أعلام من القرية - شعب - قضاء عكا

شخصيات من شَعَب

كثيرة هي الشخصيات التي تستحق أن تُذكر في هذا الفصل، وهو أحد أكثر الفصول إحراجاً، خاصة أمام كبار البلد ممن كان لهم دور مهم في معارك الدفاع عنها أو فيما بعد النكبة. 

إلا أننا وضعنا في الاعتبار شرطين أساسيين كمعيار لاختيار الشخصيات: الأول، ينطلق من منهج الكتاب الذي حددنا فترته الزمنية حتى العام 1948، ما يعني أنه سيتناول فقط أولئك الذين كان لهم دور حتى تلك الفترة، أو أولئك الذين بدأ تَشكُّل شخصياتهم قبل العام 1948، كالشاعر يوسف حسون الذي لفت الانتباه إلى نبوغه وإبداعه قبل النكبة. أما المعيار الثاني، فهو أننا لن نكتب عن الأشخاص الذين ما زالوا على قيد الحياة حتى تاريخ تحرير هذا الكتاب.

وهذا مما حرمنا من الكتابة عن أناس أبدعوا فيما بعد النكبة، وكان لهم كبير قدر وعظيم واحترام. إلا أننا نأمل أن يستطيع أحد أبناء البلد، وخاصة من الداخل أن يتابع الكتابة عن ((شعب بعد النكبة))، الأمر الذي يعفيني من تعداد عدد كبير من أفاضل أهل البلد الذين تميزوا بالعلم والتجارة والعمل النضالي والأدب والذاكرة وحسن الخلق و..إلخ.

كما أن الشخصيات المختارة في هذا الفصل يمكن القول أنها نوعية وانتقائية، وليس فيها تفضيل أو معايير سوى التميّز (في الخير أو في الشر). لذلك نعتذر لمن لم نذكرهم في هذا المجال. وقد كان بودي الحديث عن إحدى شخصيات القرية (الحسحوس: المشهور بالاحتيال) إلا أنني واجهت عاصفة معارضة آثرت الانحناء أمامها.

 أبو إسعاف القسامي (قائد حامية شَعَب)

إبراهيم علي الشيخ خليل:(1334-...)هـ. (1915-...)م. (1)

المجاهد إبراهيم علي الشيخ خليل (أبو إسعاف)، ولد عام 1915م في قرية شَعَب الفلسطينية قرب مدينة عكا، أنهى دراسته الابتدائية في مدرسة شَعَب، وتوفي والده منذ صغره، فانتقل إلى مدينة عكا ليعمل في وزارة الزراعة وما لبث أن طرد منها بسبب ميوله الوطنية، فانتقل إلى حيفا حيث عمل في سكة الحديد.

تعرف خلال وجوده هناك إلى الشيخ عز الدين القسام، إلا أنه لم يُقبل ضمن جماعة القسام لصغر سنه، ولكنه ما لبث أن انضم إلى جماعة القسام بعد أن قام بعدة عمليات بنفسه دون علم جماعة القسام، ويشير إلى ذلك قائلاً (سألوني إن كان هناك أشخاص يعملون بالعمليات فأجبت بالنفي، وسألوني من الذي ينفق عليك فذكرت لهم، بأنني أبيع حلي زوجتي. فقالوا لا تشتري شيئاً من الأسلحة لأننا سنزودك بالقنابل والمسدسات، وفي اليوم التالي جاءتني أم علي حمادة -زوجة المجاهد القسامي حسين علي حمادة الذي كنت أسكن داره- في يدها سلة من بصل، وقالت احرص على ما فيها، ووجدت فيها ثلاث مسدسات وخمس قنابل يدوية وباشرنا العمل ضمن فصيل ناجي أبو زيد، وكانت أكثر مهماتنا ضرب واغتيال البوليس اليهودي الذي كان ينتشر بالأحياء العربية).

وفي 31-4-1931(هكذا) (2) اعتقل أبو إسعاف في معتقل بيت جليل بحيفا حيث ذاق شتى أنواع العذاب، ثم نقل إلى معتقل المالكية على الحدود الفلسطينية اللبنانية حيث مكث عدة أشهر. بعد خروجه من المعتقل التحق برفاقه القساميين الذين التجأوا إلى سوريا هرباً من المطاردة الإنكليزية، ثم اتجه إلى بغداد وبقي هناك لمدة عام حيث اشترك مع إخوانه الفلسطينيين مع ثورة رشيد عالي الكيلاني في الدفاع عن بغداد ضد الإنكليز، ثم اتجه إلى سوريا ومن هناك إلى تركيا ثم عاد إلى دمشق حيث أقام مع المجاهدين الفلسطينيين لمدة قصيرة، عاد بعدها إلى فلسطين لمتابعة الجهاد، إلا أنه وضع قيد الإقامة الإجبارية في بلدته مع وجوب إثبات وجوده أسبوعياً في عكا أمام حاكم اللواء الإنكليزي، وحينما أُعلن التقسيم أعلن الشعب رفضه لهذا القرار وحمل السلاح لإسقاطه، وكان لأبي لإسعاف دور كبير في هذا المجال، ذلك أنه قام بالاشتراك مع الهيئة العربية العليا بشراء الأسلحة من مصر ونقلها إلى فلسطين، واستطاع بجهوده المتواصلة أن يشكّل فصيلاً كبيراً مع كامل أسلحته في قرية شَعَب حيث قام بهجوم على القوات اليهودية التي احتلت البروة قرب عكا، واستطاع أن يستعيد القرية بعد مقتل عدد كبير من الصهاينة(3).

ومن المعارك التي قادها معركة ميعار ومعركة الدامون، ففي معركة ميعار استطاع قتل عدد من اليهود واحتفظ بجثة العقيد سيغيف قائد المعركة، وقام بتسليم الجثة مقابل انسحاب اليهود من منطقة راس الزيتون التي تبلغ مساحتها حوالي عشرة كيلومترات مربعة وتسليمها للمجاهدين الفلسطينيين(4)؛ إلا أن الأمور سارت بعد ذلك على غير ما يريده شعب فلسطين ذلك بعد انقطاع الذخيرة والمؤن وما يقابله من الجانب الآخر من دعم كامل لليهود بكل أنواع الأسلحة والمؤن أدى إلى سقوط قسم كبير من بيد العصابات اليهودية، فانتقل أبو إسعاف إلى لبنان حيث التحق (على رأس حامية شَعَب) بقوات اليرموك التي كانت تُشكل قبل ذلك جيش الإنقاذ، ومنح رتبة ملازم وعُهد إليه بقيادة سرية شَعَب ضمن القوات، ثم انتقل إلى سوريا حيث انضم إلى فوج أجنادين وعين فيه قائداً للسرية الأولى ومساعداً لآمر الفوج. إلا أن الضعف الرسمي العربي أمام التحديات الصهيونية أبعدته عن خطوط القتال، فاتجه للعمل الزراعي في منطقة حوران، ثم سافر إلى إمارة قطر حيث عمل هناك في دائرة المعارف لمدة اثني عشر عاماً. خلال وجوده في قطر كان يقوم بواجبه الوطني وحينما قامت منظمة التحرير الفلسطينية عُيّن عضواً في المجلس الوطني الفلسطيني، وكان له نشاط فاعل في بعض العمليات التي نفذها الفدائيون الفلسطينيون بعد عام 1965 ضد العدو الصهيوني على أرضنا السليبة.

كما كان له نشاط في بعض العمليات عام 1983 التي استهدفت العدو الصهيوني الذي احتل لبنان عام 1982، ولم يكن يتقاضى مقابل عمله أجراً إنما كان دافعه في كل هذا قيامه بواجب الوطن من كل مخلص ومحبّ لأرضه وتراثه وشعبه. ولا زال أبو إسعاف يقوم بواجبه الوطني قدر استطاعته وقناعته.

 

مقابلة مع أبو إسعاف(5) 

 التجربة الجهادية والاعتقال: 

كنت أعمل في حقل مملوك ليهودي اسمه ((ماكوفيتش))، وفي يوم من الأيام أساء اليهودي لأحد العمال بألفاظ تسيء للإسلام فقمت بضربه وعلى أثرها طُردت من عملي وبعد هذه الحادثة سجنت بتهمة حرق البيادر وكان عمري 11 عاماً. واعتقلت في سن الرابعة عشرة إثر نسف جسر ما بين عكا والسميرية أثناء المظاهرات وحقق معي الإنجليز في سجن عكا ولم أعترف، وأفرج عني. 

 

التعرّف على الشيخ عز الدين القسام:

بعد خروجي من السجن عملت في سكة الحديد، وكنت أسمع عن الشيخ عز الدين أنه عالم وثائر ويعطي دروساً في مسجد الاستقلال، فذهبت أنا وثلاثة من زملائي إلى المسجد، فوجدناه يلقي درساً عن الجهاد فتشجعنا، وبعدها تطرق إلى موضوع مبطلات الوضوء فتفاجأنا، وبعدها عرفنا أن أحد عيون الشيخ أشار إليه بقدوم أحد العملاء. وأخذت أتردد على مسجد الاستقلال لأصلي وأستمع لخطب الشيخ الجهادية، وبعد الخطبة كان يقوم الناس ليسلموا عليه ويقبلوا يديه.

وفي إحدى المرات صافحته وأحسست أنه ضغط على يدي، ففهمت من ذلك أن أتبعه دون أن أمشي معه إلى أن وصلنا إلى بيته، فدخلت وكان هناك ثلاثة رجال، وعندما شاهدوني همّ بعضهم بالخروج فتبعهم الشيخ، وسمعت أنهم يقولون عني صغير أو أولاد صغار فبكيت وقمت، فأمسك الشيخ عز الدين القسام بيدي وتحدث معي كلاماً طيباً، وقال لأحد جلسائه وهو الشيخ محمود زعرورة أنا لي نظرة في هذا الشاب وجلسنا قليلاً ثم انطلقت. وأصبحت أتردد على جلساته القرآنية. 

 

تاريخ جهادي: 

اشتُهر القساميون بعملياتهم الجهادية في شوارع حيفا وأخذتني الغيرة والحماس فاشتريت قنبلة من مالي الخاص ورميتها على مطعم يجلس فيه اليهود والإنجليز وهربت. وفي اليوم الثاني كتبت الصحف: إلقاء قنبلة على مطعم يافا كان فيه عدد من الضباط الإنجليز من بينهم الميجر ((ستوب)). ورميت قنبلة ثانية وكتبت الصحافة أيضاً مجهول ألقى قنبلة على باص يهودي وأصيب بعضهم بجراح خفيفة وانتشرت إشاعة بإصابة 40 شخصاً وعشرة قتلى.. كما نفذت مع إخواني من 7 إلى 11 عملية في مدينة حيفا. 

أما أشهر العمليات التي قام بها القساميون: 

تفجير عمارة مكوّنة من خمسة طوابق بها ضباط إنجليز. 

تفجير عمارة من أربعة طوابق بها ضباط إنجليز. 

عملية الدرج أسفرت عن مقتل اثنين من اليهود وأخذ أسلحتهما. 

معركة بيت جنّ كانت معركة قوية جرح فيها اثنان من إخواننا وأصيب العديد من جنود الاحتلال. 

معركة (جربا) حيث سيطرنا على منطقة يوجد فيها البوليس الإضافي ((العملاء)). ووفق الآية القرآنية قال تعالى {إنما جَزَاءُ الذينَ يُحارِبونَ اللهَ ورسولَهُ ويَسْعَون في الأرض الفسادَ أن يقتّلوا أو يصلّبوا أو تقطّع أيديهم وأرجلُهم من خلاف أو يُنفوا من الأرض}. فكان القسام يقول لهم استخدموا النقطة الرابعة من الآية وهي النفي من الأرض، فأي شخص تثبت عليه تهمة التجسس اكتبوا له رسالة أن يخرج من فلسطين إلى أي دولة، وإن لم يخرج يطلق عليه النار. 

 

رسائل

أقول للمجاهدين في فلسطين، إن اسم كتائب الشهيد عز الدين القسام له أثر كبير في نفوسنا، فهي تعمل ضمن العقيدة الإسلامية، فأنا أقدرهم ولهم مني كل الاحترام والتقدير، وأدعو الله أن يحفظهم ويحفظ كل المجاهدين الذين يحملون العقيدة الإسلامية. كما أوجّه لهم نصيحة وأقول لهم إن اليهود يقاتلوننا بعقيدتهم وعلينا أن نقاتلهم بعقيدتنا الإسلامية حتى نستطيع أن نقف أمامهم. 

أما الأسرى والمعتقلين، فهم زهراتنا وهم شبابنا وهم طلائعنا، والرائد لا يكذب أهله، وصبروا صبراً شديداً وحملوا مشاق العدو وحملوا مشاق الصديق. 

وفي نهاية حديثي أسأل الله سبحانه وتعالى أن يميتني مجاهداً.

اللهم أحينا سعداء وأمتنا شهداء. 

 

وأضاف (كتاب فلسطين تاريخاً ونضالاً) ما يلي: 

يُذكر أن أبو إسعاف كان في المنشية قبل مجيئه إلى شَعَب، كانت أخته خضرا تساند الحامية بالماء والذخيرة، وكانت مثلها نجمة العبد الله (أم يوسف حسون)، والدة الشاعر الشهير وشقيقة الشهيد محمد العبد الله. وكان من جماعة الحاج أمين وجاء إلى شَعَب بعد رحلته إلى ليبيا وإحضاره أسلحة للمدن المحاصرة ولما وجدها سقطت توجه بها إلى شَعَب.(6)

وذكر لي الشيخ زهير الشاويش(7) أنه كان في حي الميدان الدمشقي يرى عدداً من الشخصيات الفلسطينية التي كانت تَفِدُ إلى دمشق للدعم والتنسيق، ومن هذه الشخصيات شخص يقال له أبو إسعاف.

توفي أبو إسعاف في العام 2002 في منزله في منطقة البرامكة بدمشق.

 

 

مصطفى ونجيب الطيار (المتكاملان):

لا يمكن الكتابة عن أحد هذين الشخصين دون الكتابة عن الآخر، فهما كانا متكاملين في الموقع والحياة. وكان لهما دور مشهود في مقاومة حامية شَعَب.

 

مصطفى الطيار

ولد مصطفى الطيار في شَعَب عام 1910، وتعلم في كتّاب القرية القرآن الكريم، وفي السادسة عشرة من عمره عين شرطيَّ صواري في عدة قرى من الجليل. وكان في الوقت نفسه يعمل في شَعَب في فلاحة الأرض وزراعة القمح والزيتون، ويربي النحل ويبيع العسل.

تزوج مرتين، المرة الأولى كانت في فلسطين، من فاطمة العبد (خوالد)، وأنجبت له سعاد، وانتقل من بيت أبيه إلى منزل كبير في أول القرية (راجع ملحق الصور). وفي المرة الثانية كانت في لبنان من هدية فاعور، وله منها عفاف وبهاء ونهى وعبد الحليم ومهى وخزنة وأكرم وأحمد ومحمد.

كان من أوائل من اقتنوا الراديو في شَعَب، نظراً لاهتمامه بالسياسة والأحداث المتعاقبة التي كانت تنذر بسوء المستقبل.

وفي حديثنا إلى عدد من أفراد حامية شَعَب الباقين على قيد الحياة، أجمعوا على شعبيته وقيادته وشجاعته وذكائه في إدارة الأمور، وقد كان الرجل الثاني في قيادة الحامية بعد أبو إسعاف، بل ويشير البعض إلى كونه القائد الميداني للحامية في المعارك، حيث أن أبو إسعاف كان القائد العام (وهو وإن كان مثل أبو إسعاف، إذ لم يكن ذا عائلة كبيرة وعزوة في البلد، إلا أنه لم يخرج طويلاً منها، كما حدث مع أبو إسعاف الذي قضى طفولته وشبابه غائباً عن شَعَب، وعاد إليها في أواسط الأربعينات).

وفيما ساهمت علاقات أبو إسعاف مع الحاج أمين الحسيني في تأمين الدعم اللوجستي والسياسي للحامية، ساهمت خبرة ورتبة مصطفى الطيار العسكرية في توحيد رجال الحامية تحت راية خبير في المعارك، خاصة حين كان في مقدمة المشاركين في معركة البروة. بل إن قيادته هذه ساهمت في زيادة شعبيته بين رجال الحامية. ولم يكن بعد خروج الحامية من فلسطين يشيد ببطولات الحامية، ولكنه كان يتحسّر على موقف العرب وتخاذل الأصدقاء، وكان يعتبر أنه كان يمكن للحامية أن تصمد أكثر لولا أن هناك أمراً دُبّر بليل.

وحين حوّلت حامية شَعَب إلى سرية صلاح الدين في فوج أجنادين، رفض أن يعطى رتبة حسب مزاجية قادة الفوج، وانتظر حتى استطاع إحضار أوراقه التي تثبت أنه كان ذا رتبة في الشرطة، وعين في الفوج ملازماً، ونائباً لقائد السرية. 

ويبدو أنه رأى أن تواجد السرية في سوريا، وسحب أسلحتها منها أفقدها مبرر وجودها، وأن من المنطق أن تعود السريّة إلى الحدود وليس إلى مناطق بعيدة عن فلسطين. وقدّم استقالته بعد إشكالات مع بعض القادة وعلى رأسهم قائد الفوج.

ومما يدل على شعبيته في الحامية أن معظم أبناء شَعَب في السريّة قد تركوها بعد تركه لها.

وعاد إلى لبنان، وسافر إلى السعودية، حيث عمل في شركة أرامكو، لمدة ست سنوات، ثم عاد إلى لبنان حيث كان قد اشترى منزلاً على طريق السكة قرب الحسبة في صيدا، ومنزله وإن كان يعتبر سياسياً ضمن مخيم عين الحلوة، إلا أنه عقارياً خارجها. وقد عمل في منزله في تربية النحل وبيع العسل، إلى أن توفاه الله عام 1979.

حافظ على كثير من ذكرياته في شَعَب، وقد زوّدنا أبناؤه بعدد من الصور الملحقة، وذكر لنا ابنه أكرم أنه كان يحتفظ بمواد ووثائق قيمة منها الخريطة العسكرية لمعارك شَعَب، وقد رُسمت على ورق كتّان، وكان يستعان بها في القصف والقتال، وعليها الخطط العسكرية التي اتبعت في المعارك، إلا أنها فقدت إبان الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982.

 نجيب الطيار:

من مواليد شَعَب في 11/2/1920 (كما أورد في مذكراته)، درس في عكا ثم تعلم في الكلية العربية في القدس، التي لم تكن جامعة، ولكنها كانت أرفع كلية في فلسطين آنذاك، ومنتهى شهاداتها هي المتروكوليشن (اعتاد أهل القرية على تسميتها ماتريك) التي تؤهل حاملها لدخول الجامعة.. وهذا ما كان يحدث مع مثقفي فلسطين، الذين كانوا يحضّرون للجامعة فيها، ثم يرحلون في طلب العلم إلى بيروت أو القاهرة حيث الجامعات الأجنبية.

علّم في عدد من القرى في الجليل، منها الدامون وشعب، وبعد النكبة علم في سوريا بعد عناء البحث عن عمل (كتب في مذكراته يومها، يا للسخرية بعد أن كنا نركض وراء القضايا الكبرى في دمشق، ها نحن اليوم نركض خلف الوظيفة). درّس في (يبرود)، وكاد في تلك الفترة أن يتزوج لكنه عدل عن الفكرة نهائياً، حيث سافر إلى ليبيا، وأخيراً حطت به الأمور في تونس حيث كان يكتب في عدد من الصحف التونسية، ويدرّس في بعض كلياتها، إلى أن توفي عام 1981 هناك.

عمل أثناء الدراسة في تربية النحل في شَعَب، وشارك في حامية شَعَب مشاركة فعالة، حيث تكامل مع أخيه الأكبر مصطفى في العمل في الحامية. ففي الوقت الذي كان فيه مصطفى نائباً لقائد الحامية وقائداً ميدانياً لها، كان نجيب أشبه بالمسؤول السياسي والإعلامي لها، حيث كما يبدو من مذكراته أنه كان يردّ ويوضح الموقف في الجبهة في عدد من الصحف، حتى أثناء زياراته لدمشق حيث كان يكتب في صحفها.

وكان في سفره إلى دمشق يقوم بجمع التبرعات والأسلحة لصالح الحامية، وسيلاحظ القارئ في القسم الثاني من الكتاب، دور نجيب الطيار في حامية شَعَب. 

إن أهم ما يتميز به نجيب الطيار هو الدقة في تنظيم شؤون حياته، ففي دفاتره الخاصة تجد مذكراته القيمة وحساباته الدقيقة، مثل مداخيله ومصاريفه اليومية على مدى سنوات، وتلخيصها في صفحة واحدة بطريقة مذهلة، وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على دقة هذا الرجل وتنظيمه في شؤونه الخاصة والعامة.

 سعيد صالح عبد الهادي الأسدي (الفلسطيني)

اسمه في شَعَب سعيد الصالح. اسمه عند المختار سعيد الأسدي. اسمه في الهوية سعيد صالح عبد الهادي. اسمه في مواقع النضال الفلسطيني من عام 1936 إلى 1982 وحتى وفاته في عام 1997 أبو صالح. 

من كبير أسفي أنني لم أعرف هذا الرجل شخصياً، مع أن كل من كلّمته عن كتاب شَعَب يقول لي من الخسارة أن لا تكون قد قابلت أبو صالح. 

بعد كل الذي قرأته عنه والمعلومات التي جمعتها، لم أجد له لقباً يشبهه، ويكون مثله في خانة السهل الممتنع إلا ((الفلسطيني))، فكلنا فلسطينيون ولكن أكثر من يستحق اللقب مع ((الـ)) التعريف هو أبو صالح. هو الوحيد الذي سخّر حياته ورهنها للقضية. هو الفلسطيني الحقيقي الذي لم يكلّ ولم يملّ منذ ثورة 1936 حتى اجتياح 1982 عن حمل السلاح.

كان كنزاً أدبياً رغم أنه ليس أديباً، وكان راوية رائعاً ولم يكتب حرفاً وكان.. وكان..

الشهيد غسان كنفاني كان يزوره دائماً، ولأنه ((الفلسطيني)).. كثيراً ما كان كنفاني يستخرج منه القصص والحكايات، ولئن كان كنفاني قد خصّه بقصة ((العروس)) المثبتة في ملاحق الكتاب، فإن عدداً من القصص كما علمت من بعض العارفين بالأمر، قد سمع أطرافها من فم أبو صالح.(8)

غير أن من أهم ما كُتب عن أبو صالح كان رواية ((باب الشمس)) التي كتبها إلياس خوري وأصدرها في العام 1998، في الذكرى الخمسين للنكبة. وكانت هذه الرواية من أكثر الكتب مبيعاً في ذلك العام.

ورواية ((باب الشمس)) إن كانت تناولت النكبة عبر قصة بلدة شَعَب وحاميتها، فإن من ألهم إلياس خوري بحبكتها كان ذلك ((الفلسطيني)) أبو صالح، حيث تبدأ القصة من حيث انتهى أبو صالح، في مستشفى الهمشري في غيبوبة الموت الأخيرة على سرير يجلس قربه الممرض الذي يحكي القصة.. ووجّه إلياس خوري أول شكر للمساهمين في إنجاز العمل، في خاتمة الرواية لسعيد صالح عبد الهادي. كما أن تعريف الكاتب بالقصة وخيطها الروائي السردي كان عن أبو صالح الذي سمته الرواية ((يونس))، فتحدث عنه وعن علاقته بزوجته ((منيرة)) التي سمتها الرواية ((نهيلة))، كتب ذلك في الغلاف الخارجي الأخير من الكتاب:

نهيلة الأولى، كانت زوجته الصغيرة التي لم يعرفها، لأنه كان في الجبال مع المجاهدين.

نهيلة الثانية، كانت المرأة الجميلة التي ولدت في مغارة باب الشمس، وهي تدعس على حبات العنب، وتتزوج زوجها.

نهيلة الثالثة كانت أم إبراهيم الذي مات.

نهيلة الرابعة، كانت أم نور، التي التصق بها يونس في المغارة، وصار يدعوها أم النور، كلما أتته والضوء يشع من عينيها.

نهيلة الخامسة، كانت بطلة المأتم، التي خرجت من السجن لتعلن موت زوجها، وتتشحّر أمام الناس.

نهيلة السادسة، هي أم كل هؤلاء الأولاد، الذين يملأون ساحة دير الأسد.

في تلك الليلة ولدت نهيلة السابعة.

نهيلة السابعة تعبت من التعب. امرأة وحيدة وفقيرة.

نذكر هنا أن المخرج المصري يسري نصر الله قد بدأ أواخر العام 2002، بإخراج فيلم سينمائي مأخوذ من رواية ((باب الشمس))، وشارك في مهرجان كان 2003 للسينما، ثم عاد وأتم الجزء الثاني من الفيلم وتم عرضه في أكثر من مهرجان دولي ونال عدة جوائز.

أما ما كانت تقوله هي عن هذه الأحداث وعن اختبائه في المغارة التي سماها إلياس خوري ((باب الشمس))، فيدلنا عليه ما كتبه إبراهيم نصار في حفل تأبين أبو صالح في أربعينه في قرية ((دير الأسد)):

كان يحمل السلاح عندما تعزّ الطلقة ويخترق الحدود.. يوزع السلاح ويزرع طفلاً، وهكذا أنجب معظم أبنائه. هو في المنفى وأم صالح في الوطن، وبينهما الحدود المزروعة بالنار والموت. لن يتردد. كان يراوغ زخات الرصاص وينجح، أرهق حرس الحدود وأتعبهم في كل رحلة يودعه الرصاص من خلف ومن أمام، ويستقبله من خلف ومن أمام.. قدرته مدهشة على التآلف مع الموت والخطر.. المهم أن يصل السلاح وأن يزرع طفلاً.. وتضحك أم صالح من أسئلة الجنود الغبية.!

من أين لك هذا الطفل؟!

من أبو صالح!!

وهل كان هنا؟!

نعم بالتأكيد، وسيعود قريباً. لأننا اتفقنا على إنجاب أطفال ستة، ولم يكتمل العدد بعد (تقول متباهية).

ولكن كيف؟!

يا لكم من حمقى!

ألا تعرفون كيف ينجب الأزواج أطفالهم! بالحب الجميل! ما بين زخة الرصاص الأولى والتي تليها.

    ولأنه ((الفلسطيني)).. فإنه كان صاحب أول رسم محفوظ للفنان ناجي العلي. 

فمن هو أبو صالح؟

ولد سعيد صالح عبد الهادي الأسدي، في قرية شَعَب عام 1918، وشارك في ثورة عام 1936 ضد الاستعمار البريطاني والصهيوني.

وكان في الصفوف الأولى في حامية شَعَب أثناء نكبة 1948، وخرج من فلسطين تاركاً زوجته التي رفضت أن تترك والديه المُسنَّين وحدهما في فلسطين، وأقامت معهما هناك. استقرت عائلته بداية الأمر في دير الأسد، ودون علم سلطات الاحتلال كان شبه مقيم هناك، وكان تواجده في فلسطين أكثر من تواجده في لبنان. ذلك أنه لم يكن قد قرر القبول بالتشتت، إلى أن بات صعباً عليه التردد إلى هناك، واستقر نهائياً في لبنان منذ عام 1956.

أقام في مخيم عين الحلوة، وهناك عمل وكيلاً لبساتين حمضيات، وكان ممن عمل معه الشهيد ناجي العلي(9)، كما ذكر محمود كلّم في كتابه ((ناجي العلي: كامل التراب الفلسطيني)). وكانا رفيقين أيضاً في حركة القوميين العرب التي كان أبو صالح من جيل التأسيس فيها. غير أن ناجي العلي لم يكن ينضبط بمواعيدها الدقيقة، مما أدى إلى فصله ثلاث مرات.

سجن عدة مرات في السجون اللبنانية بسبب مواقفه الوطنية، وكان مع ناجي العلي في زنزانة واحدة في سجن أبلح في شهر آذار من عام 1961، وما زال الرسم الذي رسمه له ناجي العلي في ذلك السجن يعتبر أول رسم محفوظ له. يومها رسمه على علبة سجاير (راجع ملحق الصور)، حين علقه سجانه على شباك السجن، والرسم عبارة عن بورتريه لوجه أبو صالح، معلقاً على صليب ومحاطاً بالهلال.(10)

وكان من الرعيل التأسيسي الأول للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وأحد قادتها، شارك في معارك أيلول الأسود في الأردن، وأصيب في رجله وأرسل للعلاج في الاتحاد السوفياتي لمدة ثلاثة أشهر. 

شارك في الدفاع عن الجنوب اللبناني في اجتياح عام 1978، فيما سمي لاحقاً ((عملية الليطاني)). 

في الاجتياح الصهيوني للبنان عام 1982، شارك في المقاومة، وكان في الرابعة والخمسين من عمره. واعتقل في معتقل أنصار بعد معاناة من نظره بسبب تنشّق غازات أطلقت عليه أثناء المعارك. وبقي نزيل معتقل أنصار عامين كاملين، خرج بعدها إلى صفوف المقاومة كما كان في البدء. 

عاش قرابة الخمسين عاماً بعيداً عن عائلته وأولاده، وزوجته التي رفضت ترك أهله ورفضت الطلاق، وبقيت على عهده وبقي هو كذلك لم يتزوج ثانية.

في كانون الثاني من العام 1997م، أصيب بعارض صحي، نقل على أثره إلى مستشفى الهمشري في صيدا، وبقي فيه حتى وافته المنية في 28-1-1997م.

أما أيامه الأخيرة، التي بها بدأت رواية ((باب الشمس))، فقد عبرت عنها رسالة مؤسسة الشهيد غسان كنفاني أرسلتها عائلته، وقد تُلِيتْ في حفل تأبينه بمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاته:(11) 

عائلة أبو صالح

تحيات حارة لكم جميعاً في ذكرى الصديق العظيم

كان أبو صالح صديقاً رائعاً وشخصاً عظيماً.

أنا وأطفالي ((تريز وليلى)) اعتدنا احترامه وتقديره.

كان محارباً شجاعاً وشريفاً من أجل حقوق وحرية شعبه بالعودة إلى فلسطين، وبالرغم من سنه وعمره كانت فيه روح الشباب الجميلة.

أرسل لكم صورتين لأبي صالح في الذكرى الرابعة والعشرين لمؤسسة غسان كنفاني في الثامن من تموز 1996.

لقد زرته في المستشفى في الثاني من كانون الثاني 1997، وكان مملوءاً بالحيوية والحياة، وتحدث عن الناس، عن الكفاح، عن فلسطين. عن العائلة وعن قاسم أبو ماهر وأصدقاء آخرين والسنوات التي مرت، وهو يمزح ويضحك، وعندما تركته في ذلك اليوم شعرت بالارتياح وتطلعت إلى الأمام لأراه ثانية في زيارتي القادمة إلى صيدا.

في 24-1-1997 ذهبت إلى المستشفى في صيدا، وسمح لي أن أرى أبو صالح من خلال شباك غرفة العناية المركزة، لكن لم يحالفني الحظ أن أحدثه مرة ثانية.

كل أهالي عين الحلوة والمخيمات الأخرى أحبت أبو صالح وشيعوه إلى القبر ليودعوه الوداع الأخير.

سيبقى دائماً في عقول وأفكار الناس.

أطفال الروضة في عين الحلوة سيزورون قبره ويضعون الورود عليه.

مع تحياتنا

تريز وليلى

 

لقد بقي سعيد صالح عبد الهادي (أبو صالح) يجسد صورة الفلسطيني الحقيقية، الذي ولد في فلسطين، وشهد ثورة 1936 ونكبة 1948، وشارك في معارك الدفاع عن قريته بشراسة، وبقي يتردد إلى فلسطين كلما شدّه الشوق إليها، وشارك في المعارك كلها، وحمل الهم القومي إلى جانب همه الفلسطيني، واعتقل لدى العدو، وبقي حتى آخر يوم من حياته لا يصدق أنه سيموت.

فكيف سيتحمل بعد كل هذا النضال أن يموت بعيداً عن فلسطين. مات أبو صالح لكنّ رايتَه لم تسقط، ستبقى خفاقة حتى تُزرع على ربى فلسطين من جديد.

 

حادي فلسطين يوسف حسون (أبو العلاء)

شاعر القضية الفلسطينية (12)

بقلم: أحمد الحاج علي

في العام 1928 كانت قرية شَعَب وفلسطين على موعد مع ميلاد شاعر من كبار شعراء فلسطين أحيا بشعره تراثاً فلسطينياً كاد أن يندثر وصنع ألواناً فنية عديدة أصبحت تراثاً للشعب الفلسطيني فيما بعد؛ إنه الشاعر الفلسطيني الكبير يوسف حسّون (أبو العلاء). عرف أبو العلاء كبقية الفلسطينيين شظف العيش ولكن ذلك لم يثنِهِ عن المثابرة لنهل المعرفة وطلب العلم. فدرس في مدرسة شَعَب، ولكن لم تكن المدرسة سبيله الوحيد لطلب المعرفة، فعقله واستيعابه كانا أكبر بكثير من أن ينحصر في منهاج دراسي محدّد، فكان يلتهم الشاعر يوسف حسّون كل ما يقع بين يديه من كتب وكرّاسات. وممّا يحكى عن طفولته أنه نزل وابن عمته إلى مدينة عكا وباع بقرة تخص أبيه، وكل ذلك ليشتري كتباً يثقف فيها نفسه فكانت ثقافته بجهد شخصي جبار منه. ولم يكن غريباً على من كانت الثقافة والمعرفة دأبه وغايته أن يقول الشعر وينظمه نظماً عجيباً ولم يبلغ الثالثة عشرة من عمره بعد.

ومن أولى القصائد التي ذاع صيته من خلالها قصيدة يمدح فيها شيخ الطريقة الشاذلية والتي كانت منتشرة في شَعَب وقتذاك. وكان من شدة تعلقه بالفن والعزف أن يضع الأسلاك بجانب بعضها ويعزف عليها ليحدث نغماً جميلاً. 

وكان يوسف حسون في طفولته يواظب على الأعراس التي يحضرها كبار الشعراء، وخصوصاً تلك التي كان يحضرها الشاعر أبو سعيد الحطيني، أشعر شعراء الزجل في ذلك الوقت. وفي أحد أعراس شَعَب سنة 1942، وبينما كان الحضور يتحضّرون لسماع الشاعر أبو سعيد الحطيني صاح الشاعر يوسف حسون من بين الحضور، وكان لا يتجاوز الثالثة عشرة، ببيت عتابا أثارت إعجاب الحاضرين:

حبيبي جهد ما يبعد بعيدو (البعد)
نغم لو كل ما عجبني بعيدو (الإعادة)
وضحية إن كان لازملو بعيدو (العيد)
أنا الضحية لأجل عينو والهداب
 

وما إن سمعه الحطيني حتى انتفض من مكانه وقرّبه إليه وأجلسه إلى جانبه وقال: إن العتابا في فلسطين بألف خير، والتفت إلى يوسف حسون وقال: تابع معي. وصار يأخذه معه إلى الأعراس، ممّا أعطى الشاعر يوسف حسون قوة معنوية كبيرة كان بحاجة إليها، ومن شدة رواجه قال له الشاعر الحطيني مازحاً: ركّبناك على الحمار مدّيت إيدك على الخرج، وأردف قائلاً وبإعجاب: اشهدوا بشاعرية هذا الطفل، وأحسّ يوسف حسون بمكانته بين الشعراء ممّا حدا به أن يستعير (قمباز) جدّه، وذاعت شهرته على مستوى الوطن. 

الوجود الصهيوني في فلسطين كان أكثر ما يثير حمية وغيرة هذا الشاعر المرهف الحس، فشارك الشاعر بالقتال مع حامية شَعَب والذود عنها خلال نكبة 1948، وكان لخروجه من شَعَب  التي أحبها وبنى فيها أجمل أيام طفولته وشبابه شديد الأثر عليه ممّا دفعه لأن ينظم قصيدة من أجمل القصائد التي وصفت النكبة وتأثيرها على أهل فلسطين وهي قصيدة (مرسال فلسطين) التي بين أيدينا..

بعد النكبة درس الموسيقى في الكونسرفاتوار الوطني اللبناني. وأثناء وجوده في بعلبك أصبح أبو العلاء واحداً من أهم المراجع الثقاة في الشعر الشعبي وخاصة العتابا، فكان يزاجل الشعراء اللبنانيين الذين كانت تربطه بهم علاقة قوية، وكان يكتب في بعلبك بمجلة (بنت العرزال) لمؤسسها حسين سلمان.(13)

نشر يوسف حسون قصائد في مجلة (بنت لبنان) سنة 1949، ومجلة (الثأر) الفلسطينية سنة 1952. في العام 1955 كتب قصيدة (نشيد فلسطين)، وقدم عدة برامج إذاعية عبر إذاعة صوت فلسطين من القاهرة أوائل الستينات منها (فلاحين بلدنا) في 65 حلقة و(أبو عودة). و(فلاحين بلدنا) كانت تدور حول موضوع وطني بطريقة تمثيلية. 

ذهب أبو العلاء إلى مصر ونال شهادته من هناك، ولكن عند عودته رفضت الأنروا توظيفه لغياب (الواسطة)، وكان مدير التعليم من عائلة فرح فكتب يوسف حسون قصيدة قال فيها:

جنوا على العلم والتعليم واجترحوا        لما قضوا أن يولّى فيهما فرح

ما أنصفوا العلم بل زادوا مصائبه   ويح الوكالة بئس الرأي ما اقترحوا

وأخذ القصيدة إلى دياب الفاهوم وهدّدهم بالنشر، وعلى إثرها وظفوه مع شقيق زوجته. وكان أبو العلاء متفانياً في التدريس حتى أنه كان يجلب الطلاب في الليل ويضيء لهم اللوكس، ليعطيهم الدروس ويعلمهم بعضاً من حب فلسطين وعشق المعرفة. وأصبح مديراً لمدرسة القادسية في الرشيدية ثم مدير مدرسة المجدل في تل الزعتر ومن ثم انتقل إلى الدامور.

في العام 1976 بدأ أبو علاء يقدم برنامجاً إذاعياً في إذاعة ((صوت فلسطين.. صوت الثورة الفلسطينية)) هو الأشهر في تاريخ الثورة الفلسطينية (غنّى الحادي) في 104 حلقات إلى أن وافته المنية. وقد اشتُهر مطلع هذا البرنامج الذي يقول فيه:

غنى الحادي وقال بيوت       بيوت غناها الحادي

سدوا الدرب منين أفوت       أفوت وأقدر بعنادي

فوق التل وتحت التل      وبين الوادي والوادي

مين تسأل عنا بتندل       بتلقاني وتلقى ولادي

 

وكذلك اشتهر أبو العلاء بـ ((يا حلالي يا مالي)) والتي فيها:

جينا على اســم الفدا       نعطي الجمـاهير اليقين

بشمالنا غصن الزّتون       البنـــدقية باليميــن

 

 ولم يكن من خلال هذه البرامج فناناً عادياً بل كان حاملاً لهمّ سياسي، وكرّس برامجه لخدمة القضية، وكان يستعرض بعض الأحداث والمواقف شعراً، كما في القصيدة الشهيرة عن غولدا مائير، التي أُشيع أنها كانت تقول إنها تشعر بالنار تشتعل فيها كلما ولد طفل فلسطيني، وتتمنى أن ترفس كل امرأة فلسطينية حامل على بطنها لإسقاط جنينها:

في مرة قالت مائير           كلمة عنا بتعنيها

كل ما يخلق طفل صغير     نارو بتشعلل فيها

ققد أنشد ((الحسون)) الشروقي والعتابا والميجانا ولم تغِب الأرض عن كل قصائده. لم ينسَ أبو العلاء المعتقلين والمعتقلات في السجون الإسرائيلية وكان يذكر أسماء بعضهم في أغانيه الشعرية، وكذلك غنى للمقاتلين وتغنّى بالبندقية، خلّد في شعره معركة الكرامة ويوم الأرض ومجزرة دير ياسين وتل الزعتر وجنوب لبنان، لقد كان مؤرخاً صادقاً لعمليات الثورة الفلسطينية، وانتقد كامب ديفيد بأسلوبه الساخر. وكان أبو العلاء يشارك في العديد من المهرجانات العالمية كمهرجان برلين في العام 1977 والذي حظي فيه الشاعر باحتفاء قل نظيره، ومهرجان قطر، وقدّم أبو العلاء في مهرجان رام الله (قبل العام 1967) أوبريت وطنية. وكان الشاعر لشدة حماسه الوطني يقيم العديد من المهرجانات لصالح الثورة الفلسطينية، ومن تلك المهرجانات مهرجان في الجامعة العربية شارك فيه المطرب اللبناني نصري شمس الدين والمطربة سميرة توفيق. وغنى شمس الدين له:

يا طير يا طاير على فلسطين بكّير صبحها ومسّيها

سلم عليها وقلها جايين                جايين نحرّر أراضيها

 

وغنت سميرة توفيق للشاعر:

حرّروني يا رجالي            وافتدوني بكل غالي

تعامل الشاعر مع العديد من الملحنين منهم: صبحي أبو لغد، عفيف رضوان، زكي ناصيف. ومن الفنانين الذين تعامل معهم: نصري شمس الدين، سميرة توفيق، فايزة أحمد، سعاد هاشم، سمير يزبك، فهد بلاّن، غازي الشرقاوي. كما كان مرجعاً ومراجعاً لغوياً للعديد من الشعراء أبرزهم الشاعر الفلسطيني معين بسيسو. 

وفي 24/10/1979 توقف قلب الشاعر عن الكلام، وفي اليوم التالي خرجت جماهير الشعبين الفلسطيني واللبناني تودّع الشاعر الثائر يوسف حسون (أبو العلاء) في موكب مهيب انطلق من أمام مسجد الجامعة العربية ليوارى الثرى في مقبرة شهداء فلسطين. وقد أعلنت الأنروا والمؤسسات الفلسطينية إضراباً عاماً حداداً على روحه. وممّا يؤسف له أن العديد من مغنّي اليوم ينسبون لأنفسهم العديد من الأبيات التي أبدعتها عبقرية أبو العلاء.


أحمد الحلبي (الطبيب المزعوم)

ليس لدينا الكثير عن هذا الرجل المبهم، جاء إلى البلد وسكن في أول البلد (من جهة الغرب) وفي أحد أعلى بيوتها المشرفة على القرية(!)، في منزل خليل الشيخ خليل في ((كرم المقرة)). 

وقد قيل إنه طبيب، وكان يداوي أهل البلد، ولكنه كثيراً ما كان يتعرض للإحراج عند سؤاله عن ماضيه، وعن علمه، وكان يبدو في كلامه الكذب والشك، وسأله ذات مرة طبيب في البِعنة من آل الخازن من أي الكليات الطبية تخرجت؟ فتهرب من الإجابة، وذات مرة أعطى إبرة بنسلين بالوريد لأحد المرضى، وكاد يتسبب بمقتله، وهكذا كان الأمر بالنسبة للعلاج الذي كان يقوم به.

قيل عنه (يا دوب كان ممرض)، سكن في منزل بطرف البلد، بعيداً عن أعين الناس، وبقي مجهولاً بالنسبة للكثيرين منهم، إلى أن حدثت النكبة. ولا يذكر أحد أين كان أثناء معارك حامية شَعَب مع العدو.

بعد سنوات من النكبة، نقل أحد زوار البلد من الشتات، أنه رأى (الدكتور!) أحمد الحلبي في مدينة عكا بعد سقوطها بسنوات، وأنه ضابط في الاستخبارات الصهيونية، كان من اليهود العرب الذين قدموا إلى فلسطين لخدمة المشروع الصهيوني، وكان يتكلم العربية جيداً فتم زرعه في القرية

 المرجع: كتاب شعب وحاميتها للأستاذ ياسر علي