الاستيطان في القرية - بَرْقَة - قضاء غزة


عن إنشاء المستعمرات على أراضي القرية، فيروي الشهود: » بدأنا نلاحظ بعض الأكشاش والتخاشيب بين الواحدة والأخرى حوالي (100 – 200) متر داخل الأرض، التي كانت بالأصل أراضي غير زراعية (كانت متروكة). ثم أصبحت بعد فترة مستعمرات واسعة، ومزروعة بالحمضيات، ولم يستطع الرواة تحديد في أي سنة بالضبط أنشأت تلك المستعمرة. وهو ما يبدو مفهوماً ومبرراً، لأن عملية شراء الأرض وانتقال ملكيتها، وتجهيزها لتصبح صالحة للزراعة والسكن قد مرت بمراحل، بما يعنى صعوبة تحديد تاريخ واضح لنشأتها. 

وواقع الحال، أن مستعمرتين كبيرتين قد أقيمتا على أراضي القرية، وهما: مستعمرة »جان يبنا« ومساحتها (4,568 دونم)، وعدد سكانها 476 نسمة. وقد اختلفت الكتب والمراجع حول سنة التأسيس؛ ففي حين أرخ عارف العارف لتأسيسها في عام 1933م، ذكرت الموسوعة الفلسطينية أن بداية التأسيس كان في عام 1931م. وأما المستعمرة الثانية فهي  »بتسارون«، وقد تأسست سنة 1933م، ومساحتها (1,130 دونم)، وعدد سكانها 211 

الخلاصة:  خلص الباحث د. كمال أبو شاويش في دراسته النفسية: قرية بَرْقَة المُهجّرة: دراسة تاريخية اجتماعية سياسية

ثمّة ملاحظتان على المعلومات الوردة في الكتب والمراجع المختلفة، حول المستعمرتين المقامتين على قرية بَرْقَة، وكذلك مساحة أراضي القرية، يمكن تلخيصها في التالي: 

الملاحظة الأولى: حول موقع المستعمرتين:

استعرض المؤرخ عارف العارف أسماء المستعمرات اليهودية المقامة في قضاء غزة، في موسوعته (النكبة)، وجاء على ذكر مستعمرة »جان يبنا«، ولكنه لم يُسمِ القرية التي أُقيمت عليها تلك المستعمرة (كما فعل في كل المستعمرات الأخرى)، ولم يفسر في كتابه تلك الملاحظة. وهنا لنا أن نتساءل: لماذا لم يَرِد اسم القرية التي أقيمت على أرضها مستعمرة »جان يبنا«؟ فبالتأكيد أنها لا تقع في الفراغ!. وحول المستعمرة الثانية »بيتسارون«، فقد ذكر في نفس الصفحة أنها مُقامة على أرض قرية السوافير، وهذا خطأ، ذلك أن تلك المستعمرتين متلاصقتين (وهذا ما يوضحه مصطفى الدباغ في موسوعته). وأما قرية السوافير فهي تقع إلى جنوب قرية بَرْقَة، ولم يحدد على أي سوافير بالضبط (فهنالك ثلاث قرى سوافير: السوافير الشمالية، والسوافير الغربية، والسوافير الشرقية وكلها متلاصقة)، ولو افترضنا أنه يقصد السوافير الأقرب لقرية بَرْقَة (السوافير الشمالية) فهي تفصل بينها وبين بَرْقَة قريتين هما: البطاني الغربي، وبيت دراس، ثم السوافير الشمالية. فكيف تكون تلك المستعمرة إذن مُقامة على أرض قرية السوافير؟! 

وأما مصطفى الصباغ فإنه من جانبه يُصحح بعض الأخطاء، ولكنه يقع في أخطاء أخرى؛ فيذكر في موسوعته (بلادنا فلسطين – الجزء الثاني)، عن موقع بَرْقَة قائلاً:  »وتجاورها من الشمال مستعمرتا غن يفنيه وبيتسارون«. وهو بذلك يؤكد أن المستعمرتين متلاصقتين، لكنه لم يذكر أن تلك المستعمرات مُقامة على أراضي قرية بَرْقَة هذا من جهة، ومن جهة ثانية لم يوضح ما المقصود بكلمة  »تجاورها« ! ففي حين يقول:  »وتحيط بأراضي القرية أراضي ياسور والبطاني الغربي وأسدود«، يقول بالمقابل: » وتجاورها من الشمال مستعمرتا..« وهنا يتمثل الخلل؛ فبينما استخدم مصطلح  »تحيط « مع القرى الفلسطينية، استخدم بالمقابل مصطلح  »تجاورها«، وكان الأصل أن يعكس المصطلحين؛ ذلك أن مفهوم  »المُجاورة« يُعطي انطباع خدّاع للقارئ، بأن وجود هاتين المستعمرتين هو أمرٌ عادي ومستساغ، وثمة حالة من الجوار الطبيعي والوئام بين المستعمرتين والقرى المجاورة، وكأن مجاورتهما لقرية بَرْقَة تعطي نفس الدلالة لمجاورة قرية أسدود أو البطاني لقرية بَرْقَة!. 

وأكثر من ذلك، والغريب في الأمر أن الدباغ في مرجعه المذكور (في صفحة 190)، يُرفق خارطة تشمل البلدان الشمالية لقضاء غزة، موضحاً فيها حدود كل قرية، ويضع فيها »جان يبنا« إلى الشمال من قرية بَرْقَة، وتعزلها عن قريتي: بشيت، ويبنا (أنظر الملحق رقم (1)). وكأن تلك المستعمرة هي واحدة من القرى العربية الفلسطينية التابعة لقضاء غزة !. والحالة هذه، فإن السؤال المُثار: لأي قرية إذن كانت تتبع تلك الأراضي قبل إنشاء المستعمرة عليها (عام 1931)؟

وبمراجعة الموسوعة الفلسطينية نجدها تصحح هذا الخطأ وتحسم الأمر، وتؤكد أن المستعمرة تقع على أراضي قرية بَرْقَة، وهذا يؤكد ما يسعى الباحث لتأكيده. لكنها (أي الموسوعة) بالمقابل تقع في خطأ من نوع آخر، وهو سنة إنشاء المستعمرة، فتذكر:  »في عام 1948 شرد الصهاينة سكان بَرْقَة، ودمروا القرية، وأقاموا مستعمرة جان يفنه على أراضيها«، بما يوحي للقارئ بأن تلك المستعمرة قد أنشئت بعد عام 1948م، وهذا أيضاً مُخالف للحقائق. 

وأما الدكتور سلمان أبو سته في موسوعته (أطلس فلسطين)، فيؤكد هذا القول. ففي الصفحة (429) من الأطلس، نجد أن مستعمرة  »بتسارون« تقع ضمن حدود قرية بَرْقَة، وهي مقامة على قطعة أرض تُعرف لدى أهل القرية بـ  »شعفة الحجر«، وتمتد حتى نهاية وادي الخب، على حدود قرية بشيت. وبالعودة كذلك للخارطة المُحددة في صفحة (110) من كتاب أبو ستة (طريق العودة: دليل المدن والقرى المهجرة)، يتبين لنا بوضوح موقع هذه المستعمرة ضمن أراضي قرية بَرْقَة، وحدودها مع القرى المجاورة. 

وبالعودة لصور الأقمار الصناعية عبر جوجل آرث (Google Earth)، لتحديد موقع المستعمرتين على الخارطة، وجدنا المستعمرتين متلاصقتين تماماً، ولا تزيد المسافة بين مركزي المستعمرتين في أحسن تقدير عن (2-3 كم) 

هذا الجدل هو ما دفع الباحث وحفزه للبحث والتنبيش في المراجع الأجنبية. فوجد أن مستعمرة  »جان يبنا أو غان يفنه גַּן יַבְנֶהGan Yavneh « قد تأسست عام 1931م، من قبل عدد من العائلات اليهودية التي هاجرت من روسيا وبولندا إلى الولايات المتحدة، وقد كان مصدر إلهام لاسمها »جان يفنه« بسبب قربها من قرية يبنا التاريخي وفي عام 1930 بدأت المفاوضات للاستحواذ على الأرض من كفر  »برقه«، الواقعة بالقرب من قرية يبنا، وهي تتمتع بظروف مناخية مناسبة لتطوير مزارع الحمضيات. فاشترى اليهود قطعة أرض بمساحة 4,600 دونم، بسعر 4 جنيهات إسترليني للدونم الواحد (كان متوسط سعر الدونم الواحد في منطقة رعنانا عام 1929 قد وصل إلى 6.67 جنيه). وقد تم إتمام إجراءات نقل ملكية الأرض في عام 1931، وبلغت التكلفة الإجمالية - بما فيها المصاريف والضرائب، والسمسرة – 19,569 جنيه إسترليني. عانت هذه المستعمرة في البداية من كونها معزولة، ومُحاطة بست قرى عربية، ولاستمرار تطور هذه المستعمرة كان لا بد من شق الطريق، للتواصل مع التجمعات اليهودية الأخرى، وخلال الفترة 1936- 1938 بدأت المفاوضات مع حكومة الانتداب ثم مهدت الطريق لجان يبنا. وفي عام 1948 بلغ التعداد السكاني للمستعمرة 302 نسمة.. وأما المستعمرة الثانية فهي »بتسارون בִּצָּרוֹן  Bitsaron« وتعني الحصن، فقد أنشئت عام 1935م على أراضي الصندوق القومي اليهودي، بمساعدة  »كيرين هايسود«، وتفيد مصادر عبرية أخرى بأنها تأسست عام 1939م. وأخذت »بيتسارون« اسمها من كتاب زكريا 9:12  »العودة إلى المعقل الخاص بك، فإنك السجناء من الأمل«. وخلال الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948، كانت »بيتسارون« على الخطوط الأمامية في المعارك ضد الجيش المصري، وتم قصف من قبل سلاح الجو المصري.

وقد تعمد الباحث الإطالة في تفنيد هذا الموضوع، لكي يُثَبِّت حقيقتين: فأما الأولى هي تلك المتعلقة بالمواقع الجغرافي للمستعمرتين، وأن تبعية الأرض المُقامة عليها المستعمرتين تعود بالأصل لقرية بَرْقَة، وأما الحقيقة الثانية فهي توكيد رواية تسرب أراضي القرية وبيعها للمستوطنين اليهود، من قبل سماسرة الأراضي من رجال الإقطاع الزراعي؛ فقد شهد شاهد من أهلها. وهنا تلاحظ أن سعر دونم الأرض الوارد في الرواية الشفوية، تطابق مع السعر الذي اشترت به المؤسسات اليهودية (4 جنيهات إسترليني للدونم)، وهذا ما يعزز مصداقية الرواية الشفوية الفلسطينية.

والمؤكد أن هاتين المستعمرتين أنشئتا على أنقاض أرض تابعة لقريةٍ ما، ولما كانت أراضي المستعمرة تقع في الجزء الشمال الشرقي من قرية بَرْقَة، وتحيط بها أراضي القرية من ثلاث جهات، فإن الأمر الطبيعي والمنطقي، في مثل هذه حالة، أن تكون المستعمرة مُقامة على أراضي قرية بَرْقَة، وهو ما تذكره بعض الكتب والمراجع.. هذا فضلاً عن كل الشهادات التاريخية لأهالي بَرْقَة، والتي تؤكد أن أراضي المستعمرتين كانتا تتبعان للقرية، قبل أن يبيعها أبناء »أبو خضرة« لليهود، كما أوضحنا سابقاً. وهذا ما يؤكده محمود حسين في كتابه بالقول:  »ونذكرأن أراضي مستوطنتي غان يبنه وبيتسارون من أراضي أبو خضرة« . وأخيراً، فإن الوثائق التي ألحقناها في نهاية هذه الدراسة، تحسم هذه المسألة بشكلٍ قاطع لا لبس فيه.