التي سقطت على حدود البلد (بين بَرْقَة وأسدود)، وكان اثنين من بينهم من أهالي قرية بَرْقَة هم: حسين أحمد العمودي (حسين أمونة)، ومحمد علي السردي. ومازال الحاج محمد يذكر تلك الحادثة بالقول: » عندما سقطت الطائرة هرعنا لها، فوجدنا جثث يهود قتلى، وغنموا من تلك الطائرة مدفعاً رشاشاً ومسدساً، وعند عودنا لأسدود قام الجيش المصري بمصادرة تلك الأسلحة، ووضعوني تحت الإقامة الجبرية، وأمضيت طول فترة وجود الجيش المصري في أسدود وأنا أسجل حضور، في مقر قيادة الجيش في مدينة المجدل«.
ومع بزوغ صباح اليوم التالي، بدا وكأن الهجمة اليهودية قد انكسرت أمام هذه المقاومة الباسلة. فاستدارت مجموعة من قوات المشاة الصهيونية على أسدود من الجهة الغربية، حيث تواجد المسلحون من أبناء البلد والبلدان المجاورة، فتصدوا لهم بأسلحتهم الخفيفة، وطاردوا الجنود الصهاينة في كثبان الرمل، وهناك قصص عجيبة من قبل المناضلين الذين حضروا تلك المعركة وشاهدوها.
وعن هذه المعركة يقول الحاج خليل أبو شاويش: »كان البيت الذي نزلنا فيه في غرب أسدود لشخص من عائلة »أبو محيسن«، وتحده مقبرة أسدود ومدرستها من الجهة الغربية، وإذ بمجموعة مسلحين من اليهود يطلقون النار من سلاح رشاش على قرية أسدود، فقام الأهالي بتفزيع أهل القرية والمسلحين«. ويَذكر أن من بين مَن فزعوا كان الحاج/ خالد أبو شاويش من قرية بَرْقَة، وشخص آخر من قرية البطاني الغربي يُدعى »محمد أبو غنيم«، وثالث من قرية أسدود »محمد عبد الله أبو محيسن« وآخرون، وكانت النتيجة مقتل عدد من الجنود اليهود، فيما هرب الباقون. ثم هجم باقي المسلحين مع جموع كبيرة من الأهالي، واتجهوا غرباً لمطاردة اليهود، وقرروا على الفور الهجوم على مستعمرة »نيتسانيم« الواقعة بين قريتي: أسدود وحمامة، وفي الطريق حدثت اشتباكات مع مجموعة من المشاة، كان نتيجتها استشهاد »محمد أبو غنيم«، وإصابة »خالد أبو شاويش« وعدد من الفلسطينيين، فيما قتل عدد من اليهود.
الهجرة من أسدود إلى غزة:
فيما احتل اليهود معظم القرى الواقعة شمال غزة، كالسوافير، والقسطينية، وتل الترمس، وياسور، وجولس، والمسميتين الكبيرة والصغيرة، وبَرْقَة، ووقفوا على حدود قرية أسدود، حط المصريون رحالهم عند وادي »أبي سويرح«، وهذا هو أقصى حد وصلوا إليه؛ وهو الحد المفروض بين العرب واليهود حسب قرار التقسيم ووفقاً للخرائط فإن جزءاً كبيراً من أراضي قرية بَرْقَة، كانت واقعة ضمن حدود الدولة اليهودية من قرار التقسيم. وفي 28 أغسطس 1948م قام لواء »جفعاتي« بالهجوم على مثلث قرى (يبنا – بني روبين – عرب سُكرير) القريبة من بَرْقَة والمحيطة بها، وقام بنسف البيوت وحرق الأكشاك، وقتل 10 من العرب وجرح 3 وأسر 3، ومقتل 20 جمل وبقرة
ويُذكر أن الناس لاحظوا خلال الأسبوع الأخير من شهر أكتوبر 1948، تحركات غير عادية للقوات المصرية في أسدود، وحين استفسروا من الجنود ومن الحاكم الإداري الصاغ »أنور إبراهيم« عن طبيعة تلك التحركات، كان الرد أنها تبديل للقوات فقط. واستمرت تلك العملية حوالي أسبوع، وبعدها أخبر الحاكم الإداري بعض الأهالي أنه » بإمكانكم الرحيل إذا أردتم«، حيث إن القوات المصرية قررت الانسحاب نهائياً من أسدود، وكان ذلك في 28/10/1948م
وعن ذلك يروي لنا شهود العيان: بأنه في تلك الفترة كان هنالك ضابط سوداني يُدعى »حسين«، اعتاد التردد على المقعد عند مخاتير البلد، وقد أبلغه أن هنالك أوامر عسكرية للقوات بالاستعداد للرحيل عندما تأتي الأوامر، لذلك أنصحكم بأن تنتبهوا لأنفسكم. وأضاف الضابط قائلاً: وطالما أن المدفعية الثقيلة موجودة فمعناها الأمور مطمئنة (كانت المدفعية وقتذاك موجودة عند المحطة في شمال قرية أسدود)، أما إذا انسحبت فمعناها أن الأمر قد انتهى، حسب كلام الضابط.
وبعد عدة أيام نادت مكبرات الصوت بإعلان منع التجول حتى إشعار آخر، وليس كما كان مُعتاد حسب النظام السابق (من الساعة 7 مساءً حتى 7 صباحاً)، وأخذ الجيش بعد المغرب بالانسحاب من أسدود ومعه المدفعية الثقيلة، واستمرت عملية الانسحاب حتى عصر اليوم التالي. ثم بدأ سلاح الحدود السوداني يدخل البلد (أسدود)، ويطرقوا أبواب البيوت، ويصرخوا في الناس: » ارحلوا .. ارحلوا .. كي لا تأخذ اليهود نساءكم«، فسادت حالة من الهلع داخل البلد، وسط صراخ وعويل النساء والأطفال. وعلى أثر ذلك تداعى مجموعة من مخاتير القرى وكبارها وشيوخها (ممن لجأوا لقرية أسدود) لتدارس الأمر، وكان رأيهم أن يمنعوا الأهالي من الرحيل وراء الجيش المصري. لكن للأسف، مَنْ كان يستطيع وقتها منع الأهالي؟ الذين أصابتهم حالة هستيرية، وهاموا على وجوههم على أثر انسحاب الجيش المصري، وتفوهات الجنود السودانيين، فمن كان لديه أحداً من كبار السن تركه وغادر، بحثاً عن فرصة للنجاة من الطوفان القادم. وعبثاً حاول حكماء القرية مع الناس، الذين كان بعضهم قد وصل إلى قرية حمامة، ومدينة المجدل. كان الأهالي يسيرون بمحاذاة الجيش المصري، كي يتحاموا به، فيما كان الجيش يزجرهم ويدفعهم للابتعاد عن الطريق الرئيسي، ليفسحوا المجال أمام الدبابات وناقلات الجند، ويوجهوهم غرباً قريب من ساحل البح.
ويروي الحاج علي أبو شاويش: » أنهم باتوا ليلتهم في قرية حمامة، ثم اتجهوا إلى الجنوب مروراً بمدينة المجدل، وقرية الخصاص، ونعليا، ثم قرية هربيا حيث أقاموا فيها ثلاثة أيام. وهناك جاء الجيش المصري وعسكر في هربيا، وبدأ بالاتجاه غرباً نحو البحر، ولم يكونوا قادرين على السير مع الطريق الرئيسي، لأن هنالك مستعمرة لليهود تُسمى » كبانية العلمي« على طريق هربيا، وساروا نحو غزة في الطريق التي مهدها الجيش، فوصلوا إلى منطقة كانت عبارة عن أحراش في مدينة غزة، حيث يقام حالياً مستشفى النصر (في حي النصر). ويروي بعض الشهود أنهم أخذوا عربة وعادوا من نفس الطريق، لكي يُحضر من تبقى من الأهل وباقي متاعهم. وفي طريقهم وجدوا عدد كبير من دبابات الجيش المصري مغروسة في رمال الشاطئ ولا تستطيع السير، وكلما مروا بواحدة يبادرهم الجنود بطلب المساعدة في رفع الدبابات. وبعدها تشتتوا في مناطق عدة من قطاع غزة.
كانت رحلة الأربعين كيلو متر إلى غزة ثقيلة، وكانت خطاهم بطيئة مُتلكئة، بانتظار أخبارٍ سارة تُعيدهم إلى قريتهم من جديد. لم يسمعوا حينها ما كانوا يتمنون، ولم يعودوا بعدها إليها إلّا في خيالهم، وحواديثهم المسائية التي تندروا فيها حول »فردوسهم المفقود«، الذي غادروه مرة وإلى الأبد. وحول كانون النار وسط البرد، حيث نصبوا خيامهم وهمومهم، أخذت الحاجة مريم تغني بما يشبه النواح والعويل: » الله أكبر لما هَجينا.. سوافي الرمل أعمن عينينا.. نطلع لرب السما ونلطم.. ليش خليتو اليهود علينا تحكم.. نطلع لرب السما ونوِّح.. خلونا ع بلادنا نروح.. جينا ع مصر تما تحمينا.. الملك فاروق فرط فينا.. يا رب السما إنك تحمينا«.
ومن هنا حيث مخيمات اللجوء والشتات، بدأوا رحلة جديدة من المعاناة الأبدية، لم تكن يوماً تخطر على أي بال، ولتستمر فصولها من سيئٍ إلى أسوأ. إلّا أنهم استمروا في رحلة الكفاح من أجل البقاء، ليبدأوا بعدها رحلة البحث عن: لقمة عيشٍ، وهويّة. وتظل قرية »بَرْقَة« في الذاكرة أمانةً تتوارث الأجيال؛ لأن القصة لم تنتهي بعد.
الباحث والمراجع
المراجع
اعتمد توثيق قرية بَرقة على دراسة نفيسة وقيّمة لابن القرية الدكتور كمال أبو شواويش مشكورا على هذا العمل المميز، كما تم إضافة الدراسمة لمكتبة الموسوعة الرقمية