التاريخ النضالي والفدائيون - بَرْقَة - قضاء غزة

الحياة النضالية لقرية بَرْقَة: 

أولاً: دور أهل القرية في الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939):

نقلاً عن الحاج خليل أبو شاويش قوله بأنه خلال الفترة الأولى لثورة 1936م، » جاءت مجموعة من الثوار إلى القرية يبحثون عن شخص يدعى »عبد السلام المغربي«، وهو عامل فلسطيني من أهالي القرية كان يعمل في المستعمرة لدى اليهود، فجاءه الثوار وقت الضحى، حين يكون معظم رجال القرية – عادة - في الحقول خارج البلد، وطلبوا منه دفع 10 ليرات كتبرع للثورة. وبعد شهر أو شهرين من تلك الحادثة، عادوا مرة أخرى يطلبون 50 ليرة هذه المرة، فكان رده أنه لا يحتكم على هذا المبلغ، فأخذوه معهم إلى خارج البلد، وقد كان هذا الرجل وحيداً (ليس له أخوة أو أقارب)، وعندما سألهم إلى أين؟ أجابوه على القيادة في قرية »المسمية«. فجاءت نساء بيته يستنجدن بوالدي [أحمد أحمد أبو شاويش]، وأخبروه بالقصة، فما كان منه إلّا أن ركب الفرس ولحق بهم إلى حيث أشارت النسوة، وعندما أدركهم وجدهم ثلاثة شباب، فبادرهم بالسؤال عما جرى، فقالوا له بلغة آمرة: هذا ليس شأنك، فتوسل إليهم أن يتركوا الرجل، لكن دون جدوى. فما كان منه إلّا أن ترجل عن الفرس وسبقهم بعدة خطوات، مقسماً ومهدداً بإطلاق النار عليهم إن لم يتركوا الرجل، وأطلق سيل من المسبات عليهم وعلى القائد الذي أرسلهم، وأنهم وقيادتكم لا تجرؤون على المبيت في البلد ليلة واحدة .. فما كان منهم إلّا أن تركوه يأخذ الرجل ويعود به للقرية« . وهذه الحادثة – وفقاً لذاكرة الحاج خليل- كانت في السنة التي قام فيها الثوار بتخليع (= قلع وتخريب) سكة الحديد؛ وهي السنة التي شارك فيها المجاهدين من القرى المجاورة لبَرْقَة، في عمل جماعي مُنظم استهدف خلع قضبان سكة الحديد، وكان ذلك في نهاية بداية ثورة 1936؛ بهدف تعطيل طرق المواصلات التي كان يستعملها الانجليز لملاحقة الثوار ومطاردتهم، وفيها تمكّن الثوار من إتمام مهمتهم في ليلة واحدة، ابتداءً من محطة المجدل مروراً بأسدود وحتى محطة يبنا.

يبدو أن هذه القصة البسيطة كانت هي المدخل لوضع قرية بَرْقَة على خارطة ثورة 1936م، فهذا الحدث كان له ما بعده، كما يروي لنا الحاج علي » يبدو أن تلك المجموعة من الثوار كانت قد أبلغت أحد قيادات الثورة، التي كانت موجودة في منطقة طولكرم .. كان اسمه عارف عبد الرازق«. وبعد حوالي شهر من تلك الحادثة، جاءت مجموعة من الثوار للقرية، وطلبت من أهلها أن يخرجوا لتكسير بيارة تعود ملكيتها لـ »عبد الرؤوف البيطار«، وذلك بأمر من قيادة الثورة، فعارض أحمد أحمد أبو شاويش الملقب بـ »الباشا« ذلك، وطلب منهم أن يبلغوا قيادتهم بذلك، لأن بيارة البيطار مجاورة لأرضه، وكان »البيطار« قد استأمنهم عليها في غيابه، وأنه مسئول عنها، وهدد بأنه سيحميها بروحه في حال حاول أي أحد الاعتداء عليها. وبالفعل أبلغوا قيادتهم بما بَدرَ من »الباشا«، فأرسلوا له تبليغ بالحضور للقيادة، وكذلك أرسلوا تبليغ لناطور البيارة الخاصة بالبيطار ويُدعى »الشيخ أحمد نجيب«، وهو من قرية بيت دجن.

ويضيف الحاج خليل بالقول: عند وصولهما لمقر القيادة في طولكرم، وكانت في عمارة على رأس الجبل خارج المدينة، وعلى طول الطريق للمقر كانت مجموعات من المسلحين على جانبي الطريق، قاموا بتفتيشهما أكثر من مرة. وعند باب المقر بادر أحد الحراس بمحاولة تفتيشهما للمرة الثالثة أو الرابعة، فما كان من »الباشا« إلّا أن زجره بلهجة متوترة » قاموا بتفتيشنا أكثر من مرة«، فطل رجل من شباك العمارة آمراً بالسماح لهم بالدخول. ويصف الحاج على ما دار في تلك المقابلة بالقول:  »كانوا اثنين: القائد، ومساعد له. وبعد أن سألوا عن أسمائهم بادر القائد معاتباً »الباشا« بالقول:  »لماذا تضع نفسك في مواجهة الثورة؟ وتضع نفسك في صف المعارضة للثورة؟ وما هي علاقتك بالبيطار؟«، فرد الباشا عليه بالقول: »علاقتي بالبيطار هي علاقة جيره، فالبيطار أوصاني على البيارة واستأمنني عليها، وأنا رجل فلاح ولا أتدخل في السياسة، والأمر يتلخص في حق الجيرة لا أكثر ولا أقل«. فرد عليه القائد: »أنت في المرة الأولى قمت بطرد الناس من القرية عندما جاءوا للمغربي، وقلت لهم أنتم وقيادتكم لا تجرؤون على المبيت في البلد ليلة واحدة .. صحيح؟«، فرد: » صحيح، وأنا جاهز لأثبت لك ذلك، وأن أهل البلد من سن الـ 15 لسن الـ 80 لا ينامون طوال الليل، يتناوبون كل ليلة الحراسة على القرية«، واسترسل بالقول: » ثم أنهم جاءوا لهذا الرجل الغلبان، فلماذا لم يأتوا لي أو لأي رجل مُقتدر على الدفع؟ أنهم استضعفوا الرجل فمن أين يأتي لهم بالنقود التي طلبوها؟ فربما يحسبونه جاسوس لليهود، وهذا كلام غير صحيح، فهو مجرد عامل يسترزق قوته من العمل في المستعمرة«، وأما بالنسبة لبيارة البيطار التي كانوا ينووا تكسيرها، فسأل »الباشا« القيادة عن جدوى تخريبها؟ وهل المصلحة العامة تقتضي الاستفادة منها أم اتلافها؟ أوليس القيادة بحاجة للدعم المالي؟ وفاجأ »الباشا« قيادة الثورة بالاقتراح: » هذه البيارة أكثر من 100 دونم، وتخريبها خسارة كبيرة، لكن أقترح عليكم أن تستمر البيارة كما هي، ولندع البيطار يحرث الأرض ويسمدها ويسقي الشجر، وفي أيام جني الثمر يمكن السيطرة على البيارة وتضمينها لمتعهد »ملتزم« والاستفادة من عائداتها لصالح الثورة، بدلاً من تخريبها«. فسأله القائد بلهفة: » وهل تضمن هذا الكلام؟«، فأجابه الباشا:  »نعم، وإذا جاء البيطار لاعتراض العمال حينها أنا مَنْ سيقف له، وأحمي العمال«. ولم يَفُت »الباشا« الشكوى للقائد من سوء معاملة أهالي البلد، والبلاد المجاورة، من قِبل بعض المتطوعين في الثورة، وسأله إن كان يوافق على إهانة الناس؟ فرد عليه القائد بالنفي، وأن أحداً من الثوار لن يصل القرية بعد الآن. 

ويبدو أن هذه المقابلة، واللغة التي تحدث بها »الباشا« وجدت استحسان لدى القائد، واقترح على »الباشا« أن يكلفه رئيس فصيل في الثورة ومسئول عن القرية، وأعطاه خطاب بهذا الأمر، وسأله إذا كان يستطيع أن يحمل الخطاب معه، أم يرسله له إلى البلد؟، فأجابه »الباشا« ولِمَ لا أستطيع؟ فأجابه القائد خوفاً من أن يمسكه الانجليز معك في الطريق للبلد، فرد عليه »الباشا«: » وهل من سيحمل الخطاب أرجل مني؟«. وعاد للبلد مسئولاً، على أن يلتزم بما تعهد به. وبالفعل التزم الباشا بما قد وعد، واستفادت الثورة من ثمار بيارة البيطار لمدة سنتين متتاليتين، حتى انتهت الثورة. 

ومن ضمن الفعاليات الوطنية التي ساهم بها أهل القرية أثناء أحداث الثورة، تكسير بيارة لليهود داخل مستعمرة »جان يبنا« المقامة على أرض القرية. ويروي لنا الحاج محمد الطهراوي ذلك بالقول: » جاءت مجموعة من الثوار على بلدنا من قرية المسمية، وجمعوا أهل البلد في الجرن، وطلبوا منهم أن يقوموا بتكسير بيارة لليهود، وهي بيارة تزيد مساحتها عن 100 دونم، مزروعة (بالكرفوت) تقع على حدود البلد في أرض تسمى وادي العسل (حوالي 2 كيلومتر شمال البلد)، فجمع الأهالي كل ما لديهم من سلاح وأدوات فلاحة وغيرها من أجل هذه المهمة.. كان الحاج علي أبو شاويش صغيراً وقتذاك، ويستذكر تلك الحادثة بالقول: » في تلك الليلة اجتمعت النساء والأطفال، وكنت أنا وأختي سارة، في حوش داخل القرية نترقب ماذا سيحدث، فخرج الرجال في جنح الظلام، وبقينا مجتمعين في مكاننا طوال الليل، والنساء تدعي لهم بالسلامة والعودة، وكل الأطفال وأنا منهم كنا نبكي. وازدادت حدة البكاء والدعاء حين سمعنا أصوات إطلاق نار، واستمر الوضع حتى عاد رجال القرية .. وبالفعل قاموا بتكسير كل شجر البيارة.

وفي اليوم التالي جاءت قوات من الجيش الانجليزي ومعهم قوات يهودية، ودخلوا البلد، وأخذوا يفتشونها بحثاً عن الرجال، فمن وجدوه أخذوه إلى مسجد القرية، وظلوا في البلد ينتظرون لحين عودة الفلاحين من أرضهم، فمن عاد منهم وضعوه مع سابقيه، حتى فرغوا من جمع كل البلد بعد العشاء. وقاموا بسحب الشيوخ وكبار السن من ذقونهم، وانهالوا عليهم بالضرب، وطلبوا منهم العودة للبيوت، وأما من تبقى من رجال القرية، فقد قادتهم دبابة من أمامهم وأخرى من خلفهم، وساقوهم عبر طريق يقال لها »طريق النور« إلى حيث البيارة التي تكسّرت، وهناك سألوهم من الذي كسر هذه البيارة؟ فردوا لا ندري، فقالوا لهم: »لا أنتم تعلمون، هؤلاء هم الثوار.. وعلى أي حال لو دخل أي شخص غريب على البلد فأنتم مسئولين عنه«. ولو أن الأمر انتهى عند حد التوبيخ الكلامي لكان هيناً، لكن تلك الليلة كانت عصيبةً جداً على رجال القرية، فانهال عليهم الجنود بالضرب المبرح طول طريق العودة للبلد. 

وهذه الحادثة يذكرها Joseph B. Glass في كتابه المعنون بـ:  »من الصهيونية القديمة إلى الصهيونية الجديدة: الهجرة الأمريكية اليهودية والاستيطان في فلسطين (1917-1939) «، بالقول: عندما اندلعت الثورة العربية في 1936-1939، تم مهاجمة مزارع جان يبنا من قبل العرب، وقد دُمرت جزئياً في عام 1936. ويرصد الكاتب تأثير هذا الهجوم على حركة المهاجرين للمستعمرة، حيث دفعت تلك الاضطرابات الكثير من المهاجرين للعودة إلى أماكنهم التي جاءوا منها، وربما أقلع الكثيرين عن فكرة الإقامة في المستعمرة المذكورة. ويسوق الكاتب مثال لمستعمر يُدعى«Abraham Singer»  وهو مزارع كان قد اشترى أرضاً في جان يبنا، وعندما اندلعت الثورة الفلسطينية في عام 1936 وهو في طريقه إلى فلسطين، قرر العودة إلى وطنه أوكلاهوما بالولايات المتحدة. كما أن الاضطرابات التي تلت ذلك، واستمرت بشكل متقطع حتى عام 1939، ربما ساهمت بعدول أشخاص آخرين عن فكرة الاستقرار في المستعمرة

 للمزيد من التفاصيل عن هذه الحادثة يُنظر: أحمد حسن جودة، أسدود قلعة الجنوب. مرجع سابق، ص 179.  

عارف عبد الرازق عبد القادر: هو من زعماء الثورة الفلسطينية الكبرى (1936-1939م) ومن قادتها الكبار، تولى قيادة الثورة في المنطقة الوسطى من فلسطين، كما أن منطقته هي التي كانت تمد، بالسلاح والمجاهدين، منطقة الساحل بقيادة حسن سلامة، ومنطقة القدس بقيادة عبد القادر الحسيني. وقد أهلته شخصيته لتولي مهمة إصدار الأوامر المختلفة، باسم= =الثورة الفلسطينية. وقد أصدر تعليماته إلى رؤساء الفصائل لضبط سلوكهم تجاه المواطنين. وكان أحد القيادات التي نسق معها القائد فوزي القاوقجي بعد مجيئه إلى فلسطين، وامتد نشاطه ليشمل  قضاء يافا والرملة واللد للمزيد من التفاصيل، يمكن الرجوع لـ: »عارف عبد الرازق«، الموسوعة الفلسطينية ؛ وويكيبيديا (الموسوعة الحرة).